الصدمة النفسية وتعب الرحمة أو الشفقة Compassion Fatigue في أخصائي الصحة النفسية في الوطن العربي:
قضيت عام 2013 في إجازة دراسية من عملي كطبيب نفساني استشاري في المملكة المتحدة. قضيت السنة في منطقة الشرق الأوسط في البداية لرؤية الأصدقاء والأسرة إلا في النصف الثاني من السنة أنا عملت في البداية في مخيمات اللاجئين السوريين ولكن بعد ذلك عملت مع برنامج المساعدة الإنسانية (HAP) في المملكة المتحدة وأيرلندا لتعليم العاملين في مجال الصحة النفسية في منطقة الشرق الأوسط وعلاج الصدمة النفسية الإمدر (EMDR). اجتماعي من خلال هذا البرنامج بالعديد من مهنيي الصحة العقلية الذين يرون ويسمعون ويعالجون قصص الصدمات اليومية جعلتني أدرك أهمية ما يسمى بتعب الرحمة أو الصدمة الثانوية. لقد جمعت معلومات عن هذا الموضوع في محاولة لمساعدة المهنيين في التصدي لعلاج مثل هذه الصدمات النفسية.
على الرغم من أنه هناك للصدمات مصطلحات واضحة ومحددة في اللغة الإنجليزية فالحالة ليست بمثل هذا الوضوح كما في الترجمة العربية والفهم الثقافي للمصطلح. وتستخدم الصدمة في اللغة العربية عند المواطنين بما يعني ضربة مفاجئة ولكن تستعمل مهنيا كترجمة لـ Trauma. إنها مشتقة من جذر الفعل صَدَمَ بما يعني الضرب أو الاصطدام. ومع ذلك، وعلى الصعيد العام تستخدم ووفقا لمدى خطورة وعواقب الصدمة. فعلى سبيل المثال في دراسة للفلسطينيين الذين يعيشون في ظل حالة الصراع المستمر مع الجيش المحتل في قطاع غزة، وجد أن الفجيعة والمصيبة تستخدمان أيضا لوصف الأحداث الصدمية. وتستخدم الصدمة شعبيا لوصف الأحداث المؤلمة التي تحدث فجأة. من ناحية أخرى الفاجعة تستخدم لوصف رد الفعل لحدث استثنائي ترتبط أساسا مع فقدان أحد أفراد الأسرة. المصيبة تصف الأحداث المؤلمة المستمرة والتي لها آثار طويلة الأجل (Afana, 2012).
مثل هذه الأحداث مهما كانت الطريقة التي ترد تسميتها يمكن أن تسبب اضطرابات في وظائف الجسم والعقل التي يمكن تعطيلها (New, Keegan & Charney, 2007) . ويمكن أن تسبب اضطرابات نفسية متنوعة من رد فعل مؤقت مثل الاضطراب الكربي الحاد إلى القلق والاكتئاب واضطرابات الجسدنة أو اضطرابات وظائف الجسم إلى اضطرابات أشد مثل الاضطراب الكربي التالي للصدمة وأعراض التفارق. وقد عرف الاضطراب الكربي التالي للصدمة في نظم التصنيف السريرية العالمية المختلفة من خلال مجموعة محددة من الأعراض وتشمل أعراض اضطراب ما بعد الصدمة. وتشمل هذه؛ إعادة اجترار ذاكرة الصدمة في شكل أفكار أو صور أو مشاعر وكذلك الانسحاب الاجتماعي والتبلد العاطفي وأخيرا زيادة الاستثارة والتهيج والأرق.
سوف نعطي لتوضيح الآثار المعوقة للتعرض للصدمة الشديدة بتاريخ حالة مرضية من الوطن العربي. ضابط الدفاع المدني في حلب أنقذ بصورة بطولية ثلاثة من خمسة أطفال من مبنى محترق كان قد تعرض لقصف. ولقد اعتبر المجتمع الحلبي هذا الرجل بطلا ولكنه دمر بالكامل بسبب صدمة عدم تمكنه من إنقاذ جميع الأطفال في ذلك المبنى. إنه انسحب من المجتمع وتوقف عن الذهاب إلى العمل وأصبح عدوانيا لعائلته بما جعله يفقد دعمه الاجتماعي المتبقي الوحيد. إنه تعرض للتعذيب النفسي بإعادة اجترار صور الأطفال القتلى ليلا ونهارا بما جعله غير قادر على أن ينام أو أن يعيش حياته في البيت أو العمل.
من المهم للناس المتعرضين للصدمات أن يفهموا تأثير الصدمات التي لا تفرق بين شخص قوي أو ضعيف. وقد أظهرت الأبحاث العلمية أن قوة الصدمة والتعرض التراكمي المتكرر للصدمة يمكن أن يسبب اضطرابات ما بعد الصدمة حتى في أقوى الأشخاص وأكثرهم مناعة. وهذا بدوره يمكن أن يسبب التغيرات الفيزيائية والكيميائية العصبية في الدماغ التي تسبب الاضطراب (New, Keegan & Charney, 2007). إن الخبرة السريرية تظهر لنا بأن الاضطراب الكربي التالي للصدمة يظهر متأخرا نسبيا إما على شكل مشاكل الصحة العقلية المعروفة مثل الاكتئاب والقلق أو على شكل عدم قدرة الشخص على الاحتمال والتي يعتبرها الشخص كضعف حتى أنه قد يرفض طلب المساعدة. وسبب ذلك عدة عوامل منها الخوف من الوصمة في المجتمع المهني ويصبح الشخص في مأزق كونه غير قادر على التعامل ولكنه يحاول الظهور بمظهر البقاء في السيطرة (Brewin, 2003, P81).
إن العلاج النفسي للصدمات مؤلم ليس فقط للمريض بل أيضا للمهنيين بما يضعهم على اتصال مباشر مع خبرات وقصص الحدث أو الحالة الكربية وهو 'ذو طابع يحمل صفة التهديد أو الكارثة الاستثنائية وينتظر منه أن يحدث ضيقا عاما لأي شخص' (منظمة الصحة العالمية، 1992: ص 157). التجارب من هذا القبيل عادة ما تتحدى معتقداتنا الأساسية في سلامة واستقرار عالمنا. وتنطوي هذه الحقيقة على أن علاج اضطرابات الصدمة قد يؤدي إلى تحولات ليس فقط في الحالة النفسية للمصابين ولكن أيضا لأخصائي وأطباء الصحة النفسية الذين يحاولون مساعدة مرضى الصدمة.
إن تثقيف الجمهور في مجال الكوارث أو الحروب مهم للأشخاص الذين تعرضوا للصدمات وذلك بأن يفهموا أن التأثر بالصدمات لا يعني أن الشخص قوي أو ضعيف الشخصية. وقد أظهرت الأبحاث أن قوة الصدمة والتعرض التراكمي المتكرر للصدمة يمكن أن يسبب اضطرابات ما بعد الصدمة حتى في أكثر الأشخاص صلابة. ولقد وجد بأن رد فعل الصدمة يمكن أن يحدث أيضا نتيجة 'العدوى العاطفية' والتي تعني بأن 'مشاهدة الصدمة – أو الاستماع إلى قصص الصدمة' لشخص آخر يمكن أن تخلق تجربة مماثلة واستجابات عاطفية بالتوازي مع تلك التي للشخص الذي تعرض فعليا للصدمة. عالم النفس الشهير الأميركي تشارلز فيجيلي وصف مفهوم تعب الرحمة Compassion Fatigue أو الصدمة الثانوية في كتابه "تعب الرحمة": التعامل مع اضطرابات الصدمة النفسية الثانوية والذي نشر في عام 1995. تعب الرحمة هو مشكلة شائعة بين مهنيي الصحة النفسية المعالجين لضحايا الصدمات.
ولسوء الحظ فإن هناك الكثير من الجهل حتى بين العاملين في مجال الصحة العقلية الذين يتعاملون بصورة غير مباشرة مع صدمات الكثير من مرضاهم. وكثيراً ما يفعلون ذلك بدون أي اعتبار أو إعطاء أي تفكير للآثار المحتملة لهذا التعرض الثانوي للصدمات على صحتهم العقلية. هذا يجعل من الضروري لهؤلاء المهنيين معرفة المزيد عن هذه المشكلة بحيث يكونون قادرين على تشخيص آثار تعرضهم الثانوي للصدمات من خلال الاستماع إلى تاريخ المشاكل المريض. الوقاية والتشخيص والعلاج لتعب الرحمة ينبغي أن تصبح كلها جزءا من عملية الرعاية في خدمات الصحة العقلية.
وعلاوة على ذلك، يحتاج أخصائيو وأطباء الصحة العقلية تمكينهم من الاهتمام والرعاية الخاصة بهم في حين أنهم يقومون برعاية مرضاهم. وسيمكن هذا العاملين في مجال الصحة العقلية من أن يكونوا قادرين على مساعدة المرضى والحفاظ على علاقة صحية علاجية مع مرضاهم. لتوضيح أهمية هذا سيجلب لهذه الورقة مثال حالة لأحد الزملاء الذين عانوا من هذه المشكلة أثناء محاولة مساعدة صدمة الشعب السوري في أحد مخيمات اللاجئين التي تكتظ بالعديد من هؤلاء اللاجئين:
أحد الأطباء النفسانيين العرب الذين يعيشون ويعملون في أوربا. ومنذ بداية الأزمة السورية كان يستخدم إجازته السنوية للذهاب إلى مخيمات اللاجئين لمساعدتهم نفسيا. إنه لم يستخدم مهاراته الطبية النفسية فحسب بل كان يعالج الصدمات بعلاج إبطال التحسس وإعادة المعالجة (EMDR). في واحدة من أولى زياراته لمعسكر اللاجئين في تركيا، طغى على جلساته الصدمات التي كان يعاني منها هؤلاء اللاجئين إلى درجة أنه كان يقوم برؤيتهم للتقييم والعلاج طوال الوقت بحيث لم ينم سوى 5 ساعات في اليوم. وبعد خمسة أيام بدأ يشعر هو نفسه بآثار الصدمات. وقد بدأ الشعور بالأسى ينتابه واغرورقت عيناه بالدموع. ثم بدأ يعاني من اجترار الصور المؤلمة لصدمات اللاجئين التي كان يسمعها ويعالجها والتي كانت تجري في ذهنه طوال الوقت في اليقظة وعند النوم، من خلال كوابيس هذه الصور. في البداية كان مترددا لإعلام أي شخص وكان يفكر بأن كل هذا سيمر وأنه كطبيب نفساني بكل خبرته ينبغي أن يكون قادرا على التأقلم. ولكن الأمور بدأت تسوء حتى أنه بدأ الشعور بأنه كان يفتقر إلى أي الطاقة أو الدافع للقيام بعمله مع اللاجئين وبدأ يشعر بالغضب. وهنا قرر أخيرا بعد 10 أيام الاتصال بمشرف العلاج النفسي الذي يشرف على تدريبه في أوربا. وهذا المشرف بدوره نصحه بالعودة إلى أوربا لتلقى العلاج لنفسه لمساعدته بعلاج تعب الرحمة الذي كان يعاني منه وهذا أدى إلى شفائه التام واستمراره بمساعدة اللاجئين.
المصادر والمراجع:
1- Afana, Abdelhamid (2012): Problems in Applying Diagnostic Concepts of Trauma Reactions and Trauma in the Middle East. The Arab Journal of Psychiatry (2012) Vol. 23 supplement Page (28-34).
2- New, AS, Keegan & KA, Charney, DS (2007): Psychobiology of resilience to stress. In Tsuang, MT, Stone, WS & Lyons, MJ (ED) Recognition and Prevention of Major Mental and Substance Use Disorders. Washington: American Psychiatric Publishing Inc.
3- Brewin, C.R. (2003): Posttraumatic Stress Disorder: Malady or Myth? Yale University Press, New Haven.
4- WHO (1992): The ICD classification of mental and behavioural disorders: clinical descriptions and diagnostic guidelines. WHO, Geneva.
ويتبع >>>>>>: الصدمة النفسية وتعب الرحمة بين المعالجين العرب2
واقرأ أيضاً:
الاضطرابات النفسية بعد الصدمات / نماء ما بعد الرضح (الصدمة) / الجزيرة في الذكر والأنثى وآثار الصدمات / الحرمان العاطفي والصدمة النفسية