الإنسان الذي تداهمه نوبة صرع حادة لا يرى أو يتذكر منها شيئا إلا في بعض الحالات النادرة من النوبات الجزئية التي لا تؤدي إلى ارتباك وعي الإنسان. الإنسان الذي يشاهد هذه النوبة يرى تغييرا مفاجئا في وعي الإنسان وحركاته وسقوطه على الأرض وانتهائه مغميا عليه ويبدأ بفرض أو استعمال نظريات متعددة لتفسير الحالة. أما الطبيب المختص والعالم بأمراض الصرع فيبدأ بتثبيت طبيعة النوبة والبحث عن سبب عضوي لها ومن هذا المنطلق يبحث عن منشأ وسبب الصرع.
يمكن القول وبدون نقاش بأن الصرع هو عرض لاضطراب الدماغ. هذا العرض يمكن أن يظهر بعد أعوام عدة من تعرض الدماغ إلى أذى كما هو الحال عند عسر الولادة. ليس من الغريب أن يبدأ هذا العرض بعد أكثر من عشرين عاما في بعض المرضى وفي هذه الحالة يتم استعمال مصطلح أعراض الصرع البعيد Remote Symptomatic Epilepsy رغم أن عدد الأفراد الذين لا نعرف سبب الصرع فيهم قد يقترب في الممارسة العملية إلى 30% ولكن هذا الرقم في تناقص مستمر وكان قبل ربع قرن من الزمان أكثر من الضعف.
أسباب الصرع متنوعة وتعتمد على عمر المريض والبلد الذي يعيش فيه. في الأطفال الصغار ومرحلة الرضاعة يتصدر نقص التأكسج O2 أثناء الولادة قائمة الأسباب بالإضافة إلى صدمة داخل القحف. هناك أيضا الاضطرابات الأيضية والتشوهات الخلقية للدماغ والالتهابات مثل التهاب السحايا.
مع نهاية العقد الأول من العمر وأعوام المراهقة ترى الصرع المجهول السبب يتصدر قائمة الأسباب. يستمر هذا النوع من الصرع بعد دخول المريض مرحلة البلوغ وحين ذاك يتم إضافة إصابة الرأس واستعمال الكحول إلى قائمة أسباب الصرع. لكن مع دخول الإنسان العقد الرابع من العمر وظهور الصرع لأول مرة فأول ما يفكر به الطبيب هو أورام الدماغ التي تتصدر قائمة الأسباب.
مع دخول الإنسان العقد السادس من العمر تبدأ أمراض الأوعية الدموية في الظهور وتتصدر الحوادث الوعائية الدماغية قائمة الأسباب وتستمر بعد ذلك حتى يتم إضافة اضطرابات الدماغ التنكسية إليها في العقد الثامن من العمر.
أما من الناحية الجغرافية فهناك العديد من الطفيليات التي قد تسبب الصرع في العالم الثالث التي يصعب مشاهدتها في القارة الأوربية وأمريكا الشمالية. لكن انتشار هذه الأمراض بدأ يتراجع في معظم أنحاء العالم مع تطور علاج الأمراض الطفيلية والرعاية الصحية.
الخلية العصبية
نوبة الصرع مصدرها الجهاز العصبي المركزي وبالتحديد الدماغ وعلى ضوء ذلك تكون البداية هي الخلايا العصبية كما هو الحال في أي مرض عضوي يصيب أحد أعضاء الجسم الأخرى مثل القلب أو الكبد وغيرها.
الخلايا العصبية من صنفين:
• العصبون وهي الخلايا العصبية التي تنقل الإشارات العصبية من الدماغ إلى الجسم وبالعكس. هناك خلايا خاصة بالمؤشرات الحسية وأخرى بمؤشرات حركية والبقية وظيفتها نقل الإشارات من عصبون إلى آخر.
• الخلايا الدبقية وهي التي تعرف أيضا بالخلايا المساندة التي تحمي العصبون وتفصل الواحد عن الآخر وتغذيه وتتخلص من الخلايا الميتة. يشكل كل صنف 50% من مجموع الخلايا في الدماغ.
الحديث عن متلازمة صرع يشمل العديد من القضايا المرضية المعقدة على مستوى الخلية التي تؤدي إلى أحداث تغيير في وظيفة الدماغ على مستوى الخلايا العصبية المتعددة والتركيب الجزيئي. رغم تعدد أنواع الصرع والارتباطات السلوكية المتعددة التي تصاحب نوبة الصرع فإن هناك آليات معينة تشترك فيها جميع أنواع الصرع.
لكن فهم هذه الآليات على مستوى الخلايا العصبية ورغم الآلاف من البحوث المنشورة فإنه لم يتقدم بنفس الدرجة التي تقدم بها العلم في جوانب أخرى من دراسات الصرع. هناك اتفاق شبه شامل بأن هناك نشاط غير طبيعي للخلايا الدبقية Glial Cells خلال نوبة صرعية. هناك زيادة في تركيز البوتاسيوم في الفراغ خارج الخلية المحيط بالبؤرة الصرعية والذي لا يتم تصفيته بسرعة من الخلايا الدبقية وبالتالي يؤدي إلى قصف العصبون بفعالية كهربائية5 تؤدي في النهاية إلى النوبة الصرعية كما هو موضح في المخطط أدناه.
الوراثة والصرع
المحطة الثانية في التحري عن منشأ الصرع هو البحث عن الجينات التي تتحكم بصناعة البروتينات المتعددة في الخلية. هذا البحث عن جينات الصرع أصعب بكثير من البحث عن الجينات في أمراض أخرى بسبب تنوع أنواع الصرع والعدد الكبير لمختلف متلازمات الصرع.
المصطلحات المستعملة لوصف الصرع أحيانا تثير الارتباك. الصرع قد يكون أحد أعراض مرض عضوي داخل أو خارج الجهاز العصبي وحين ذاك نسميه صرع مصحوب بأعراض Symptomatic Epilepsy. حين يتم استعمال هذا المصطلح فإن المرض سهل التعريف وهذا ليس هو الحال في غالبية المرضى الذين يراجعون مراكز الصرع.
على وجه العموم يمكن القول بأن أسباب الصرع هي:
• عوامل وراثية
• عوامل مكتسبة
• أو كلاهما في الكثير من الحالات
يتم تقسيم الصرع الغير معروف سببه إلى فئتين وهي:
• صرع مصحوب بأعراض افتراضاً Presumed Symptomatic ويعني ذلك بأن سبب الصرع هو أحد أعراض مرض ما لم يتم الكشف عنه بالأدوات التشخيصية المتوفرة.
• الصرع المجهول السبب Idiopathic Epilepsy وهو الصرع الناجم عن استعداد وراثي.
هناك من يقترح التخلص من مصطلح الصرع المجهول السبب واستبداله بمصطلح الصرع الوراثي Genetic Epilepsy. يشكل هذا النوع من الصرع 30% من أنواع الصرع في الممارسة المهنية في يومنا هذا ويتميز بظهوره في نهاية أو بعد العقد الأول من العمر وعدم وجود أعراض وعلامات تشير إلى اضطراب دماغ عضوي أو عدم وجود تلف ما في الدماغ. رغم وجود تاريخ عائلي في بعض الحالات ولكن طريقة الانتقال الوراثي في العائلة يصعب تعريفها ويفسر الكثير ذلك بوجود جينات متعددة أو عوامل أخرى عضوية أو بيئية التي تتحكم بظهور الصرع. بعبارة أخرى يمكن صياغة هذه العوامل بأن الإنسان قد يرث عتبة معينة للإصابة بنوبات صرعية ولكن الوصول إلى هذه العتبة يعتمد بدوره على عوامل عضوية في المريض نفسه والبيئة التي يعيش فيها.
تم تحديد العديد من التعديلات الوراثية المسؤولة عن أشكال نادرة من الصرع6 تتميز بنمط وراثي سائد والتي تسبب نوبات صرعية متكررة في الطفولة وتستمر حتى بعد دخول المريض سن البلوغ. ساعدت هذه الاكتشافات في فهم آلية الصرع حيث أن الطفرات الجينية التي تم العثور عليها تتحكم في وظيفة العصبون نفسه وتنقل الصوديوم والبوتاسيوم عبر جدار الخلية العصبونية بالإضافة إلى تأثير بعض الجينات على مستقبلات الناقلات الكيميائية وخاصة حمض الغاما امينوبوتيريك المعروف بأربعة أحرف لاتينية GABA.
إعطاء النصيحة الطبية حول احتمال وراثة الصرع الوراثي مهمة صعبة ولا يوجد أكثر من القول بأن احتمال إصابة الصرع بالأطفال من أم أو أب مصاب بالصرع هو أعلى مقارنة ببقية الناس.
الناقلات الكيميائية العصبية
المرحلة الثالثة من دراسة منشأ وأسباب الصرع تتعلق بالناقلات الكيمائية التي تنتقل من عصبون إلى آخر. يمكن القول بأن النوبات الصرعية تولد عبر تفاعلات كيميائية حيوية معقدة في دماغ الإنسان. يعود تاريخ البحوث في هذا الحقل إلى بداية القرن العشرين حيث كان التركيز على دراسة تركيز مختلف المواد الكيميائية في الدم والإدرار والسائل المخي النخاعي الذي يدور في الجهاز العصبي المركزي. تطور هذا الحقل مع التكنولوجيا الحديثة ودراسة العقاقير المضادة للصرع. القاعدة العامة لكيمياء الدماغ والصرع بأن تأثيرها واحد من اثنين:
• تأثير تحفيزي.
• تأثير تثبيطي.
إذا حدث اضطراب في هذا التوازن باتجاه التحفيز تكون النتيجة نوبة صرعية.
هذه القاعدة البسيطة تتميز ببساطتها وأناقتها وتثبيت صدقها عن طريق البحوث العلمية. هناك العديد من الناقلات الكيميائية في الدماغ لكن مختلف البحوث العلمية تركز على اثنين2 وهما حامض البيوتريك Gamma Amino Butyric Acid والمعروف ب GABA والآخر هو الكلوتاميت Glutamate . الناقل الأول هي تأثيره تثبيطي والثاني تحفيزي.
لعب الـ GABA دوره في البحث عن عقاقير مضادة للصرع4 عن طريق تصميم عقاقير فعاليتها مشابهة لفعاليته في الدماغ مثل الفيكابترين Vigabatrin وتياكابين Tiagabine والكابابينتين Gabapentin . يتم صنع هذا الناقل الكيميائي في نهاية الأعصاب وينتقل منها إلى العصبون المجاور عن طريق مستقبلات تسمى مستقبلات GABA. يستقبل العصبون الناقل الكيمائي ويؤدي ذلك إلى تثبيط الفعالية الكهربائية في العصبون. أما الكلوتاميت3 ففعاليته عكس ذلك ولكن عدد المستقبلات له في الخلايا العصبية أضعاف تلك التي تستقبل الـ GABA.
الباثولوجيا العصبية للصرع
هذه هي المرحلة التي يتم دراسة النسيج الغير طبيعي الذي يؤدي إلى توليد نوبة صرعية. يتم استعمال مصطلح بؤرة صرعية عند الحديث عن هذا النسيج ويمكن القول بأن أي نسيج غير طبيعي في الدماغ قد يكون بؤرة عصبية وهذا يفسر الصرع الثانوي الذي يصيب الإنسان المصاب بأورام الدماغ المختلفة أو عاهة خلقية.
يتم أحيانا تحديد البؤرة التي تولد النوبة الصرعية عن طريق الفحوص الطبية المختلفة رغم عدم وجود علامات واضحة لنسيج غير طبيعي ويتم التخلص منها جراحيا. يوجد نسيج غير طبيعي فيما لا يقل عن 90% من المرضى الذين يعانون من صرع لا يستجيب للعقاقير والذين يتم علاجهم جراحيا حين يتم فحصه تحت المهجر.
يولد هذا النسيج الغير طبيعي1 نتيجة التدمير الذي يحصل للدماغ أثناء المراحل الأولى لتطوره قبل أو أثناء أو بعد الولادة. هناك نوعان من خلل النسج تثير اهتمام البحوث الطبية في الصرع وهي:
• خلل التنسج القشري في المخ7
• تصلب الحصين8
منطقة الحصين هي من أكثر مناطق الدماغ توليداً للنوبات الصرعية والتي تؤدي إلى إصابة المريض بصرع الفص الصدغي أو النوبات الجزئية المركبة. تؤدي هذه النوبات إلى ضمور الحصين تدريجيا ويمكن ملاحظة ذلك في خلال فحص الرنين. الحصين هو مركز خزن الذكريات المختلفة ويوضح ذلك تعقيد عملية تقييم المريض قبل إجراء تداخل جراحي من أجل التخلص من البؤرة الصرعية في هذه المنطقة.
المصادر
1- Blumcke I, Vinters HV, Armstrong D, Aronica E, Thom M, SpreaficoR.(2009) Malformations of cortical development and epilepsies. Epileptic Disord 11:181–93.
2- Bradford HF. Glutamate,(1995). GABA and epilepsy. Prog Neurobiol 47(6):477–511.
3- Chapman AG.(1998) Glutamate receptors in epilepsy. Prog Brain Res 116:371–83.
4- Czuczwar P, Wojtak A, Cioczek-Czuczwar A, Parada-Turska J, Maciejewski R, CzuczwarSJ.(2010) Retigabine: the newer potential antiepileptic drug. Pharmacol Rep 62(2):211–19.
5- Johnston D, Brown TH.(1981) Giant synaptic potential hypothesis for epileptiform activity. Science 211:294–7.
6- Singh R, McKinlay Gardner RJ, Crossland KM, Scheffer IE, BerkovicSF (2002) Chromosomal abnormalities and epilepsy: a review for clinicians and gene hunters. Epilepsia 43:127–40.
7- Taylor DC, Falconer MA, Bruton CJ, Corsellis JA (1971) Focal dysplasia of the cerebral cortex in epilepsy. J NeurolNeurosurgPsychiatry 34:369–87.
8- WieserHG (2004) ILAE Commission Report. Mesial temporal lobe epilepsy with hippocampal sclerosis. Epilepsia 45:695–714.
واقرأ أيضًا:
الصرع.. أما آن الأوان أن نغير هذا المصطلح؟ / الصرع عام ٢٠١٦ / الصرع والصّيام / متلازمة مونشهاوزن Munchausen Syndrome