تعاني المجتمعات العربية من المفاهيم التعصبية التي تكون أحياناً على شكل اتجاهات منتشرة، وأحياناً على شكل قيم سائدة، وأحياناً على شكل ثقافة متكاملة. وهذا الواقع يحمل الكثير من بذور التهديد لهذه المجتمعات، وينذر بأخطار التمزق والمزيد من التراجع الحضاري والنكوص التاريخي.
وإذا كانت مؤسسة الأسرة في هذه المجتمعات مازالت خطاً دفاعياً في وجه القيم الوافدة، وما زالت تؤدي دوراً في حفظ الثقافة الأصيلة يمكن البناء عليه حتى الآن، فإنها في مواجهة التعصب الاجتماعي في داخل المجتمعات العربية يبدو أنها مازالت وسيطاً سلبياً في توريث الاتجاهات التعصبية، أو على الأقل لا تؤدي دوراً واعياً في مواجهة هذه الأخطار.
قد يكون هذا التوصيف متجنياً أو غير متوازن، فهو ليس مبنياً على رؤية شاملة، أو على بحث ميداني، إنما هو رأي أو افتراض يستحق أن يطرح للنقاش والتفكر، ولعل تداول هذه المسألة بالنقاش والحوار قد يوصل إلى رؤية أكثر اتزاناً، وفي أمثال هذه المسائل الحساسة التي يصعب بحثها ميدانياً، ومواجهتها رسمياً، ربما يكون للحوار بين المهتمين والمختصين دور مهم في توضيح الأسئلة واقتراح الأجوبة، وهو خطوة ضرورية في طريق الوصول إلى رؤية بحثية تنتج بحوثاً رصينة.
إن التعصب الذي ينشأ في الأسرة هو نتيجة لتكوين مفهوم الذات عند الابن، حيث يرتبط هذا المفهوم بشكل كبير جداً بانتماء الابن للفئة الاجتماعية التي تتبعها الأسرة، وفي الأسرة العربية يتكون لدى الابن مفهوم معقد لذاته، ناشئ عن تصورات وأحكام يتلقاها الابن عن أسرته، وفئته الاجتماعية، ومن مكونات هذا المفهوم أيضاً ما يتلقاه من تصورات وأحكام عن الفئات الأخرى التي لا تنتسب إليها الأسرة، فتقدير الابن لذاته مبني على انتماء أسرته، واعتزاز الأسرة بهذا الانتماء، كما أنه مبني على نظرة الثقافة الأسرية للمجتمعات الفرعية الأخرى في المجتمع الأصلي الكبير.
وهذه الثقافة في الأسرة العربية عادة تميز الاختلافات بين المجتمعات الفرعية وتشير إليها بوضوح: "هذا ليس من عاداتنا وتربيتنا"، وقد تعتبر هذه الاختلافات منطلقاً وحيداً في الأحكام على هذه المجتمعات الفرعية، خاصة عندما تقدم للابن التحذيرات بأن لا يقترب من هذ المجتمعات في حركته وسلوكه: "لا تمش مع هؤلاء الذين ...، ولا تتصرف مثل أولئك الذين ...".
وحينما تتجمع الأحكام على الفئات الأخرى ينشأ عند الابن حكمه على أسرته وفئته الاجتماعية، ومن ثم على ذاته، فيرى أنه مختلف عن كل من ينتمون للفئات الأخرى، وأحياناً يعني هذا الاختلاف أنه أعلى منهم، وفي كثير من الأحيان لا تلقن التوجيهات الاستعلائية في الأسرة بشكل صريح: "نحن أفضل من هؤلاء"، إنما يستعاض عن التصريح باحتقار الفئات الأخرى: "هم جميعاً أسوأ منا".
ومن الإشكالات الحادة في التنشئة الأسرية العربية التوجيهات المرافقة للأحكام على الفئات الأخرى، خاصة منها التوجيهات المتعلقة بالتعامل مع أفراد هذه الفئات، فمن التوجيهات التي تقدم عادة التنبيه إلى عدم الإعلان عن هذه الأحكام السيئة خارج المنزل، مع بقاء هذه الأحكام جزءاً رئيسياً حياً في داخل لمنزل، وكل ذلك بالاقتران مع التوجيهات التي "تسمح" بقدر من التعامل الحسن مع أفراد الفئات الأخرى، وهذا النموذج في الغالب ينتج السلوك التعصبي الذي لا يعبر عنه بالأقوال، ولا يعترف به في المعلن من الأعراف والقوانين، لكنه مؤثر قوي في إنشاء العلاقات الاجتماعية وسيرها، ولا يقتصر أثره على مظاهر السلوك الاجتماعي وحركة المجتمع، إنما يمتد إلى بناء المجتمع ومواقع الفئات المجتمع المختلفة فيه، ومع كل هذا التأثير لا يعترف به الأفراد، ولا تقره القوانين المكتوبة والتقاليد المعلنة.
تلك هي بعض خصائص التنشئة الأسرية العربية: هي تنشئة تنطلق من بناء نماذج سلبية كثيرة قبل تكوين النماذج الإيجابية، وتركز على السلوك الظاهري المناسب لكل موقف أكثر من التركيز على تأسيس قيم عميقة راسخة تنظم سلوك الفرد، وتحكم علاقته بربه أولاً، ثم مع الخلق ثانياً، وتصلح معياراً للسلوك الاجتماعي، وأساساً للبناء الاجتماعي.
وهذه كما ذكرنا لقطات من صورة أكثر تعقيداً وأكبر حجماً، ولعل الحوار يوصلنا إلى مواضع أكثر أهمية وبروزاً في تعامل الأسرة العربية مع مسألة التعصب الاجتماعي، ونسأل الله سداد القول وصلاح العمل، إنه على كل شيء قدير.
واقرأ أيضاً:
كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب / الموضوعية في التعامل مع المشاعر