تخيلوا معي أنّنا نأكل وجبة واحدة مهما كانت، أو لنقل طعاما واحدا مهما نوّعنا من أساليب طهْيه يبقى واحدا (مثل matrix الذي يحضرني هنا)، كل شخص يقتصر على طعامه المختَار له، مع ذلك كل الأنواع موجودة. ثم يخرُج لنا من يقولون عن الأطعمة غير المتاحة في حقّهم أنّها سيئة ورديئة وغير مُغذية.. وما إلى ذلك من الصفات المنفّرة التحقيرية.
لا شك أنّك استغربت وضحكت من المنطق المخادِع لهؤلاء الأشخاص... ساذج ومُتكلّف ويُخفي الحقيقة المُرّة وراء تلك المغالطات (القط لما لا يصل للحمة يقول نتنة) هذا الاستغراب سيكون من شريحة كبيرة من الناس، لكن الطريف أنّ هذه الشريحة الكبيرة تضمّ فئة عريضة تستخدم هذا المنطق في قضية أخرى غير الطعام وهذه المرّة لن يُسعفهم التفكير الناقد ولا خفة الدّم وسيكتشفون أنهم مثل من تعجّبوا منهم في الأول.
هذه القضية هي المتعة الجنسية، فالمتدينون خصوصا والمحافظون عموما يصفون العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج بأقبح الأوصاف وينزعون عنها المتعة ويصفون تجارب أصحابِها بالزيف أو العذاب والتعاسة، ويُثمّنون "الجنس الحلال". وكأنّ المتعة الجنسية تكون متعة بصفتها حلالا وليس بصفتها نزوة جوهرُها قائم على اللذة ويُنكرون لذة التجارب المتعدّدة مع اعترافهم بذلك في مجالات أخرى !
ربما يتساءل البعض: "ولمَ قد نُثمّن الجنس خارج إطار الزواج".. أقول لا أحد يطلب منك ذلك، لكن لا تكذب وتخترع واقعا مزيّفا.. لست مضطرا لتمجيد العلاقات خارج إطار الزواج لكنّك مطالب باحترام عقلك وعقول الناس وأن تفهم الآلية والحاجة النفسية لاختراع مثل هذه الخرافات، فنحن كبَشر لمّا نؤمن بشيء ما لا نُطيق أن نرى فجوة بين أحكام القيمة المتعلّقة به (الجنس المحرم الخبيث...) والواقع المُرتبط به، فرغم أنّه محرم في بعض حالاته إلا أنّه يحتفظ بخاصية الإمتاع الجوهرية فيه... هذه الحقيقة مفزعة بقدر ما تزيدُ محافظة ومثالية المرء.. فتبدأ الحيل الدفاعية في تأمين "منطقة الأمان والإيمان" التي ستنهارُ إذا ما عَرَفتْ أنّ ما حُرّم عليها في التشريع الذي تؤمن به ممتع حقا ولذيذ وقد يكون صحيّا ! على الأقلّ على المدى القصير.
فتبدأ وتستمرّ المصادرة على الواقع واصفين إياه بما نُحبّ نحن لا بما يتميّز به.. طبعا يكون الوصف ملائما بل خادما لانفعالاتنا ومعتقداتنا، ومن هُنا عمليّة التواطؤ على الكذب الذي يُمارسها المجتمع ككلّ، عملية منظمة لكنها غير واعية. فالتشريع بخصوص العلاقات الجنسية قد كان مبدأ أخلاقيا واجتماعيا في أوّل الأمر، لكنّه عبر الأجيال يتّخذُ شكلَ تفسيرٍ للواقع ووصفٍ للظواهر (وعلى التفكير العلمي السلام) لخنْق أي توْق للنفوس إلى المحرمات المتعارف عليها... قريب من مبدأ فلم the village الذي صار فيه التقدم التكنولوجي والغير autrui والأصوات غير المألوفة أدلة على وجود وحوش وظواهر غير طبيعية .. وكل هذا لمنع الناس من اكتشاف خارج القرية وحياة تغيّرت على مرّ القرون سيتوق لها أهالي القرية قطعا... المهم
هذه الحيلة الدفاعية يلجأ لها المحافظون (وخصوصا النساء لتظافر الاشمئزاز من الجنس وخيانات الرجال مع هذه الحيلة) لإزالة التنافر المعرفيّ والتناقض الذي يحصل لهم عندما يعترفون بأن المحرّم مع ذلك يبقى مرغوبا ممتعا، والحيلة سهلة، يكفي أن نصف المحرّم بأقذر الأوصاف وأكثرها تنفيرا ونُنكر كل إفادة تقول عكس ذلك، وأن نجعل للمتعة وجهان، وجه ظاهريّ ممتع خادع متعلق بالملذات الحسيّة، ووجه قبيح حقيقي خفيّ لا يعرفه إلا صاحبُنا المحافظ أو صاحبتُنا المحافظة! فلمّا يقول له متحرر جنسيّ أنه يعيش ملذات كثيرة، يُخبره المحافظ أنه (المتحرر) واهم مسكين، وأنّه يعيش النّكَد والتعاسة لكنه لا يدري .. إلى آخر تلك المحاولات الأخيرة لتكذيب الواقع والكذب على نفسه والمصادرة على الحقائق وهذا شبيه بمصادرة من أشهر المغالطات: التعاسة تلاحق من كفر بالإسلام أو عصى خالقه !
المشكلة في هذا التواطؤ على الكذب أنّه يخلُق نتائج عكسية تماما، فعندما يكتشف الناس هشاشة الحجج ويعيشون التجارب بأنفسهم، ينتقل الرِّهان من مجرّد مغامرة جنسية إلى مغامرة فكرية تنهار فيها المنظومة العقدية والأخلاقية كلّها، الإغراق في المثاليات يولّد الإحباطات والتمرّد كما هو معلوم.
لكن أين السؤال الأخلاقي هنا؟ ولمَ التحريم وما فائدته إن لم يكن يُحرّم شيئا مضرّا ؟! هذه أسئلة مهمة ومشروعة أجيب عليها باقتضاب شديد. أولا قضية التشريع والتحريم والفرْض، غير متعلّقة بمضرة مطلقة ولا فائدة مطلقة، ومن هنا الخطأ الذي يقع فيه الكثير من المؤمنين حين يعتقدون أنّ مَضَرّة الشيء المحرّم هي الشيء الوحيد الصادر منه وأنها مَضَرّة من نوع واحد ووحيد، لا تتجزّأ لدرجات ولا تتعايش مع فوائد أخرى، ولا يفهمون أنّ التشريع يأخذ بعين الاعتبار معيارا معيّنا أو بضعة معايير يختارُها ويراها هي الأكثر ضررا والأحرى بالاستئصال حسب نظرته الشمولية في التشريع وليس لأنّه يدّعي أن يحرّم أو يُوجِب مضرة أو مصلحة خالصتين !... بتأمل بسيط في القوانين في كل مجال، ستجد أنّها لا تصف الشيء بالضار بشكل مطلق، إنّما تحرّمه بسبب ضرر مهمّ وله الأولوية في منظومتها الأخلاقية.. فمثلا منافع استغلال الطبيعة لا أحد يُنكرها، وكلّ من سيُحرّم هذا الاستغلال سيجد نفسه أمام اعتراضات قوية ومنطقية، لأنه لا يُحرّم حسب الضرر الحاليّ، بل بمُقتضى تداعيات مستقبلية على البيئة، طفيفة ومتراكمة.. أو القرصنة التي تنشر ثقافة ووعيا بين الأوساط المعدومة لكنّها تُدمّر حس الإبداع وكلّ مبادرة للإنتاج وتضيّع جهود الغير.. .وهكذا
وأتعجّب حقيقة من أناس يؤمنون بقرآن يقول لهم عن الخمر "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا"، منافع بالجمع، لكنّ التشريع الإسلامي رجّح مفسدة وإثما وتجاهل المنافع الأخرى.
أما بالنسبة للجانب الأخلاقيّ، كونُك ملتزما بمبدأ أخلاقي معيّن قد يُضعفك أمام المغريات، لدرجة أنّك تحتال على الواقع كوسيلة دفاعية، قد يكون طبيعيا جدا ومقبولا في التأملات الشخصية والأساليب الوقائية الفرديّة، لكن المُشكل أنّ هذه الثقافة الوقائية غالبا ما يُصدّرها الأفراد للمجتمع على شكل سجالات وتربية وردود على المخالفين.. وقد كان يكفيهم أن يلتزموا بالمبدأ الأخلاقي بعقلانية ونُضج وحس بالمسؤولية، نعم المسؤولية لأن التلاعب بالوقائع تصرّف طفولي تنقُصُه مسؤولية تحمل المبادئ الأخلاقية وتبعاتها، فنلجأ للكذب على الواقع لتخفيف وطأته علينا.. وهذا ما يُفسّر انهيار منظومة الأخلاق بشكل سريع يوم تغيرت أنماط العيش، فالالتزام بمبدأ أخلاقي بطريقة طفولية يطالب أصحابُها بتغيّر الواقع وسُكونِه على مسلمات ومغالطات لن يصمُد أمام يوم يتبيّن ضُعف المنطق القائم عليه.
وأتساءل معكم جميعا من الأفضل: هل الذي يلتزم بمبدأ أخلاقي معيّن وهو على شفا حفرة من انهيار إيمانه به إلا أن يزيّف ويُسفسط ويغالط، أو ذاك الذي يعي الواقع كما هو ومع ذلك يختار المبدأ الثقيل على نفسه ولا يجد في الكذب والتزييف سُلوانا له رغم النشوة المخدّرة التي يقدّمها؟ أيهم أعبد وأجدر ببناء نظرة عقلانية وثقافة علميّة ؟
ويتبع >>>>>: الجنس وأزمة عَقْلَنَةِ الأخلاق مشاركة
واقرأ أيضاً:
الوعظ والتنمية، أية علاقة؟ الجزء الأول / لماذا لم تأخذ متمرسة في الجنس؟ / المثلية بصفتها معاناة !
التعليق: السلام عليكم أستاذ خالدي، تعجبني طريقة تحليلك للتصرفات التي تبدو بسيطة ،من خلال مطالعتي لبعض مقالاتك وردودك لاحظت بأنك على اطلاع كبير على أوساط المتدينين، ومن الجيد جدا تقديم نصائح ونقد بناء لبعض تصرفاتهم، وذلك بالنظر إليها من الجانب النفسي، والتفريق بين ما يأتي من نفسياتنا وما مصدره التشريع،
لدي ملاحظة عامة صغيرة، قد تكون هناك سمات عامة منتشرة في أوساط المتدينين لكن هذا لا يعني أن الجميع يتطبع بها، وهذا ما أرجو أنك تأخذه بعين الاعتبارات في الاستشارات
،ثانيا في بعض الأحيان في انتقاذك لفهم المتدينين للدين، يشعر القارىء أن ردك وكأن فيه نوعا التذمر على الفهم الحالي الأمر الذي يقودك إلى التمرد حتى على بعض الأفكار والمعلومات الأصيلة الثابتة، يعني الأمر أشبه برد أقوى من اللازم،،