أسباب ما يحدث في العراق ولبنان من وجهة نظر طبنفسية:
إن ما يحدث اليوم في كل من لبنان والعراق هو نتيجة حتمية لعدم التعامل السليم مع الصدمات النفسية الهائلة التي تسببت بها الحرب الطائفية والتمترس الطائفي الذي تبع ذلك، والذي همش في البلدين المشاعر الوطنية والقومية لبلدين في صميم التاريخ والوجدان العربي. ولأن للصراعات الطائفية التي حصلت عواقب هائلة على الصحة العقلية بالنسبة للسكان في هذه الأجزاء، فإنه من المهم بمكان استنباط دروس الصحة النفسية من واحدة من أطول الحروب الأهلية المبكرة في الشرق الأوسط والتي هي الحرب الأهلية في لبنان. من المعروف عالميا وعربيا بأن السينما اللبنانية عرفت بسينما الصدمة لأنها أصبحت أداة هامة جداً في تسجيل الأحداث الصادمة ليس فقط للحرب نفسها، بل أيضاً لنتائج تلك الحرب على الصحة العقلية. ولقد تناولت الكاتبة لينا خطاب هذا التسجيل في كتابها (السينما اللبنانية: تصوير الحرب الأهلية وما بعدها) والتي حاولت خلال هذا الكتاب تحليل الطريقة التي أعادت بها السينما اللبنانية (والتي وصفتها بسينما الصدمة) ترميز الذاكرة النفسية للحرب وكيف يمكن أن تكون أداة هامة في توضيح العواقب الحالية للصراعات الأهلية الأخيرة الجارية ومنع الصراعات المستقبلية (Khatib, 2008).
ويصف مصطلح "الحرب الأهلية في لبنان" سلسلة من الصراعات التي اجتاحت مناطق عديدة من لبنان بين عامي 1975 و1990. على الرغم من أن الكثيرين يعتقدون أن هذه الحرب كانت صراعاً دولياً وإقليمياً خيض على الأراضي اللبنانية. شيء آخر مهم هو أن الشخصيات السياسية والعرقية والدينية والطائفية اللبنانية تصدرت واستغلت هذه الحرب وأنشأت الميليشيات التي استغلّت هذه الحرب ولا زالت تهيمن على الواقع السياسي الطائفي هناك ( Haugbolle, 2010). وقد أدى هذا الصراع الذي دام 16 عاما إلى تكاليف اقتصادية واجتماعية وسيكولوجية ضخمة. وتشير التقديرات إلى أن ذلك دمر البنى التحتية في لبنان وتسبب في تشريد 000 750 مواطن ودمر العديد من المناطق والبلدات والقرى وتسبب في كوارث بيئية. وقدرت الخسائر البشرية بـ170.000 قتيل و10,000 معوق (Dagher, 1995).
وفي كتابه، الصدمة النفسية أشكالها العيادية وأبعادها الوجودية، استخدم الأستاذ الراحل عدنان حب الله المحلل النفسي اللبناني الشهير الذي عاش في بيروت خلال الحرب الأهلية تجربته السريرية خلال الحرب شارحا بأن تلك الصدمة لا يمكن فصلها عن سياقها الاجتماعي والسياسي والثقافي. بما أنّ هذا سياق قد شكّل الطريقة التي ظهرت بها تلك الصدمات سريريا (عدنان حب الله، 1998).
ومن دراسة وبائية لمنظمة الصحة العالمية، قام كرم وزملاؤه في العام 2008 بدراسة تستند إلى هذه الدراسة والمسح الميداني الذي أجرته منظمة الصحة العالمية لعينة ممثلة من اللبنانيين، أظهرت هذه الدراسة أن ربع إلى ثلث سكان لبنان يعانون من شكل من أشكال الاضطرابات النفسية. ووجدوا أيضا أن الأحداث الصدمية المرتبطة بالحرب الأهلية في لبنان أظهرت علاقة هامة مع مشاكل نفسانية مثل؛ اضطرابات المزاج والقلق وكذلك اضطرابات السيطرة على الدافع. ووجدت الدراسة أن خطر ظهور هذه الاضطرابات زاد خلال الحرب وللمزاج والدافع السيطرة على المشاكل النفسية استمرت في الزيادة بعد فترة طويلة من نهاية الحرب. وعلى الرغم من هذه النتائج فإن المفاجأة التي ظهرت بها هو كون معدل الاضطراب الكربي التالي للصدمات لمدى الحياة منخفضاً إلى نحو نصف ذلك الموجود في الولايات المتحدة (Karam et al, 2008).
وعندما سألت البروفسور كرم في مؤتمر عقد في عمان قبل سنتين عن سبب ذلك قال أنه يجهل السبب ولكني وبقراءة كتاب الدكتور محمد أحمد النابلسي اكتشفت أن الدكتور محمد رحمه الله كان قد حلل ذلك في كتابه: الصدمة النفسية - علم نفس الحروب والكوارث، تحليلا صائبا عندما كتب: "أننا وفي غياب المدرسة العربية للطب النفسي نجد اختصاصيينا مدفوعين إلى اعتماد أحد التصنيفات العالمية المطروحة. ومن بينها تصنيف الجمعية الأمريكية السابق الذكر (DSMIII-R). إلا أن تجربتنا في المجتمع اللبناني تدفعنا إلى توجيه عدة انتقادات إلى هذا التصنيف..... وفيما يلي نعرض باختصار لهذه الانتقادات" (محمد أحمد النابلسي،1991) (وقد اقتبسنا هنا أول اثنين من 7):
1. يعمد هذا التصنيف إلى سحب عارض الشعور بالذنب لدى الناجين من الكارثة كما يعمد إلى تجاهله بصورة كاملة. علما بأننا نلاحظ هذا الشعور بالذنب لدى الغالبية العظمى من الذين ينجون من الكوارث. ويكفينا الإشارة هنا إلى أن هذا الشعور بالذنب قد تبدى لدى بعض الأجانب (لم يزوروا لبنان قط) لمجرد رؤيتهم لأحد الأفلام الذي يعرض كارثة انفجار سيارة مفخخة. أضف إلى ذلك أن طبيعة المشاركة الإنسانية لدى الشرقيين تجعلنا عاجزين عن تجاهل هذا العارض. ونؤكد من خلال تجربتنا أننا كنا غالبا مضطرين ومدفوعين إلى معالجة هذا العارض (محو شعور الذنب) لدى الناجين من الكوارث- المصابين بالعصاب الصدمي. بل نضيف أن هذا الشعور بالذنب كان غالبا مترافقا بـ(الحزن غير المعبر عنه) مما يفتح الأبواب أمام المرض السيكوسوماتي (الجسدنة).
2. إن التصنيف الأمريكي يعتمد مبدأ (الصدمة الوحيدة) وهذا لا يتلائم مطلقا مع ظروف تجربتنا. ففي غالبية الحالات يكون المريض قد تعرض لصدمات متكررة (لاحظ طول الفترة الزمنية للحرب اللبنانية) ومتنوعة (انفجارات، معارك أسر .....الخ) وإن كانت آثارها مختلفة الحدة. وفي هذه الحالات نجد أنفسنا عاجزين عن تطبيق التصنيف الأمريكي. فهذا التصنيف يقسم الأعراض الصدمية إلى حادة ومتأخرة. وفي حال المريض اللبناني المتعرض لصدمات متكررة من أين لنا أن نحدد ما إذا كانت العوارض المتبدية على المريض حادة (بسبب الصدمة الأخيرة) أم هي متأخرة (ناجمة عن إحدى الصدمات الأقدم)؟"
ولقد حدد الدكتور محمد النابلسي رحمه الله هنا ما قد يعكسه التحيز الثقافي لأساليب المسح الوبائي الطبي النفسي المستعملة والمستندة إلى أساليب تصنيف الأمراض النفسية المشتقة من تجارب ثقافية واجتماعية مختلفة والتي أطلق عليها كلينمان مشكلة: مغالطة الفئة (Category Fallacy) إن نحن لم نضع الخصائص الثقافية للأعراض المختلفة الخاصّة لكل من الاضطرابات النفسية المختلفة في المجتمعات المختلفة (Kleinman, 1977).
وفي الكارثة التي أعقبت الحرب اللبنانية والتي تحدث عنها الدكتور محمد أحمد النابلسي في العدد الخاص من مجلة شبكة العلوم النفسية العربية العدد الثاني عشر للعام 2003 هي احتلال العراق والذي قال عنه الدكتور محمد أحمد النابلسي في كلمته الافتتاحية لهذا العدد تحت عنوان وباء الإحباط العربي عبر الصدمات المتتالية فيها عما تحدثه القوات الأمريكية من كوارث وفظائع في الفلوجة وغيرها من مدن العراق وفظائع الحرب الطائفية في العراق وتنبأ بتداعيات ذلك على المواطن العربي متنبأ بالكوارث القادمة التي حصلت بعد ما دعي بالربيع العربي. ومما يستحق الذكر أن دراستين ظهرتا بعد الاحتلال الأمريكي البريطاني الأولى عام 2010 وأثبتت أن معدل الإصابة بالاضطراب الكربي التالي للصدمة في العراق هو نصف ذلك المسجل في لبنان (Sadik,2010)، وكذلك دراسة أجريت في الأعوام 2015 و2016 في أوج الحرب ضد الاحتلال الإرهابي لداعش لأجزاء كبيرة من العراق أثبتت أن الانتحار في العراق أقل من المعدلات العالمية (Abbasi, et al. 2018) مع أننا لو فقط حسبنا العمليات الإرهابية الانتحارية لداعش لفاقت كل الإحصاءات العالمية للانتحار. من الجدير بالذكر أن بعض مؤلفي هاتين الدراستين من الذين أيدوا وشاركوا في احتلال العراق الأمريكي البريطاني عام 2003 ونالوا مناصب والقاب أكاديمية بريطانية لقاء تأييدهم لهذا الاحتلال وكأنهم يقولون في هاتين الدراستين شكرا للاحتلال الذي حسن الصحة النفسية في العراق بما يناقض كل الحقائق الميدانية والمنطقية.
سيناريو الحرب الطائفية اللبنانية قد كررت في العراق من قبل حكومة الاحتلال بحذافيرها. وإذا كان المجتمع اللبناني قد وصف بأنه "مجتمع ثقافة الذاكرة" لأنه أنتج ذكرى تاريخية تشير إلى التعددية التي هي أكثر ملاءمة للسياق اللبناني. ومن الواضح أن الطائفية كانت العامل الرئيسي "الفيل الذي هو في داخل الغرفة" التي كانت موجودة منذ إنشاء لبنان الحديث في عام 1943 وكانت هذه الطائفية هي التي كانت وراء الحرب الأهلية ونتائجها الحالية (Houbballah, 1998). وعلى الرغم من أن الطائفية كانت سبباً في الحرب، فإن الحرب بدورها قد تسببت في المزيد من التجزئ في الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية. وقد أوضح ذلك بيان طلال سلمان رئيس تحرير صحيفة السفير (نقلاً عن: Haugbolle, 2010): "صحيح أن جريدة السفير كانت منحازة أثناء الحرب، وذلك سببه أنه لم يكن هناك مجال للموضوعية..... من السهل اتهام الصحافة. ولكن لا أحد كان يعتقد أن الحرب ستستمر حتى التسعينات، وإذا كان يمكن قول أي شيء، فهو أننا نفتقر إلى الرؤية والتحليل لقضية الحرب. عندما ظللنا كلنا نعتقد أن الحرب لن تؤدي إلى مذبحة.
ولقد أدت الحرب الطائفية في كل من لبنان والعراق إلى إعادة توزيع الطوائف والعرقيات بطريقة تجعلها غير قادرة على إعادة الاندماج. لقد خلقت الحرب إشارات طائفية مختلفة للأحياء والمناطق لإحياء ذكرى الموتى للطوائف المختلفة في بيروت وبغداد والمدن الكبرى والبلدات والقرى (Haugbolle, 2010)، تم العفو عن كل الجرائم التي حصلت في الحالتين دون أن تقال الحقيقة من خلال محاكمات كما حدث في جنوب أفريقيا وغيرها من البلدان، وهذا، كما يعتقد هوغبول، أبقى الذاكرة تقول داخل الفضاء الطائفي بدلا من أن تكون في الفضاء الوطني، وأن ما سيجعل من الصعب على لبنان أن يطيل صفحة الحرب الأهلية والمضي قدما (Haugbolle, 2010). وقد جعلت السياسة الرسمية المتمثلة في "العفو وفقدان الذاكرة"من الصعب على الشعوب طي صفحة الحرب الأهلية، بل على العكس من ذلك تركت ملف الحرب الأهلية مفتوحاً. وقد خلق كل ذلك الزخم للناس لبدء المخيمات مثل تذكرة عدم العودة في إشارة الى أغنية للمطرب اللبناني الشهير زياد الرحباني) من قبل لجنة عائلات المختطفين والمختفين. ودعت الحملة إلى إعلان يوم 13 نيسان/أبريل "يوماً وطنياً للذكرى" لاستخلاص الدروس من الحرب الأهلية. أما في العراق فإن الطائفية أصبحت بفضل الاحتلال وأدواته حقيقة سياسية وإدارية تكرس وتدعم من قبل دول مجاورة.
يجب أن تستخدم تجربة جنوب إفريقيا في محاكمات لجنة المصالحة والحقيقة في كل من لبنان والعراق بما يعمل على تذكير الجمهور بالحرب الأهلية بطريقة مهمة لصحة لبنان والعراق ولعلاج العلل التي أنشأتها تلك الحرب (Haugbolle, 2010). بدأ الكثيرون يصفون "ترسيخ الطائفية" من الناحية المرضية بأنها مرض لبنان الذي يحتاج إلى علاج. وسيحتاج ذلك إلى تحول في الحوار السياسي عن طريق تحويل تركيز المعاناة العامة من "الإرهاب إلى الصدمة" (Haugbolle, 2010) (نظرة همفري، 2002، P106). وقد ساعدت المظاهرات العامة والاحتجاجات الجماهيرية في كل من لبنان والعراق إلى إنشاء تحالف "عبر طائفي". (Haugbolle, 2010). ولكن دور الدول الإقليمية يبقى عائقا في تمكين مثل هذه المصالحة.
المصادر:
عدنان حب الله (1998): الصدمة النفسية أشكالها العيادية وأبعادها الوجودية - بيروت: دار الفارابي للنشر والتوزيع.
محمد أحمد النابلسي (1991): الصدمة النفسية - علم نفس الحروب والكوارث - مجموعة من الباحثين. بيروت: دار النهضة العربية.
References:
Abbasi, M.J., Alhemiaryb,N, Abdul Razaqc, E., Naoshd, S., Applebye, L. (2018) The Iraqi national study of suicide: Report on suicide data in Iraq in 2015 and 2016. Journal of Affective Disorders 229 (2018) 56–62
Dagher, Fiollet (1995) Sectarianism and Human rights. Cairo: Cairo Centre for Human Rights.
Haugbolle, Sune (2010) War Memory in Lebanon. Cambridge: Cambridge University Press.
Houbballah, Adnan (1998) Destin Du Traumatisme, Comment faire son deuil. Paris: Hachette Litératures.
Karam, E., Mneimneh, Z., Karam, A. Fayyad, J., Nasses, S., Dimassi, H., et al (2008) Mental Disorders and War in Lebanon. In R. Kessler, J., T. Üstün (Eds.), The WHO World Mental Health Surveys: Global perspectives on the epidemiology of mental disorders (pp. 265-278) Cambridge: Cambridge University Press.
Khatib, Lina (2008) Lebanese Cinema, Imagining the Civil War and Beyond. London: I.B.Tauris.
Kleinman AM. (1977) Depression, somatization and the "new cross-cultural psychiatry". Social Science & Medicine. 1977; 11(1):3-9.
Sadik S, Bradley M, Al-Hasoon S, Jenkins R. (2010) Public Perception of Mental Health in Iraq. International Journal of Mental Health. 2010, 4: 26.
واقرأ أيضاً:
الجزيرة في الذكر والأنثى وآثار الصدمات / الصدمة النفسية وتعب الرحمة بين المعالجين العرب2