المعضلة:
معضلة المشكلات أمام المسلم المعاصر هو ما يعتقده الناس أن الجني يدخل في الإنسي ليَضُرّه، وقد ينطق عند الشيخ على لسان هذا الممسوس، وقد يخرج منه أو يأبى الخروج. هذا ما رأيته عندما كنت أرافق الشيخ علي خشان في دبي عامي 1990 و1991 حيث كان يدعى إلى بيوت الناس ليعالج مرضاهم. يقرأ الشيخ، ويبدأ المريض بالتشنج في أجزاء من بدنه، وبالدخول في نوع من الوعي، هو بين الوعي المألوف وبين النوم، فلا هو في وعي تام ولا هو نائم، ويبقى غالباً قادراً على الكلام. يسأله الشيخ: من أنت؟ ومن أي جن؟ فيجيب المريض معرفاً بنفسه أنه الجني الفلاني، وأنه دخل في هذا المريض لسبب كذا وكذا، فيأمره الشيخ بالخروج فيخرج دون شروط، أو يشترط أموراً ومطالب حتى يخرج، وعندما يخرج الجني يصحو المريض مرهقاً، وفي كثير من الأحيان يتحسن ما كان يشكو منه، ولا يذكر حواره مع الشيخ.
من أئمة المسلمين الكبار من كان يمارس هذه الطريقة من العلاج ويراها منسجمة مع العقيدة الإسلامية، بل يفسر بعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة بحسب ما يرد على ألسنة المرضى من معلومات يدلي بها الجني أثناء استحضاره وإخراجه، ويرون هذه الحوارات مع الجني دليلاً على صحة فهمهم للنصوص الدينية لا يحتمل الشك، لأنه من الواقع المنظور الذي لا يجادل فيه إلا مكابر.
دخول الجني في الإنسي وكلامه على لسانه لم يرد في آية ولا في حديث صحيح، لذلك ليس هو معلوماً من الدين بالضرورة ولا يكفر من ينكره، مع أن عموم أهل السنة يؤمنون بذلك. نؤمن بالجن وأن منهم شياطين ومنهم مؤمنون، وأنهم مخلوقات مُكَلَّفَة كالبشر، لكنهم ليسوا مستخلفين عن الله مثلنا، وأنهم يروننا من حيث لا نراهم، بل نؤمن بوجودهم بالغيب طالما ذكرهم الله بوضوح في قرآنه، وذكرهم محمد صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة. لكن الإيمان بما جاء في القرآن والحديث عن الجن شيء، والإيمان أن الجني يدخل في بدن الإنسي ويتكلم على لسانه شيء آخر. هذا الاعتقاد دخل إلى العقيدة الإسلامية من كلام المرضى عند العلاج عند الشيخ.
لم يخطىء المسلمون حين فهموا آيات وأحاديث في ضوء ادعاءات المرضى وهم في جلسات العلاج، لأن الاستفادة من حقائق الواقع في فهم آية أو حديث منهج سليم، فالواقع تتجلى فيه آيات الله المنظورة التي لا يمكن أن تناقض آيات الله المسطورة في كتابه الكريم. المشكلة أن الواقع الذي ظنوه حقيقة وفهموا النصوص على أساسه واقع يحتمل تفسيراً آخر، رغم أنه في الأصل واقع فاقع اللون وتراه كل عين. لا تستغربوا فليس في الواقع آية أوضح من شروق الشمس من المشرق وتحولها إلى كبد السماء في النهار ثم غروبها من المغرب، ومع ذلك تبين أن أرضنا هي التي تدور حول نفسها دوراناً لا نشعر به أبداً يجعل الشمس تبدو لنا قد أشرقت من الشرق ثم غربت من الغرب.
ما يقوله الجني المزعوم على لسان المريض ليس وهماً بل هو حقيقة رأيتها بعيني مرات كثيرة، وكان واضحاً لي أن المريض لا يتعمد التمثيل، بل قد لا يعي على الإطلاق ما يقول، وعندما يصحو لا يذكر من ذلك شيئاً. لذلك لا ألوم الناس الذين يتشبثون بهذا الاعتقاد، إذ كيف سيكذبون عيونهم وآذانهم ليصدقوني أنها أمراض وأحوال نفسية. اليوتيوب زاخر باللقطات الواضحة التي تم فيها علاج مرضى حقيقيين وتكلم الجني على لسانهم، ولم يكن ذلك تمثيلاً درامياً في فيلم سينمائي. ما عليكم إلا أن تكتبوا في خانة البحث في اليوتيوب: "إخراج الجن من الإنسان" لتروا عدداً يصعب إحصاؤه من هذه اللقطات الطويلة منها والقصيرة، ولتروا بأعينكم ما كنت محظوظاً أن رأيته بفضل صديق عزيز واعظ وعلى علم وتخصص ديني كان يعالج الناس من المس والسحر والعين ومخلصاً في عمله قال لي يومها: "إما أن تقنعنا وإما أن نقنعك".
الذي رأيته أن الحالات التي يعالجونها كلها إما حالات نفسية أو بدنية مما نراه في المستشفيات كأطباء، ولا أنكر أن بعضهم يتحسن بالعلاج على يد الشيخ. لقد ذكرتكم بشروق الشمس وغروبها الذي ثبت للبشرية أن حقيقته غير ظاهره، ولم يعد هنالك أي شك في أن الشمس لا تشرق من الشرق ثم ترحل لتغرب من الغريب، بل أرضنا تدور حول محورها متعرضة للشمس حتى الغروب، وهكذا هي حال ما نراه في جلسات العلاج عند الشيخ. هنالك من يتكلم، وقد يتكلم بنبرة صوت مختلفة عن نبرة صوت المريض المعتادة، بل قد يتكلم كلمات بلغة غير لغة المريض، ويقول إنه جني أو جنية من دين كذا أو كذا، ويساوم على الخروج من المريض، ويخرج منه دون أن نرى عند خروجه شيئاً بأعيننا، لكن عند خروجه يصحو المريض لا يذكر شيئاً مما وقع وهو تحت العلاج، ويبدو المريض صادقاً لم يمثل دوراً اتفق عليه مع الشيخ أو لم يتفقا.
الهُوية:
السؤال هنا: إن دوران الأرض حول نفسها يفسر شروقها في الصباح من المشرق وغروبها في المساء من المغرب، لكن ما الذي يفسر ما يراه الشيخ ويراه الناس عندما يعالج الشيخ بعضهم؟
لا بد لنا لتفسير ذلك من أن نستوعب مفهوم الهُوية Identity التي يكوِّنها كل إنسان خلال طفولته ومراهقته ليقول: إنه فلان أو فلانة من قوم كذا وعائلة كذا ودينه كذا أو لا دين له ومهنته كذا وغير ذلك مما يمكن أن يجيبك به إن أنت سألته: من أنت؟. هي هُوية يتبناها الإنسان منذ أن يأتي إلى الدنيا، فينادونه باسم معين، ويعاملونه على أنه ذكر أو أنثى، وأنه ابن فلان وفلانة، ومن القوم المعينين والدين المحدد، إلى غير ذلك من صفات يتقمصها، فتكون صفاته التي تميزه عن غيره من البشر. هذه الهُوية تتكون بعد الولادة ولا تولد معنا.
يكفي أن أتخيل أني أنا نفسي، ولكن لخطأ ما، ربتني أسرة أخرى، ربما من دين آخر ولغة أخرى، وهي تظنني ابنها، فأعطتني اسماً غير اسمي الحالي، ونسباً غير نسبي الحالي، ولساناً وديناً غير ما أنا عليه الآن. سأبقى أنا ذاتي، أي بلحمي وجسدي وجيناتي نفسها، لكني لن أكون الشخص نفسه، بل ستكون لي هُوية مختلفة تماماً اكتسبتها من تربيتي ابناً لأسرة أخرى من قوم آخرين. عندما ألقى ربي يوم القيامة سأكون بالنسبة له الشخص ذاته، لأنني الجسد والروح ذاتها، لكن اسمي يختلف وثقافتي وغير ذلك، أي هُويتي هي التي ستختلف بينما سأكون أنا أنا، لا أحد غيري.
نحن في زمن أصبحت الدراما والأفلام والمسلسلات أساسية في حياتنا، وفيها يقوم ممثل ما أو ممثلة بدور شخصية من شخصيات الفيلم هي بالتأكيد ليست شخصيته الأصلية، لكنه يتقمص اسم هذه الشخصية وصفاتها ويعيش الدور طالماً يؤديه على المسرح أو أمام الكميرة. قد يندمج بالدور اندماجاً قوياً ينسى للحظات من هو، ويعيش الهوية الجديدة التي يقوم بدورها، لكنه واعٍ تماماً أنها ليست هويته الحقيقية، إنما هو عمل درامي يقوم به، وعند انتهاء التمثيل يعود إلى هويته ويسعد بنجاحه في تأدية الدور ونيل إعجاب الناظرين.
الهُوية التي يكوِّنها كل واحد منا تلازمه طيلة حياته، ولا ينسى عادة في لحظة من اللحظات من هو، أما الممثل البارع فيعيش الدور دون أن يفقد هويته الحقيقية حتى وهو مندمج بالدور كل الاندماج. لكن في الواقع هنالك من يؤدي دوراً بهوية غير هويته ويتصرف بتصرفات غير تصرفاته المعهودة وباسم غير اسمه وربما جنس غير جنسه، أي يبقى الإنسان ذاته لكن بهوية مختلفة، كما يكون الممثل البارع وهو يؤدي دور شخصية معينة، لكنه بخلاف الممثل ينسى أنه يمثل، فيتقمص الهوية الجديدة ويعيشها بجد وصدق لفترة من الزمن قد تكون دقائق معدودة أو ساعات وفي حالات نادرة أياماً. هذه حالة مرضية يسمونها في الطب النفسي "تعدد الهُويات" لأن الإنسان هو ذاته، لكنه يتقمص هوية غير هويته، وعندما يعود لهويته الأصلية لا يذكر الأحداث التي وقعت له وهو يعيش الهوية الأخرى، وهذا هو الفرق بين التمثيل على المسرح وتعدد الهويات المرضي.
تعدد الهويات:
هذه الحالة نادرة الحدوث، تحدث عند بعض الأشخاص لأسباب نفسية بحتة وتسبب لهم الإرباك في حياتهم، وهي لندرتها قد يتشكك الكثيرون في وجودها، لكنها موجودة ورأيت حالات منها، رأيتها عندما كانت المريضة تعيش الهوية المغايرة لهويتها الأصلية. في خمسينيات القرن العشرين انتبه معالج نفسي أمريكي لحالة مريضة تعاني من هذا الاضطراب وتنتابها نوبات بهويتين غير هويتها الأصلية، فكتب الرجل قصتها وقصة علاجه النفسي لها في كتاب بعنوان "الوجوه الثلاثة لحواء" The Three faces of Eve ثم صنعوا فيلماً سينمائياً عن حالتها مبذول على اليوتيوب.
بعدها اشتهرت مريضة أخرى ونشرت قصتها في السبعينيات باسم سيبل SYBIL وهي كالأولى موجودة على النت على pdfdriver.com والفيلم على اليوتيوب. بعد انتشار قصة هاتين المريضتين تنبه الأطباء والمعالجون النفسانيون لهذا المرض ونشرت تقارير عن أكثر من مئة حالة موثقة، وقامت الجمعية الأمريكية للطب النفسي بإضافة هذا المرض لتصنيفها للأمراض النفسية، وأسمته اضطراب تعدد الشخصية Multiple Personality Disorder ولكنهم فطنوا بعد ذلك إلى أن المشكلة هي في الهُوية وليست في الشخصية، وإلى أن الحالة نوع من الفُكاك Dissociation في الوعي مثل الحالات الهستيرية، فغيروا اسم المرض في آخر طبعة من تصنيفهم للأمراض النفسية إلى "اضطراب الهُوية الفُكاكي" Dissociative Identity Disorder .
المهم أن هذا المرض قليل المصادفة في العمل بالطب النفسي كحالة مرضية تكون هي المشكلة التي من أجلها يأتي المريض إلى الطبيب، لكنها حالة تحدث كثيراً عند تنويم المريض مغناطيسياً، أو تنويمه غير الكامل دوائياً من أجل محاورته، وهو في حالة تضعف فيها مراقبته الواعية لعقله، فيبوح بمكنونات اللاشعور عنده، التي قد تكون هي السبب في اضطرابه النفسي، كما تحدث هذه الحالة بسهولة وتلقائية عند كثير من الناس عند الشيخ الذي يحاول إخراج الجن منهم، أو عند القسيس أو حتى في المعابد الهندوسية، ويكفي أن نبحث في اليوتيوب عن مُخْرجي الأرواح الشريرة، أو إخراج الأرواح الشريرة Exorcist or Exorcism لنجد الكثير الكثير من الأفلام الدرامية والوثائقية عن إخراج الجني من الإنسي في أمريكا أو الهند أو البلاد العربية، وكيف يتكلم الجني على لسان المريض بفعل الآيات القرآنية أو تمتمات مسيحية مناقضة للقرآن تماماً تدعي ألوهية المسيح عليه السلام، أو تعاويذ هندوسية أو بوذية، أو ربما دون آيات ولا تعاويذ، إنما مجرد سؤال المريض: "من أنت؟".
ويتبع >>>>>: حقيقة المس الشيطاني2
واقرأ أيضًا:
أسس النظرية النفسية الإسلامية الأولى(1-4) / الاستشفاء بالقرآن في الطب النفسي المعاصر