لسنا مجانين* ولكنا مصدومين
الجنون هو اسم مشتق من معتقد عرب ما قبل الإسلام بأن من يصاب باضطراب نفسي فإن ذلك سببه تلبس هذا الشخص بالجن. وكان العرب في ما قبل الإسلام يعتقدون بأن الجن يملأ الصحراء بقبائله وعادة ما يكون غير مهتم بالبشر ولكن في حالات معينة يمكنه أن يتحول إلى قوة معادية للناس وخصوصا قبائل الجن التي تسكن في الينابيع والمنازل القديمة فإن قبائل الجن هذه قد تهاجم البشر أحيانا برماحها، مسببه الأوبئة مثل الطاعون (الذي يسببه -حسب اعتقادهم- "طعن" رماح الجن الغزاة لقبيلة أو قرية أو مدينة). ولذلك، كان المصطلح مجنون يشمل في الأصل أمراضا عديدة منها الأمراض النفسية ولكنه بالتدريج أصبح يعني وفي فترات متأخرة ما قبل الإسلام أي حالة متغيرة للوعي بما أصبح يشير إلى أشكال مختلفة من الأمراض التي تؤدي إلى تغيير في سلوك المريض وأفعاله وأقواله (Dols, 1992, p215).
لقد أثار الدكتور جمال أبو حسن (الأستاذ في جامعة الزرقاء في علوم القرآن) في العام 2002 زوبعة في العالم العربي عندما صرح من على شاشة إحدى القنوات الإخبارية بأنه ليس هناك أي سورة في القرآن تؤكد المعتقد الخاطئ في المجتمعات الإسلامية عن التلبس بالجن. لقد أكد أن القرآن ذكر فقط بأن بإمكان الجن بصورة عامة والشيطان بصورة خاصة الوسوسة للبشر لإقناعهم بالابتعاد عن الدين. وفي بحث متوفر على الإنترنت عرض كل الآيات القرآنية وأحاديث النبوية للرسول (ص) التي تناولت الجن لإثبات عدم وجود أي دليل ديني على معتقد التلبس بالجن الذي يدعي الكثيرون (حتى من الأطباء النفسانيين) بأنها تسبب المرض النفسي (Abu-Hassan, 2009, P23).
من ناحية أخرى فإن أشهر عالم للصدمة النفسية في العالم باسيل فان دير كولك حدد بأن الصدمة لا تسبب الاضطراب الكربي التالي للصدمة فحسب ولكن أيضا كل الأمراض النفسية بما في ذلك مرض الفصام. ولكن أرجع فان دير كولك هذه المشكلة إلى قصور في الطب النفسي الذي وحسب رأيه ما زال يمارس طب القرن التاسع عشر الذي كان يصف الأمراض بأمراض الحميات والطفح الجلدي وما إلى ذلك. التصنيفات الطبية النفسية تعتمد بصورة رئيسية على الأعراض وليس الأسباب كما في اختصاصات الطب الأخرى لتشخيص "اضطرابات" الاكتئاب والقلق والرهاب والهلع دون النظر في أسباب هذه الأعراض (van der Kolk, 2014, p 164).
إن إحدى الصفات الأساسية للصدمة النفسية بأنها تحطم معتقد أساسي وضروري للعيش المتوازن ألا وهو أننا نعيش في عالم آمن. وهذا المعتقد هو من المعتقدات التي نخلقها بصورة تلقائية وغير واعية منذ الطفولة وتساعدنا على العيش بسلام بدون أن نفكر بذلك ونؤمن بها كما نؤمن بحقيقتنا أو بحقيقة أن الشمس ستشرق في الصباح. إن هذا المعتقد يساعدنا على أن نشعر بالأمان والطمأنينة والثقة بالنفس. وهذا الشعور هو شعور لا إرادي يطمئننا بأننا بعون الله سوف نعيش يومنا هذا ولن يحدث أي شيء ينغصه أو ينهيه. ولكن هذا المعتقد الذي يساعدنا أن نؤدي وظائفنا ونستمتع بوقتنا وصحبتنا يتعرض للخطر مع الأحداث الصادمة والكبيرة والفظيعة والتي كثيرا ما تعمل على تحطيم هذا المعتقد الضروري بطريقة لا رجوع عنها إلا بالعلاج الطويل.
ويعد الاضطراب الكربي التالي للصدمة من أكثر الاضطرابات شيوعا في عالم اليوم. لقد قدر أحد خبراء منظمة الصحة العالمية بأن هناك حوالي 500 مليون مصابا بهذا الاضطراب في العالم على أقل تقدير (Carriere, 2014) وسبب هذا المعدل أنه في عالم اليوم تظهر الصدمة ليس فقط بسب ازدياد الصراعات والحروب ولكم أيضا بسبب العنف الاجتماعي الذي يبدأ من البيت وكما قال فان دير كولك فإنه 'للكثير من الناس الحرب تبدأ في البيت: كل سنة هناك حوالي ثلاث ملايين طفل في الولايات المتحدة يتم التبليغ عن كونهم ضحايا لإساءة معاملة الأطفال وانتهاك حقوقهم وإهمالهم... وبعبارة أخرى، لكل جندي أميركي يعمل في منطقة حرب في الخارج، هناك عشرة من الأطفال يعرضون للخطر في بيوت أهليهم' (van der Kolk, 2014, p136-168).
تؤثر التجارب الصادمة وتولد الأحاسيس الأعمق في الأنفس وتؤسس لعلاقة جديدة مع الواقع المادي – وجوهر ما يكون الإنسان. وقد تعلمنا كأطباء نفسانيين، من خلال معالجة مرضى هذا الاضطراب، أن الصدمة ليست مجرد حدث وقع في وقت ما في الماضي؛ بل إنها البصمة التي خلفتها تلك التجربة في العقل والدماغ والجسم. لهذه البصمة نتيجة مستمرة لاختلال الميكانيكية التي أودعها الله في الكائنات البشرية لإدارة أمورها للبقاء على قيد الحياة في أوقات الخطر. ولكنها وباستمرار الكرب والضغط النفسي قد تُفعل في مناسبات لا تمثل مطلقا خطرا حقيقيا. نفس الميكانيكية التي استعملها الإنسان للبقاء وسط الأخطار المترافقة بالعيش كإنسان بدائي في مواجهة الحيوانات المفترسة في الغابة تتنشط بسبب ضغوط العمل الكربية لتكون موجهة تجاه الرؤساء في العمل أو العملاء الغير سعيدين بالخدمة المقدمة لهم بما قد يؤدي إلى نتائج كارثية للشخص ولفرص هذا الشخص بالتقدم والترقية أو حتى البقاء في هذا العمل.
وهناك أسباب متعددة لازدياد اضطرابات الصدمة في العالم. فبالإضافة إلى الكوارث الطبيعية التي تزداد بسبب عدم اعتناء الإنسان ومنذ الثورة الصناعية بالبيئة وتزايد التلوث والمخاطر البيئية الناتجة عن هذا التلوث وعن الحوادث الصناعية بما في ذلك التلوث النووي. بالإضافة إلى أسباب أخرى للصدمة تتعلق بازدياد المشاكل السياسية والاجتماعية مثل أزمة اللاجئين والفقر والاتجار بالبشر والعنف تجاه المرأة الشائع بصورة خاصة في الدول النامية والتي منها دولنا العربية. كل ذلك يستدعي رد فعل ومن مختلف الهيئات الدولية والوطنية للتعامل مع أسباب الصدمة ومنع استمرار وتصاعد انتشارها المذهل. ولكن في تلك الأثناء يجب علينا مد يد العون لمن يعانون من آثار الصدمة الكارثية في حياتهم اليومية.
إن علاج إبطال التحسس وإعادة المعالجة (الإمدر) والعلاج السلوكي المعرفي الموجه للصدمة يعدان من أهم وسائل الخط الأول لمساعدة المبتلين باضطرابات الصدمة النفسية. لقد شعرت بأني أمارس طب نفس القرن الواحد والعشرين لأول مرة عندما أكملت تدريبي على علاج الإمدر وبدأت باستعماله لمساعدة مرضاي. لقد وصف خبير منظمة الصحة العالمية أنف الذكر الأمدر بأنه من أهم الاكتشافات في حقل الصحة النفسية وله إمكانية المساعدة ضمن الإطار العالمي في إشاعة وتقوية الصحة النفسية بمثل ما كان لاختراع البنسلين ولقاح شلل الأطفال من أثر في جانب الصحة البدنية.
لقد أثبت الإمدر أنه علاج فعال ليس فقط للاضطراب الكربي التالي للصدمة ولكن لكل اضطرابات القلق مثل الهلع والرهاب ولكن أيضا اضطرابات المزاج مثل الاكتئاب والاضطراب الثنائي القطبية وأخيرا أثبتت دراسة في هولندا باستعمال الإمدر لمعالجة الاضطراب الكربي التالي للصدمة في مرضى الفصام بأن الإمدر لا يحسن أعراض الاضطراب الكربي التالي للصدمة فحسب ولكن أيضا الأعراض الذهانية للفصام بما يدلل على أن كل هذه الأمراض قد تسببت عن صدمات نفسية قد يذكرها أو لا يذكرها المريض (Croft etal. 2018).
وإن دراسة علم نفس الصدمة وعلاج اضطرابات الصدمة هو مهم للأطباء والاختصاصيين النفسانيين ولكل المشتغلين في مجال الصحة النفسية وذلك لأن دراسات مركز السيطرة على الأمراض في الولايات المتحدة أثبتت بأن أكثر من نصف الناس الذين يراجعون لطلب العناية النفسيّة لديهم تاريخ ماضي للصدمة بأنهم كانوا قد تعرضوا للضرب والترك والإهمال أو حتّى الاغتصاب عندما كانوا أطفالا، أو أنهم قد شاهدوا هذا العنف في الأسرة في صغرهم (Felitti, et al. 1998). هذه الدراسة التي تدعى بدراسة التجارب المحنية في الطفولة ACE Study قد أثبتت أن الصدمات في الطفولة لا تسبب مختلف الأمراض النفسية ولكن أمراض جسمية خطيرة بما في ذلك السرطان في البلوغ.
لذلك فإن من الضروري بمكان العمل على الوقاية من ومعالجة الصدمات وتوفير العلاجات المستندة على الدليل العلمي مثل علاج إبطال التحسس وإعادة المعالجة بحركات العين EMDR لتأمين الوقاية من حدوث أمراض الصدمة النفسية والجسمية المزمنة. إن العالمة الأمريكية شابيرو (2001) قد اكتشفت ما دعته بعلاج المعلومات التكيفي (AIP) كنموذج للعلاج النفسي الذي يفترض أن معظم الأمراض النفسية تتسبب عن تشفير مضطرب أو ناقص لذاكرة الأحداث والصدمات وهذا يعرقل المعالجة الطبيعية (التكيفية) للتجارب والصدمات المؤلمة أو المقلقة. وهذا بدوره يضعف قدرة الفرد لاستكمال معالجة هذه التجارب بأسلوب تكيفي. إن المراحل الثمان المتشعّبة لعملية علاج حركات العين EMDR تعمل على تسهيل استئناف تشغيل المعلومات والتكامل الطبيعي لها. إن هذه النظرة العلاجية الجديدة، التي تستهدف التجارب الماضية والمحفزات الحالية وكذلك التحديات المحتملة المستقبلية، يؤدّي ليس إلى تخفيف الأعراض الحالية ولكن منع انتكاس الاضطرابات النفسية كما أظهرت الدراسات.
إن دراية المعالجين السريريين بعلم نفس الصدمة مهم جدا للوصول إلى التشخيص الصحيح. فبدون أخذ هؤلاء المعالجون لتاريخ وافي للصدمة فإن ذلك سيؤدي إلى التشخيص الخطأ. لقد رأيت ومن خلال ممارستي الطويلة للطب النفسي في المملكة المتحدة أن هناك الكثير من المرضى الذين يشخصون بأمراض مثل الاضطرابات الذهانية وهم في الحقيقة يعانون من اضطرابات الصدمة والتفارق المصاحب لها. فعندما لا يسأل المعالج عن الصدمة النفسية المسببة ويشاهد ويقيّم فقط الأعراض مثل درجة الاستثارة وفرط اليقظة للاضطراب الكربي التالي للصدمة فيمكن في بعض الأحيان خطأ تشخيص الوسواس القهري أو الهلع وغيرها من اضطراب القلق وإذا كان المعالج يرى أعراض التجنب فيمكن أن يشخص الاكتئاب، أما إذا كان هذا المعالج يرى كلا من هذه الأعراض فيمكن أن يشخص إلى تشخيص الاضطراب الوجداني ثنائي القطبية وإعطاء أدوية قوية بدون داعي. وهذا يوضح أهمية أن معرفة الطبيب والمعالج النفساني بعلم نفس الصدمة وأن يسأل المريض دائما عن وجدود الصدمة فبعكس ذلك فإنه لن يكتشف أن المشكلة راجعة إلى رد فعل أو تأقلم الشخص مع هذه الصدمة.
وهذا الاستنتاج هو جمع لما أجريته من بحوث وتدريس خلال عملي التطوعي مع برنامج عون الصدمة للمملكة المتحدة (المسمى سابقا برنامج المساعدة الإنسانية) ومنذ عام 2013 في تدريب المشتغلين مع اللاجئين في مناطق مختلفة من الوطن العربي التي ابتليت بالصراعات منذ حرب العراق وما دعي بالربيع العربي. لقد اشتغلت في هذا المشروع مع أساتذة كبار في هذا الموضوع ساعدوني على امتلاك ناصية هذا العلم الجديد والحيوي. من هؤلاء البروفسور جيمي هكر هيوز أستاذ علم نفس الصدمة النفسية ومشرفي خلال تدريبي على الإمدر وكذلك الأستاذة شان مورغن رئيسة برنامج عون الصدمة والمدربة المعتمد في رابطة الإمدر الأوربية وكذلك الأستاذة منى زغروت مدربة الإمدر الأولى عربيا والتي دربتها فرانسين شبيرو مكتشفة العلاج. ولا يفوتني أن أذكر أن لقائي بالعلامة باسيل فان دير كولك في مؤتمر الرابطة الأوربية للإمدر الذي عقد في مدريد، أسبانيا في العام 2012 كان له أعظم الأثر في اهتمامي بهذا الموضوع المهم. ولقد دأبت منذ لقائي به وسماعي لمحاضراته إلى متابعة وقراءة كل بحوثه. وأود أن أضيف إلى قائمة من أضافوا إلى معلومات هذا الكتاب إرك جنتري والذي تعلمت منه خلال دورة تدريبة في علم الصدمة ومن كتابه وبحوثه الكثيرة خصوصا في موضوع تعب الرحمة الكثير.
* في القرن التاسع عشر وفي المملكة المتحدة بالتحديد كانت كلمة المجنون (Mad) لا تطلق على المرضى النفسانيين فحسب وإنما على الأطباء النفسانيين الذين يعالجونهم والذين كانوا يدعون بالأطباء المجانين (Mad Doctors) لذلك وجب علينا كأطباء نفسانيين أن نقف مع مرضانا ضد الوصمة.
المصادر:
Abu-Hassan, J.M.A. (2009) The relationship between man and Jinn as demonstrated by the Holy Quran (in Arabic). http://www.bayan-alquran.net/forums/showthread.php?t=3667 .
Croft, J, Heron, J, Teufel, C, Cannen-M, Walke, D, Themason, A,. Houtepen, L, Zammit-S. (2018) Association of Trauma Type, Age Of Exposure, and Frequency in Childhood and Adolescence With Psychotic Experiences in Early Adulthood. JAMA Psychiatry 2018 Nov 21. doi: 10.1001.
Dols, Michael W.,(1992) Majnūn : the madman in medieval Islamic society. (Oxford : Clarendon Press, 1992).
van der Kolk, B. (2014) The Body Keeps the Scores. Pinguine.P49.
واقرأ أيضاً:
الصدمة النفسية وتعب الرحمة بين المعالجين العرب2 / ما يحدث في العراق ولبنان من وجهة نظر طبنفسية: