أراد الله أن يخلق بشراً من طين يقوم بالتصرف في الأرض كخليفة عن الله يتخلق بأخلاقه، ويتصرف كما كان الله ذاته سيتصرف لو كان مكانه، وهذا بالضبط ما يقوم به أي خليفة في غياب من استخلفه ووضعه مكانه ريثما يعود من غيبته أو يفرغ من انشغاله. بالطبع ربنا لا يغيب ولا يشغله شيء عن شيء، إنما أراد استخلاف الإنسان في الأرض ليرى ما سيفعله هذا المخلوق المصنوع من مادة الأرض، حيث يتصرف كما يمكن أن يتصرف الخالق ذاته. إبداع ما بعده إبداع وعظمة ما بعدها عظمة.
أن يكون الإنسان خليفة الله في أرضه يعني أن له مكانة سامية ليس فوقها إلا مكانة رب العالمين الذي استخلفه، لذلك أمر ربنا ملائكته أن يسجدوا لآدم سجود التحية، وليس سجود العبادة، بمجرد أن يخلقه الله وينفخ فيه من روحه.
كان مع الملائكة مخلوق من نار، عابد لله عبادة فائقة، أهلته أن يعيش مع الملائكة المخلوقين للطاعة والعبادة، مع أنه مخلوق للابتلاء والاختبار، حيث لديه القدرة على المعصية والتمرد، بينما الطاعة هي طبيعة الملائكة التي لا يستطيعون الخروج عليها ولو شاؤوا، وما كان لهم أن يشاؤوا ما لم تودع نفوسهم الميل له.
كان إبليس العابد لله مع الملائكة مع أنه من الجن، أي مخلوق أرضي مثل آدم. ولما كان إبليس مع الملائكة كان عليه أن يسجد لآدم سجود التحية كما سجدت له الملائكة كلهم، إلا أنه أبى السجود وتمرد على أمر الله.
إبليس العابد الذاكر المتقرب إلى الله، كان مستكبراً لا يرى فوقه أحداً إلا الله، وكانت تحيته لآدم بالسجود إقراراً منه أن لآدم مكانة تفوق مكانته... ثارت كبرياؤه فعصى الله، وأدعى أنه خير من آدم، لأنه مخلوق من النار، بينما آدم خلق من طين.
لقد عصى إبليس ربه وفقد المكانة التي كانت له عند الله، حيث مكانة المخلوق عند الخالق سبحانه وتعالى تسمو وتعلو، بقدر ما يظهره هذا المخلوق من حب وطاعة لله؛ وكان أن تعامى إبليس كما يتعامى فاسدوا الشخصية المتمردون على القيم والأخلاق والشرائع عن مسؤوليتهم ودورهم في المصائب التي يجلبونها لأنفسهم والجرائم التي يرتكبونها، فيلومون غيرهم بدل أن يلوموا أنفسهم... هذا ما فعله إبليس حين توجه باللوم إلى رب العالمين، على أنه كرّم آدم عليه، فاضطرته كبرياؤه، أي إبليس إلى الوقوع في الغواية والتمرد على الله، وفقد المكانة المتميزة التي كانت له عند الله؛ اعتبر إبليس رب العالمين هو من أغواه وأخرجه مما كان فيه من قرب من الله، لأنه لو لم يمتحنه هذا الامتحان الذي كان الله يعلم أن إبليس لن ينجح فيه، لو لم يمتحنه امتحاناً هو لا بد مخفق فيه، لبقي حيث كان مع الملائكة منتفعاً بذكره لله ومقرباً إليه.
امتلأت نفس إبليس حقداً على آدم، لأن الله كرَّمه عليه وجعله في مكانة أعلى من مكانته، وصمم على الانتقام من آدم وذريته بإغوائهم ودعوتهم إلى أن يقعوا فيما وقع هو فيه من معصية لله وتمرد عليه. وتحدى إبليس رب العالمين أن الله لن يجد أكثر بني آدم طائعين، بل سيغويهم ويضلهم انتقاماً منهم وإثباتاً لله أن آدم وذريته ليسوا خيراً منه، ولا يستحقون أن يكرمهم الله إكراماً يفوق إكرامه لغيرهم من المخلوقات. طلب إبليس من الله أن يمهله ولا يميته إلى يوم القيامة، كي يتمكن من تحقيق ما تحدى الله به من إضلال آدم وذريته. ربنا الحليم أمهله، وإبليس لم يضيع الفرصة، فوسوس لآدم وحواء أن يأكلا من شجرة حرمها الله عليهما في الجنة بينما أباح لهما أن يأكلا من ثمر الجنة ما يشاءان... خدعهما إبليس وأقسم لهما الأيمان أنه ناصح لهما، وأن الذي يأكل من الشجرة التي حرمت عليهما، يضمن الخلود فلا يموت أبداً، ويضمن الغنى فلا يفتقر أبداً. لقد علم إبليس نقطة الضعف عند الإنسان، وهي خوفه من الموت وخوفه من الفقر، فاستغل هذا القلق الوجودي لديهما وحثهما على الأكل من الشجرة، فنسيا تحذير الله لهما من أن ينجح إبليس في إخراجهما من الجنة، ونسيا أن إبليس عدو لهما ولا يمكن أن يدلهما على خير أبداً... فأكلا من الشجرة، فبدت لهما سوآتهما، أي مخارج البول والبراز منهما، التي خلقها الله فيهما حين خلقهما للأرض، يأكلان هما وذريتهما من ثمرها، فيتم هضم ما يأكلون وتنتج عنه فضلات لابد من إخراجها من أجسادهم، وإلا كانت أذىً يمكن أن يقتلهم... كانوا قبل ذلك يأكلون من ثمر الجنة الذي لا ينتج عنه بول ولا براز، إنما فضلاته يطرحها جسم الإنسان على شكل تعرق رائحته زكية تزيده نعيماً على ما هو فيه من نعيم.
بدت لآدم وزوجه سوآتهما عندما خرج منهما ما يقرف الإنسان منه ويشمئز ويخجل أن ذلك يخرج منه؛ عندها شعرا بضرورة ستر فتحات البول والبراز حتى عن بعضهما بعضاً، لأنها كانت تذكرهما بنقصهما البشري الذي به نشبه باقي الحيوانات. عاتبهما الله ولقنهما الدرس الذي يريدهما أن يستوعبانه، فأخرجهما من الجنة وأنزلهما إلى الأرض التي خلقهما بالأصل لها خلفاء له فيها، وأنزل معهما عدوهما اللدود إبليس، لتبدأ رحلة الصراع بين آدم وذريته من جهة، وإبليس وذريته من جهة أخرى.
التحدي كان من إبليس لله، لكن العداء والمعركة هي بيننا وبين إبليس وذريته من شياطين الجن، الذين أذن ربنا أن يلازم كلاً منا قرين منهم يحاول غوايته ويزين له معصية الله، ليتحقق النصر لإبليس في التحدي الذي دخله مع خالقه. نعم لكل من آدم وبنيه قرين من الجن أتباع إبليس سماهم ربنا شياطين، لأنهم متمردون مثل أبيهم إبليس، وفي لغة العرب كل عاتٍ متمردٍ من الجن والإِنس والدواب شيطان.
ربنا رحيم بنا وعادل معنا وما كان ليتركنا ضحايا الإغواء ثم يعاقبنا على معصيتنا له وهو يعلم ضعفنا وقابليتنا للخطيئة، فقيض لكل إنسان قريناً آخر من الملائكة يدعوه إلى الخير وإلى عدم الطاعة لقرينه من الجن الذي لا يمل من محاولة إغوائه وحثه على العصيان. لكل منا قرينان كما قال حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما مِنكُم مِن أحَدٍ، إلَّا وقدْ وُكِّلَ به قَرِينُهُ مِنَ الجِنِّ قالوا: وإيَّاكَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: وإيَّايَ، إلَّا أنَّ اللَّهَ أعانَنِي عليه فأسْلَمَ، فلا يَأْمُرُنِي إلَّا بخَيْرٍ". غَيْرَ أنَّ في حَديثِ سُفْيانَ: "وقدْ وُكِّلَ به قَرِينُهُ مِنَ الجِنِّ وقَرِينُهُ مِنَ المَلائِكَةِ."
وفي رواية عند الإمام أحمد: "ما منكم مِن أحدٍ إلا وقد وُكِّلَ به قرينُه من الجنِّ وقرينُه من الملائكةِ قالوا : وإيَّاك يا رسولَ اللهِ قال : وإيَّايَ لكنَّ اللهَ أعانني عليه فأسلمَ فلا يأمرُني إلا بخيرٍ".
القرين هو الشيطان يوسوس داعياً لنا إلى معصية الله والوقوع فيما حرمه علينا، والقرين الثاني هو الملاك يوسوس داعياً لنا إلى طاعة الله واجتناب ما حرمه علينا... دعوتان في الوقت نفسه باتجاهين متضادين، بحيث تُبْطِل دعوة الملك تأثير دعوة الجني، وتكون محصلة الدعوتين صفراً، وتبقى للنفس البشرية حريتها المطلقة، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ومن شاء فليُطِع الله ومن شاء فليَعْصِه، وفي الآخرة ثواب للطائعين وعقاب للعاصين.
الذي يلفت النظر في ديننا هو التركيز على الشيطان ووسوسته للإنسان بمعصية الله، ولوم الشيطان على غوايتة الإنسان دون إعفاء للإنسان من مسؤوليته عما يعمل، تركيز مذهل يتجلى في تكرار الكلام عن الشيطان والتحذير منه في القرآن والحديث، بينما ذُكر القرين من الملائكة مرة واحدة في حديث صحيح، ولم يذكر في حديث آخر ولا في آية قرآنية؛ ولابد من حكمة وراء ذلك من الحكيم الخبير الخلاق العليم الذي يعاملنا برحمته ويخوفنا من عدله.
إن هذا الإبراز لدور الشيطان في الوسوسة لنا بالسوء، وإغفال وسوسة الملاك لنا التي تبطل مفعول وسوسة الشيطان، مقصود كي نعزو أخطاءنا لوسوسة الشيطان ونعزو طاعاتنا لأنفسنا، إذ لا نذكر أن هنالك من يوسوس لنا بالخير؛ فنرضى عن أنفسنا ونتحمس أكثر للطاعات التي نراها نابعة من أنفسنا، ولا نمقت أنفسنا عندما نعصي الله لأننا نعزو ذلك إلى الشيطان الذي أغوانا، فنستغفر الله ونتوب إليه ولدينا الجرأة الأدبية على أن نعود له بعد أن عصيناه بكامل حريتنا وإرادتنا طالما أن الله قد وكل بكل منا ملاكاً يوسوس له بالخير ليبطل أثر وسوسة الشيطان له بالشر.
في علم النفس أبحاث كثيرة حول العزو Attribution وأهميته في حياتنا النفسية وبالذات في عواطفنا ومشاعرنا. ومن حيث رؤيتنا لمركز التأثير في حياتنا هل هو داخل أنفسنا أم خارجها، فيميل المعافى نفسياً منا لرؤية الفضل لنفسه في نجاحاته، وللوم العوامل الخارجة عن نفسه على إخفاقاته، بينما المكتئب يُفْرط في لوم ذاته وكرهه لها ورغبته في معاقبتها. ربنا أغفل ذكر القرين الملاك ودوره الإيجابي كي تبقى لدينا القدرة على الانحياز لأنفسنا، فنعزو إليها الخير وننفي عنها الشر، إنما نعزوه لوسوسة الشيطان.
ثم هنالك أثر آخر لإبراز دور الشيطان ووسوسته والتعتيم على دور الملاك ووسوسته، بحيث لا يخطر ببالنا إلا أن هنالك شيطان يوسوس لنا بالشر مع أن وسوسته تبطلها وسوسة الملاك ولا يكون لها أي أثر حقيقي على أفعالنا... الأثر الآخر هو أن لا نعزو رغباتنا فيما حرمه الله من شر لأنفسنا، بل نعزوها لغيرنا أي إلى الشيطان، مع أنها رغبات أنفسنا ومنا نابعة، فتتم عملية نفسية أدعوها الأَجْنَبَة estrangement حيث نعتبر رغباتنا المحرمة أجنبية strange عن أنفسنا، ونعتبرها منزلقاً يدعونا للوقوع فيها عدو لنا حريص على أن يقودنا إلى النار، فنكره هذه الرغبات، ويهون علينا عدم إشباعها والصبر على الحرمان منها حتى لو كانت فيها لنا لذة ومنفعة. بينما لو عزوناها لأنفسنا سنكون أكثر ميلاً إلى إشباعها حتى لو كانت محرمة، لأننا مفطورون على حب أنفسنا والتحيّز لها والاستجابة لها.
ربنا لم يكذب علينا عندما حدثنا مراراً وتكراراً عن وسوسة الشيطان لنا وعداوته لنا وحرصه على إخراجنا من رحمته، لكنه حمانا من وسوسة الشيطان بوسوسة تعادلها وتضادها في الاتجاه يقوم بها قرين لنا من الملائكة لا يفارقنا أبداً ولا يدع الشيطان ينفرد بنا لحظة واحدة. لقد أمهل ربنا إبليس وأذن له أن يجهد هو وذريته في محاولة إغوائنا، واستغل ذلك ليوهمنا أننا نحن الخيّرون دوماً، فنعزو لأنفسنا فعل الخيرات، وننسب ما نقع فيه من الشرور إلى ضعفنا واستجابتنا لوسوسة الشيطان، فلا ننتبه لدورنا نحن في الميل إلى المعاصي، مع أن الله ألهم نفوسنا فجورها وتقواها، وهدانا نَجْدين إما شاكراً وإما كفوراً، وفي ذلك تتجلى رحمة الله لنا ولطفه بنا وحرصه علينا، دون أن ينقص من حريتنا التي منحنا الله إياها في الدنيا شيئاً.
واقرأ أيضًا:
أسس النظرية النفسية الإسلامية الأولى(1-4) / الاستشفاء بالقرآن في الطب النفسي المعاصر