العقلانيون في كل المجالات منبوذون.. هذه حقيقة، لأنّهم يهددون أهمّ شيء عند الناس: "أمانهم العاطفي"
ربما نتصور العقلاني في ثنائية "العاطفي/العقلاني" وهذا خطأ... فالعقلانية ليست سعيا لإنكار العاطفة ولا دوافعها، بل هي أخذ بعين الاعتبار أمور متفاوتة متناثرة من دون الاقتصار على الجانب العاطفي... بكلمات أخرى الاختلاف الجوهري بين العاطفي والعقلاني هو أن الأول يعتبر الراحة النفسية إشارة على الصواب، أما الثاني فهو يتوجس من هذا المعيار ولا يُنكر العاطفة التي وراءه ويحتكم إليها ما دامتْ غير مضرة أو مخدّرة، وبهذا العقلاني الحقيقي هو الذي يقبل بل يراهن على عاطفة إيجابية مفيدة ولا يحاربها، فهو ليس آليا، بل عقله يعتبر كل الاحتمالات.
ولأن العقلاني منْ طبعه الميل لتقييم الأمور بشكل أكثر واقعية بعيدا عن اندفاعاته أو بحثه عن "الأمان" الذي تحتويه فكرة ما، أو اعتقاد ما، أو الطمأنينة التي يضمنها إنكار رأي ما. فهو منبوذ ويشكل مصدر توتّر وقلق للناس، ينظر إلى المآلات والتأثير بعيد الأمد أكثر من ابتهاجه لحلّ مؤقّت يخفض التوتر اللحظي ليمضي كلٌّ بإحساس الرضا الذي لا يتوافق بالضرورة مع مستوى النجاعة المطروحة، بل غالبا ما يتطارد معه، فكلما زاد الرضا كلما كان حلا ترقيعيا واهما بامتياز. وهذا ما يميّز الطريقة السطحية والاختزالية في التعامل مع الأمور (وهي طريقة الأغلبية للأسف)
أساليب الإنكار والاشمئزاز منهم، تأخذ أشكالا مختلفة، تارة يُتّهمون بالقسوة وقلة الإنسانية بسبب تعبيراتهم القاسية والحاسمة والتي لا تراعي تلك التراتبية في الأحداث، لكل حدث فيها طبطبة خاصة به، وكلمات مطمئنة مفرحة، بشكل متدرج، بل قد يشير إلى النتيجة النهائية التي غالبا ما تكون محبطة صادمة، وهي غير مقبولة أكثر من كونها مجهولة، وقد تكون غامضة ومبهمة وتحتاج نقدا وحكمة لإخراجها من الركام، وقد تختبئ فقط في خضمّ الأحداث وتقلباتها مما يجعل الثغرات كثيرة لحشو المثاليات والأماني على النفس والمجتمع.
المشكلة أن الذين يعادون العقلانية في تحليل الأوضاع، ويتخذون سبيلا رومانسية لتفسير الأحداث، يطالبون بالتفاؤل والروح الإيجابية، دوما وأبدا، فهُم يريدونها هي وحدها وليس من باب الموازنة حتى لو زعموا ذلك... كمن يقول لك "انصحني بلطف" وما هو بمتقبّل حتى لو جاءته النصيحة بألطف وأظرف عبارة...
أو يُعتبرون منطقيين أكثر من اللازم، باردون في مواضع يُراد لهم أن يشتعلوا حماسا، لكن ردّة فعل "التجريم" هاته، تجعل من تعقّلهم ومنطقيتهم ضرورة وردة فعل صائبة، لأن إدمان الناس على المشاعر الجميلة مُفزع أحيانا كثيرة مما يجعلهم متمسكين أكثر بموقف "المنطقية" التي برهَن أغلب الناس على أنهم لا يملكونها.
وتارة أخرى يُتّهمون بأنهم فقدوا إيمانهم وأثّرت فيهم الفلسفات "المادية" (ثنائيات القرون الوسطى)، فلا "أمل" في حديثهم ولا "يقين" في الله، ولا صدق في اتباع الوصايا النبوية كما يفهمها دون تفصيل أو مراعاة للتغيرات (على صاحبها الصلاة والسلام)
ولعلّ هذه التّهم هي أخطرها لأنّ الناس تُسربل مثالياتها بالدين فتتداخل فيها طفولياتنا ومخاوفنا من مواجهة الحقيقة بـ"اليقين في الله" و"بمكاتيب الخير"... مع أن دينننا لا يضمن ولا يدعي لنا ذلك!
اتهام مثل هذا قد يُخرج المعركة من ساحتها الحقيقية، "مثالية/واقعية" إلى "زندقة/إيمان"، فيسهل سحب البساط من تحتهم، وتنفير الناس منهم، مقابل الانتصار لفكر مغلوط باسم مفاهيم دينية متراكمة بطريقة تخدم ذاك الفكر المغلوط..
وينتقل الصراع بين أناس يفكرون بشكل منطقي وعقلاني مضحّين بالقبول الاجتماعي والمشاعر الرومانسية، وبين أناس يفضلون دفء الاعتقادات والأفكار التي تتوافق مع عالمهم وتصورهم ولا تدمره.
وهذا النوع الأخير هو الذي تجده يُعادي أي نظرة إصلاحية للدين، يحب الدراما ويحب الخوارق وأن يكون انتماؤه دون تكاليف سوى "شعارات" لا يجب أن تساويه بالماديين والجاهلين للأسرار الروحية والربانية (مركّب انتماء وفخر).
مستعد ليهاجم كل من أنكر الإعجاز العلمي مثلا حتى لو لم يعلم شيئا عن المنهج العلمي ولا عن محتوى تلك النصوص التي يستدل بها ... فهي مجرّد "أمانيّ"
وغالبا ما تكون له نظرة متوجسة معادية للعلم، لأن من نتائج العلم الحتمية هي نزع هالات التقديس والرومانسية عن الظواهر وإعطاؤها تفسيرا باردا غير دراميّ يجتمع فيه الناس كلهم تحت قانون واحد. وهذا يكسّر أوهام التميّز والعُمق والتفرّد...
قد يكون التكالب على العقلانيين شيئا لا مفرّ منه، فهم يشكّلون تلك الجرثومة التي تضمن التعافي في مجتمعاتها، ولا بد للتعافي من شدّ وجذب، هم مرحلة "ما بعد الرشد" التي لا يصلها الكلّ... مع ذلك يشهد التاريخ بانتصارهم ولو بعد قرون.. هكذا يُعلمنا تاريخ الأفكار ومخاضُها.
واقرأ أيضاً:
المثلية بصفتها معاناة ! / الجنس وأزمة عقلنة الأخلاق / كانت تجمعنا علاقة حبّ ثم تركني... الحقير