نتحدث عن أرصدة البنوك وما لدينا من العقارات والمزارع والبساتين والعربات والمصانع والشركات، وما نملكه من آبار نفط سُلبت من أهلها وتمكّن منها مَن استطاع وغنم، ولا نتحدث عن أرصدة الكلمات في أدمغتنا، فما عندنا من أرصدة مادية لا قيمة لها ولا معنى في حياتنا عندما تكون أرصدة الكلمات في عقولنا خاوية، فالعقل الذي لا يمتلك رصيداً وافراً من الكلمات هو كالصحراء القاحلة التي لا تستطيع رعاية غير الأشواك.
ومجتمعنا العربي عموماً يفتقر إلى أرصدة الكلمات وثقافة الكلمة ومعناها، فهي لا ترتبط بحياتنا ونحن لا نهتم بمعاني الكلمات ولا نعلّمها لأبنائنا.
والعالم مشغول بالكلمات ومعانيها وتعليمها للأطفال حال امتلاكهم القدرة على الكلام.
الدنيا تعلّم الكلمة ومعناها وتمضي في هذا المنوال حتى نهاية الدراسة الجامعية، ونحن لا نمتلك حصة واحدة في مدارسنا تعتني بالكلمة ومعناها، ولا يُوجد عندنا امتحان واحد في اللغة العربية عن الكلمة ومعناها ومواضع استخدامها وكيف يتم صياغة العبارة السليمة بها. فابحثوا في مدارسنا، هل ستجدون حصة واحدة تعني بهذا الشأن؟
والجامعات العربية كافة مسؤولة عن هذا التقصير المُروّع تجاه اللغة العربية والأجيال لأنها لم تبتكر الوسائل المعاصرة للتفاعل معها ولم تواكب جامعات الدنيا في هذا الميدان. فهل تساءلنا لماذا العالم المتقدم مشغول بتعليم أبنائه الكلمة ومعناها وكيفية استخدامها والتعبير بها عن الأفكار؟ وهل تساءلنا لماذا أصعب الامتحانات لدخول الجامعات في الدول المتقدمة هي امتحانات الكلمة ومعناها وكيفيّات استخدام الكلمة في مواضع الكلام؟ وكم من الأساليب والكتب والمصنفات قد ألفت بهذا الشأن لكي تمنح الطالب الفرصة لمعرفة أكبر قدر من الكلمات واستخدامها في حياته العلمية والعملية؟؟
يظهر للمتابع للكتابات أننا من الأمم الفقيرة بأرصدتها اللغوية، وأدمغتنا لا تمتلك الأدوات الكافية للتعبير مما يدفعنا إلى إسقاط تفاعلات الحُجّة بالحُجّة واستعمال انفعالاتنا وآلياتنا الأولية في التفاعل فيما بيننا ومع الآخر، وتجدنا ندور في حلقة المفردات التي تعبت منها العيون والأسماع وما عادت قادرة على التواصل والمعاصرة والانطلاق، وترانا لا نخترع ألفاظاً جديدة ولا نصنع كلمات وكأننا من معشر الراسبين في الحياة والمتميزين بعشق الرتابة ونبذ الإبداع والابتكار.
ماذا يجري في عالمنا المهتم بالأحزان والآلام؟
فوضى وتفاعلات سلبية مع النتائج وتطويرها بعيداً عن الأسباب والدوافع الأساسية الكامنة وراءها، وتحقيق أكبر قدر ممكن من مُسوّغات الشلل النفسي والفكري والدوران في حلقة "كان يا ما كان" المُفرّغة المُشبّعة بالانفعالات السلبية السيئة.
حقيقة فقرُنا اللغوي وعدم امتلاكنا للمفردات الكافية للتعبير عمّا فينا يرجع إلى ضعف تعليمنا وإهمال هذا الموضوع في بيوتنا ومدارسنا ممّا تسبّب في صناعة أجيال لا تستطيع أن توفر الحجة والدليل القوي على ما تريده فتنحرف إلى الصراعات الانفعالية الدامية التي تحصد من ورائها الويلات الكثيرة المتوالية، ودليلنا على ذلك أننا لا يمكننا أن نتخاطب بسهولة بعقولنا ونتفاعل بأفكارنا، بل خطاباتنا مرهونة بالحديد والنار والعنف والثورات الانفعالية، ولو تساءل كلٌّ منّا كم يعرف من معاني الكلمات في القرآن الذي نسمعه كل يوم ونقرأه والكثير منا قد ختمه لوجدتنا لا نعرف إلا القليل، ولو تساءل أي مثقفِ عمّا يعرفه من معاني كلمات القرآن، لوجد أنه في حالة بعيدة عن ذلك بكثير.
ويبدو أن أجدادنا كانوا أغنى منّا في أرصدتهم اللغوية، ولهذا كانوا يفهمون كتاب الله ويُعبّرون عنه كما يُدركون، وكانوا يفهمون خُطب قادتهم البليغة الغنية بالمفردات التي لا يمكننا استيعابها، وقد بلغ أجدادنا المراتب العلمية المُتطوّرة في زمانهم بخصوص اللغة وألّفوا المعاجم الجامعة التي نعجز اليوم عن المجيء بمثلها ولهذا نتجاهلها ونهرب منها. فهل أنجز العرب كتاباً مُعجمياً واحداً بمنزلة كتاب لسان العرب على مدى القرن العشرين؟!
إن الأمم التي لا تعرف لغتها لا يمكنها أن تحقق وجودها وتساهم في إغناء الحياة وتفقد احترامها بين الأمم الأخرى لأنها تبدو بلا هوية وعدم احترام لذاتها ووجودها. ونحن نؤكد ذلك ونظهره بإهمالنا للُغتنا وعدم تمكُّننا من امتلاك الوعي المناسب والمعاصر بمفرداتها، فنحن نتكلمها وقد نكتب بها لكننا في حالة قيد أو سجن سببه فقرنا اللغوي وخواء عدد المفردات العربية التي نعرفها والتي قد لا تتجاوز الثلاثة آلاف مُفردة إلا قليلا، ولهذا نحن مسجونين في مفردات مُنهكة لا يمكنها أن تنقلنا إلى عالم معاصر مشحون بالمخترعات والعبارات والتحوُّلات الإبداعية الجديدة ذات التطلُّعات الخلاقة إلى فضاءات بلا حدود. فنحن نعرف معاني مفردات اللغة الأجنبية أكثر من اللغة العربية، وندرس اللغة الأجنبية بمعاني كلماتها أكثر من دراستنا للّغة العربية، وكنا في الابتدائية والثانوية والإعدادية ندرس اللغة الإنجليزية كل يوم، ومطلوب منا معرفة عدد من الكلمات بمعانيها واستخداماتها، ويتم امتحاننا بها ومحاسبتنا على عدم معرفتنا لها، وفي اللغة العربية لا يوجد درس واحد من هذا الطراز، بل جميعنا يُهمل معاني الكلمات ويحسبه شأناً غثيثاً ومُملاً لا يستحق النظر.
إن أساليب تدريس لغتنا التي نُعبّر بها عن أفكارنا ووجودنا أساليب بائدة ولا بد لها أن تواكب مناهج تدريس اللغات الأخرى في العالم. ولا يمكننا أن نكون إذا لم نمتلك أدوات التعبير عن أفكارنا وتمكننا من امتلاك مهارات التخاطب مع بعضنا بعقولنا وأفكارنا.
ووفرة الكلمات في عقولنا من أهم عوامل تهذيب سلوكنا وتحفيز تفكيرنا ودفعنا باتجاه العقلانية والحضارة المعاصرة، فهي تستحضر لنا مُسوّغات منطقية ومفاهيم جديرة بالنظر تطور سلوكنا وتحقق لنا الأهداف التي نراها ذات قيمة اجتماعية وحضارية.
والملاحظ في هذا العالم المتلاطم الأحداث، أن الشعوب التي تضعف أرصدتها اللغوية تكون في محنة التفاعلات السلبية وعدم القدرة على الخروج من مأزقها، ولو تأمّلنا الكثير من أحداثنا ومصائبنا لاكتشفنا أن ضعف الرصيد اللغوي في رؤوسنا قد كان له دور بارز في صناعتها، لأن معظم أصحاب القرار لا يمتلكون المُعين اللغوي الكافي الذي يساهم في استجلاب الأفكار وتطوير الرؤى وتواصل التفاعلات الإيجابية مما يدفع إلى الآليات الدفاعية الأولية واتخاذ الخطوات الانفعالية السلبية التي تؤذيهم وتدفعهم إلى الندم، لكنهم يحاولون أن يتواصلوا مع أخطائهم بوسائلهم الدفاعية العقيمة حتى يسقطوا في بئر جهلهم المرير.
إن الرجوع إلى اللغة العربية والاهتمام بمفرداتها وتطويرها والتأكيد على أهميتها يدفع بنا إلى صيرورة أفضل ويمنحنا القوة الأكبر للتعبير عن أنفسنا ومعالم وجودنا ويحررنا من الفشل الفكري والعجز الحضاري الذي أوقعنا أنفسنا فيه.
ومن هنا فإن الدعوة إلى الكلمة ومعناها في حياتنا البيتية والاجتماعية والمدرسية يصنع منّا أمة عارفة وقادرة على استيعاب المستجدات والتعبير عن أفكارها وتحقيق أهدافها وفقاً لمُفردات الزمن الذي تعيش فيه.
وقد يستغرب البعض من الكلام لكنه حقيقة واقعة ودامغة وقاسية نجني ثمارها في عالمنا العربي من أقصاه إلى أقصاه، فآلة العقل الكلمات التي يمكنها أن تحتضن الأفكار، وعقل بلا كلمات وفيرة لا يعطي إلا أشواكاً لأنه يكون عبداً مطيعاً للانفعال، والعقل الغني بالمفردات يكون صاحبه حراً، والعقل الفقير بالمفردات يكون صاحبه عبداً، ولنا أن نختار ما بين الحرية والاستعباد.
فهل عرفنا لماذا نوابغ الحضارة يشتركون بأنهم قد حفظوا القرآن وأدركوا كلماته وهم في سن مبكرة؟!!
* الرصيد: مجموع ما للمُودع من أموال في حسابه بالمصرف. والجمع: أرصدة.
2\2\2008
واقرأ أيضاً:
الانتصار على كورونا / المرآة تأكُلنا / الهواء يقتُلنا / مدارسنا الابتدائية مستقبلنا