منذ سنوات طويلة استقر لدى علماء الطب أن القلب مجرد مضخة تدفع الدم المحمل بالأوكسجين إلى جميع أجزاء الجسم, وأن الوظائف النفسية مثل الإدراك والانتباه والتفكير والمشاعر والذاكرة كلها تنتج عن نشاط المخ, وأن مراكز في المخ تسيطر على نشاط القلب, أي أن القلب تابع للمخ ويعمل تحت سيطرته, ولكن في السنوات الأخيرة وفي عامي 2012 م و 2014م على وجه التحديد, عقد مؤتمران دوليان في باريس تحت عنوان القلب والمخ لعرض الأبحاث المختصة بهذين العضوين المهمين في الإنسان, وقد عرضت في المؤتمرين أبحاثا غيرت الفكرة السابقة, إذ ثبت أن القلب به نويات وعقد ودوائر عصبية داخله وخارجه, وأن هذه التركيبات لها وظائف إدراكية ووجدانية ومعرفية وأنها تمثل مخا صغيرا في القلب له منطقه ولغته الخاصة يقوم بالترميز ومعالجة المعلومات, ليس هذا فقط بل ثبت أن ثمة دوائر عصبية تربط بين القلب والمخ وأن القلب يؤثر في المخ كما يتأثر به, بل إن تأثير القلب على المخ يكاد يكون أكثر. بالطبع هذه الأبحاث ما زالت في مهدها ولكن نتائجها ستغير في المستقبل تصورنا عن وظائف القلب والعقل وهذا سيؤثر كثيرا في فهمنا للإنسان ووظائفه المختلفة.
وفي عام 1999 نشر جيرت تير هورست كتاب "الجهاز العصبي والقلب" في أمريكا, وخصص الفصل الثالث عشر لوصف العلاقة بين أمراض القلب والاضطرابات العصبية والنفسية وخاصة الاضطرابات المعرفية. وقد أصبح من المؤكد وجود علاقة متبادلة بين الاكتئاب وأمراض القلب, وأن أمراض القلب لا تصيب نوع الشخصية A (الشخص الطموح, المبادر, مدمن العمل), ولكن تصيب نوع الشخصية D (الشخص المأزوم المكتئب). ووجد أن المشاعر الإيجابية تؤدي إلى تغير شامل في الوظائف الفسيولوجية والنفسية, وينعكس هذا في تغير ضربات القلب.
وقد ثبت أن المعلومات الصادرة من القلب للمخ أكثر من المعلومات في الاتجاه العكسي, وأن هذه المعلومات تؤثر في مراكز المخ خاصة تلك المسؤولة عن اتخاذ القرارات والإبداع والمشاعر . وكان يعتقد أن المعلومات والتأثيرات في الجسم البشري تأتي من أعلى لأسفل, ولكن ثبت أن 85-90% من المعلومات تأتي من الجسم في اتجاه المخ لتؤثر فيه, وأن نسبة كبيرة من هذه المعلومات تأتي من القلب عن طريق العصب الحائر.
ووجد أن العقد العصبية في القلب وفي التجويف الصدري تشبه في ارتباطاتها وتشابكاتها تلك الموجودة في اللوزة Amygdala (عضو صغير في المخ مسؤول عن التنبيه للمخاطر وتجهيز الجسم للمواجهة أو الهرب), وتحتوي على عصبونات تشبه تلك الموجودة في الحصين Hippocampus (جزء في المخ مسؤول عن الذاكرة), وهذا يجعل للقلب ذاكرة خاصة به تحوي أرشيفا لاستشعار المخاطر لكي يتصرف بسرعة ولا يحتاج لوقت يرسل فيه الإشارة إلى المخ ثم ينتظر منه الرد أو الأوامر.
والجهاز العصبي في القلب (أحيانا يسمى مخ القلب) يحتوي على 40000 خلية عصبية (عصبونة) وهذه العصبونات ترسل معلومات للمخ عن طريق محاور عصبية تصل إلى مراكز المخ المختلفة المسؤولة عن اتخاذ القرارات والوظائف المعرفية والمشاعر.
والعصبونات في القلب تتمحور حول الأوعية الدموية الرئيسية, و20% منها لها علاقة بالوظيفة الميكانيكية للقلب (ضخ الدم), أما الـ 80% المتبقين فيتأثرون بهرمونات وناقلات كيميائية لها علاقة باتخاد القرارات والمشاعر والوظائف الكلية العليا للإنسان. وهذه الدوائر العصبية في القلب لها اتصال بالجلد والرئتين والغدة الجار كلوية وسائر الأعضاء, ولهذا تتأثر نبضات القلب بلمس الجلد بطرق معينة وبحالة التنفس وبهرمونات الأدرينالين والنور أدرينالين وبسلامة أو مرض أعضاء الجسم المختلفة
.
وحين نكون في حالة تناغم مع أنفسنا يكون نظم القلب متناغما وسلسا, أما حين نكون محبطين أو مضطربين فإن نظم القلب يضطرب. ونظم القلب له تأثير مباشر على صحتنا الجسدية والنفسية, ويتم هذا من خلال تناغمه مع المهاد في المخ, ذلك التناغم الذي يؤثر كثيرا في تناغم وظائف المخ المختلفة. والقلب يعمل كأحد الغدد الصماء حيث يفرز هورمون ANF والذي يؤثر على الأوعية الدموية والكليتين والمراكز الرئيسية في المخ, وهناك خلايا في القلب وحوله تفرز نورأدريناين ودوبامين, تلك الناقلات العصبية التي كان يعتقد أنها تفرز فقط في المخ والجهاز العصبي ولها علاقة بالحالة المزاجية والنشاط والإحساس بالسعادة. كما أن القلب يفرز هورمون الأوكسيتوسين (هورمون الحب) والذي له علاقة بالثقة والترابط بين الناس والحب, ويفرز أثناء الولادة والرضاعة وأثناء العلاقة الجنسية, وله تأثير في خلق التسامح والتوافق الاجتماعي.
وهذه المعلومات الجديدة تعيدنا إلى كلمات بسيطة تصدر تلقائيا عن الناس مثل : "أنا قلبي دليلي", "قلبي كان حاسس", "فيه حزن في قلبي", "فيه حسرة في قلبي", "حاسس بالفرحة في قلبي", "قلبي مقبوض", "باحبه من كل قلبي".
ولقد ورد في القرآن آيات كثيرة تشير إلى وظائف إدراكية ومعرفية ووجدانية مصدره القلب والصدر, نذكر منها على سبيل المثال : ”أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور” (الحج 46)
” يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور“ (غافر 19)
”قد بدت البغضاء من أفواههم وماتخفي صدورهم أكبر“ (آل عمران 118)
”الذي يوسوس في صدور الناس“ (الناس 5)
وفي السنة النبوية وردت إشارات مماثلة, ففي حديث وابصة: ”فجمع أصابعه (يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم) الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول : يا وابصة استفت قلبك. البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب, والإثم ما حاك في القلب, وتردد في الصدر, وإن أفتاك الناس وأفتوك“
ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر : ”ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب“ .
والرسول صلى الله عليه وسلم يضع يده على قلب الشاب الذي جاء يطلب منه الإذن في الزنا ثم يدعو له فيقول هذا الشاب : خرجت من عند رسول الله وليس شيئا أبغض إلي من الزنا.
ويقول الإمام أبو حامد الغزالي : يطلق لفظ القلب لمعنيين:
• أحدهما : اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر .. وفي باطنه تجويف .. وفي ذلك التجويف دم .. ويتعلق به غرض الأطباء ولا يتعلق به الأغراض الدينية.
• الثاني : هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق, وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان, وهو المدرك العالم العارف من الإنسان, وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب والمطالب. ولها علاقة بالقلب الجسماني, وقد تحيرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته.
وهكذا نستعيد رؤيتنا للقلب كوحدة مركزية لها إدراك وفكر ومعتقد ومشاعر وأحاسيس وقدرة على معالجة المعلومات والتوجيه واتخاذ القرار والإبداع, وأن ثمة علاقة تبادلية بينه وبين المخ, وأن الاستقرار الجسدي والنفسي يعتمد على تناغم القلب مع المهاد في قلب المخ.
واقرأ أيضًا:
العناية بالأطفال أثناء جائحة كورونا / الخوف وتأثيره في سلوك الناس