جمال عبد الناصر التحليل المعرفي السلوكي السياسي
الغاية من هذا المقال هو التطرق إلى شخصية الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي مضى على رحيله نصف قرن من الزمان، ولكنه رغم ذلك يعتبر بلا منازع أشهر شخصية عربية سياسية في القرن العشرين وحتى يومنا هذا. لم تخضع شخصية عربية للبحوث النفسية السياسية في الجامعات الغربية مثل شخصية عبد الناصر. ينافسه في ذلك شخصية صدام حسين الذي تزعم العراق لأكثر من عشرين عاماً٬ ولكن دراسة شخصية عبد الناصر أثارت اهتمام الباحثين بسبب سياسته الإقليمية والعالمية٬ في حين أن شخصية صدام حسين لم تثر سوى اهتمام البعض بسبب اضطراب شخصيته، وغالباً ما تُقرَأ كمقالات تتحدث عن الجانب العدواني والمرضي لشخصه.
المقال يحاول التركيز على الجانب المعرفي السلوكي للزعيم الراحل عبد الناصر٬ والمدخل إلى دراسة هذا الجانب في شخصيته مصدره أزمة نادراً ما تتحدث عنها المصادر العربية على عكس البحوث النفسية السياسية في الجامعات الغربية، هذه الأزمة تُدعى "بأزمة روتم Rotem Crisis" وترجمتها هي "أزمة المكنسة" إشارةً إلى عملية قامت بها القوات الإسرائيلية في سوريا عام ١٩٦٠.
كانت الحدود المصرية – الإسرائيلية في سيناء هادئة نسبياً وفيها قوات للأمم المتحدة تفصل بين الجانبين٬ على عكس الحدود السورية الإسرائيلية الدائمة الارتباك، قتلت القوات السورية أيامها ثلاثة رجال شرطة إسرائيليين٬ وعلى ضوء ذلك توغلت قوات إسرائيلية داخل الأراضي السورية وحدث اشتباك راح ضحيته العديد من المواطنين والجنودالسوريين وتكبدت القوة العسكرية الإسرائيلية خسائر حصيلتها مقتل ٣ جنود والعديد من الجرحى. قرر عبد الناصر وقتها (وكان زعيماً للجمهورية العربية المتحدة التي تضم مصر وسوريا) إرسال وحدات كبيرة من الجيش المصري إلى سيناء لمواجهة حشد إسرائيل لقواتها بعد تصاعد الخطاب العربي من دمشق والقاهرة، وعلى عكس ما كان يتوقع الكثير قررت إسرائيل سحب قواتها من الحدود وتجنبت مواجهة القوات المصرية واكتفت بوجود قوات الأمم المتحدة الفاصلة بين الطرفين.
هناك من الباحثين من يشير إلى أن حشد القوات المصرية أيامها كان رد فعل من جمال عبد الناصر لسياسة عبد الكريم قاسم في العراق البعيدة عن الخطاب العربي الوحدوي، وهذا الرأي الأخير قليلاً ما يشار إليه ومن الصعب تبريره.
خرج عبد الناصر من أزمة Rotem مُنتصراً معززاً موقعه الشعبي بين الجماهير العربية وفي الإعلام العربي. لم تكن هناك حاجة لإطلاق النار وانهزمت إسرائيل بدون مواجهة٬ وارتفعت ثقة عبد الناصر بنفسه٬ وتصور أنه وبمساندة الاتحاد السوفيتي واستخباراته قادر على مواجهة الأزمات.
رغم فشل مشروع الجمهورية العربية المتحدة، إلا أن نجم جمال عبد الناصر تصاعد أكثر فأكثر في العالم العربي وبالتالي ازدادت ثقته بنفسه. حدث انقلاب اليمن بقيادة عبد الله السلال عام ١٩٦٢ والذي كان ناصرياً بالتعريف ولم يتردد جمال عبد الناصر طويلاً في إرسال ٧٠ ألف جندي مصري لنصرة الجمهورية اليمنية مع دعم سوفيتي٬ كما وصل الناصريُّون بزعامة عبد السلام عارف إلى الحكم في العراق عام ١٩٦٣ مطالبين بوحدة ثلاثية بين العراق وسوريا ومصر٬ ولكن حرب اليمن انتهت بهزيمة الجيش المصري وعودته منهار المعنويات إلى مصر عام ١٩٦٧.
في عام ١٩٦٧ عادت الأزمة بين سوريا وإسرائيل وما يسميه البعض "المتلازمة السورية Syrian Syndrome" حيث بدأت سوريا بالتخطيط لتحويل مجرى نهر الأردن الذي يمر بالأراضي الإسرائيلية. يضاف إلى ذلك أنه كانت قوات الفدائيين الفلسطينية تتوغل بين الحين والآخر عبر الحدود الإسرائيلية٬ وتصاعدت حدة المواجهة بين الطرفين وتبادل إطلاق المدافع بين الطرفين. كذلك أسقطت القوات الإسرائيلية طائرات حربية سورية في نيسان١٩٦٧. بدأ الملك حسين عاهل الأردن بانتقاد مصر أيامها بعدم التحرك لنجدة سوريا٬ وقد يكون الرأي الأخير حول دور الملك حسين ربما مبالغاً فيه ولا يختلف عن الإشارة إلى دور عبد الكريم قاسم في أزمة ١٩٦٠ ولكن يحتمل أن يكون موقف العاهل الأردني الأردني الراحل هو لإحراج ناصر المشارك في حرب اليمن.
تم إغلاق مضايق تيران٬ وعاد عبد الناصر إلى حشد القوات المصرية في سيناء إلا أنه لم يطالب قوات الأمم المتحدة الفاصلة بين مصر وإسرائيل بالانسحاب، وقلما يشير الباحثون في العالم العربي إلى هذا التصرف. تصور عبد الناصر أيامها تكرار ما حدث في عام ١٩٦٠ ثانيةً في عام ١٩٦٧ وأن الولايات المتحدة الأمريكية ستمارس نفوذها وتضغط على إسرائيل لتجنب المواجهة مع مصر كما فعلت عام ١٩٥٦. لم تكن ثقة جمال عبد الناصر عالية بالجيش المصري الذي رجع منهزماً من حرب اليمن٬ ولم يكن مؤهلاً لخوض حرب جديدة٬ ولكن الرئيس المصري كان في حاجة إلى مناورة ترفع ثقته بنفسه وترفع من شعبيته في مصر والعالم العربي. كرر عبد الناصر اعتماده على المخابرات الروسية٬ وتصور أن الانتصار في ١٩٦٧ سيكون مُشابهاً لانتصار ١٩٦٠ وبدون إطلاق الرصاص. كان ذلك الخطأ التاريخي الكبير الذي دمر العالم العربي بعد حرب النكسة أو ما تعرف عالمياً بحرب الأيام الستة. لا يحتفل بها العالم العربي ويتناسى ذكراها٬ ولا تزال آثارها واضحة حتى يومنا هذا. هذا الحدث هو الذي يدفعنا إلى دراسة الجانب المعرفي السلوكي لجمال عبد الناصر٬ والذي لا يقتصر عليه فقط وإنما على جميع جبابرة العالم العربي في القرن العشرين وما بعده.
تصنيف القادة
اتخذ عبد الناصر أكثر من قرار خلال فترة زعامته يمكن وصفها بالجذرية. القادة عموماً من نوعين كما هو موضح في المخطط أدناه. أحدهما من يصبر على واقع الأمة ورعاياه ويتعامل مع ظروف الحاضر ساعياً إلى تقدم اقتصادي واجتماعي تدريجي، أما الآخر فهو يستهدف تغيير الواقع بصورة جذرية وبناء مؤسسات دولة جديدة. جمال عبد الناصر كان من النوع الثاني.
كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني منذ عام ١٨٨٢، وكان الشعور الوطني المصري في غاية القوة أيامها، ولعب دوره في بناء شخصية جمال عبد الناصر. العامل الآخر الذي يلعب دوره هو صدمات الماضي٬ وما نعرفه هو أن جمال عبد الناصر من مواليد الإسكندرية ١٥ كانون الثاني ١٩١٨، كان والده ساعي بريد٬ وتوفيت والدته فاطمة في عام ١٩٢٦، شارك في عدة تظاهرات وتم اعتقاله لفترة قصيرة عام ١٩٣٥ ولكنه رغم ذلك دخل الكلية العسكرية عام ١٩٣٦ وتخرج منها عام ١٩٤٠. استقال العديد من الضباط في الجيش المصري بسبب شعورهم بالعجز عن حماية الملك والدستور بعد حصار القوات البريطانية للقصر الملكي وإجبار الملك فاروق على تشكيل حكومة مؤيدة للحلفاء، ولكن عبد الناصر لم يفعل ذلك وكان يكره الملك فاروق كراهيته لبريطانيا في نفس الوقت. خدم في السودان لفترة ثم عمل في الكلية العسكرية، وخدم في فلسطين عام ١٩٤٨-١٩٤٩ وشارك في التفاوض مع إسرائيل لوقف إطلاق النار في جزيرة رودس اليونانية. أسس جمال عبد الناصر بعدها حركة الضباط الأحرار مع أنور السادات وزكريا محي الدين وعبد الحكيم عامر٬ والتي تسلمت الحكم يوم ٢٢-٢٣ تموز ١٩٥٢ في انقلاب شارك فيه ٨٩ ضابطاً عسكرياً من الضباط الأحرار تحت زعامة محمد نجيب. تم تعيين محمد نجيب رئيساً لجمهورية مصر، وجمال عبد الناصر رئيساً للوزراء. كان عبد الناصر أيامها الرئيس الفعلي وصاحب القرار في مصر، ووضع محمد نجيب تحت الإقامة الجبرية ونُحِّيَ في ٢٤ شباط ١٩٥٤. تم توجيه تهمة تسلم رشوة بقيمة ٣ ملايين دولار من وزير الخارجية الأمريكي "جون فوستر دلاس" وتم العثور عليها في مكتبه٬ ووظف المال لبناء برج القاهرة في رواية لا تختلف عن الكثير من الروايات التي تم تأليفها لغرض الاستهلاك المحلي في عهد الرئيس الراحل٬ ولا يمكن التثبت من صحتها.
وهناك أخيراً أيديولوجية عبد الناصر. ما هو معروف عن عبد الناصر أنه لم يكن متحمساً للوحدة العربية قبل وصوله للسلطة، بل كان وطنياً مصرياً بكل معنى الكلمة وحسب ما توارد عنه. تحولت أيديولوجية عبد الناصر تدريجياً نحو تبني أيديولوجية عربية وزيادة كراهيته للصهيونية والإمبريالية بسبب حرب فلسطين ١٩٤٨ أولاً وشعوره بالتهديد الإسرائيلي لعموم الوطن العربي بعد فضيحة التفجيرات التي قام بها عملاء إسرائيليين في مصر فيما يسمى "فضيحة لافون Lavon Affair" للإضرار بالعلاقات المصرية مع كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودور المخابرات الإسرائيلية في تنظيم عمليات إرهابية ليس في مصر وحسب وإنما في عموم العالم العربي.
ويتبع>>>>> : عبد الناصر تحليل معرفي سلوكي سياسي2
المصادر
اضغط على الواصل في المقال.
ويتبع >>>>>>>: عبد الناصر تحليل معرفي سلوكي سياسي2
واقرأ أيضاً:
الهجرة والذهان Migration and Psychosis / اضطرابات الشخصية