جمال عبد الناصر التحليل المعرفي السلوكي السياسي2
عبد الناصر تحليل معرفي سلوكي سياسي1
تشير المصادر المصرية إلى اعتراف شاب حاول اغتيال عبد الناصر في الإسكندرية عام ١٩٥٤ وانتسابه إلى حركة الإخوان المسلمين، ومنذ ذلك اليوم ارتفع عداء عبد الناصر للإخوان ووصل ذروته بإعدام سيد قطب عام ١٩٦٦. ارتفع سهم عبد الناصر وشعوره بالعظمة وهو في منتصف العقد الرابع من العمر٬ ويمكن ملاحظة ذلك في كتابه فلسفة الثورة (الذي كتبه بالحقيقة هو محمد حسنين هيكل) وحديثه عن إنجازات ثورية بطولية تحتاج إلى قائد فذ لتنفيذها.
توجه عالمياً وليس إقليمياً فحسب، وساهم في تشكيل حركة عدم الانحياز مع "تيتو ونهرو" في مؤتمر باندونج للأمم الأفريقية والآسيوية. عند هذا المنعطف ارتفع رصيد عبد الناصر جماهيرياً في مصر والعالم العربي بعد توقيعه لصفقة سلاح مع تشيكوسلوفكيا واتفاقه مع بريطانيا والولايات المتحدة لتمويل بناء سد أسوان بقيمة ٢٧٠ مليون دولار، لكن وزير الخارجية الأمريكية أيامها "جون فوستر دلاس" والذي اتهمه ناصر برشوة محمد نجيب ألغى الاتفاقية في يوم ٢٠ تموز ١٩٥٦ وكذا فعلت بريطانيا في يوم ٢١ تموز، بعدها بخمسة أيام قرر عبد الناصر تأميم قناة السويس وأعلن القرار بدون استشارة حكومته (استناداً إلى حديث محمد حسنين هيكل) بميول سطوة الاندفاع لديه.
في يوم ٢٩ تشرين الأول ١٩٥٦ حدث العدوان الثلاثي على مصر، واحتلت إسرائيل سيناء وتم تدمير السلاح الجوي المصري عند دخول فرنسا وبريطانيا بالعدوان بعد يومين من الهجوم الإسرائيلي. انتهت الحرب إثر ضغوط أمريكية على المعتدين الثلاثة، جميع هذه العوامل تدفعنا إلى استنتاج أن أيديولوجية عبد الناصر هي نتاج شخصيته وتفاعله مع الأحداث، وليست عن خبرة سياسية لقيادة بلد أو أمة. لم يكن عبد الناصر مؤيداً للشيوعية بل على النقيض من ذلك إلا أنه وبسبب ظروف الحرب الباردة له وجد السوفييت من خلاله باباً للدخول إلى العالم العربي ونشر المفاهيم الاشتراكية التي التزم بها عبد الناصر.
البعد المعرفي السلوكي لعبد الناصر
وظيفة القيادة بحد ذاتها هي مسؤولية اتخاذ القرار وتنفيذه، وتخضع هذه العملية لعدة عوامل يمكن حصرها في إطار معرفي سلوكي. هناك أولاً "الشفرة التنفيذية" لهذا القائد، ويتم تعريفها بمجموعة أفكار ومعتقدات القائد عن طبيعة السياسة والأزمات السياسية رجوعاً إلى أحداث تاريخية وبالتالي اتخاذ القرار المناسب. لكل قائد شفرة إدارية يعمل بها وتكاد تكون ثابتة طوال فترة زعامته، وتظهر بعد فترة ليست بالقصيرة منذ بداية تفكيره السياسي، هذه الشفرة لعبد الناصر كانت تتميز بانفراده بتنفيذ القرار وعدم قبول الرأي الآخر٬ ولا يعد هذا التصرف بالغريب على رجل لا يمتلك خبرة سابقة في عالم السياسة رغم وصوله إلى زعامة أكبر وأقوى بلد عربي في ذلك الوقت ويتميز بمستوى رفيع من الرقي الحضاري والثقافي. تتفاعل هذه الشفرة التنفيذية مع المعتقدات الثابتة للقائد٬ ولا يعني ذلك فقط المعتقدات السياسية، ولكن يُضاف إليها معتقداته حول الآخرين من حوله والشعور بالتفوق عليهم والشك بهم، هذه المعتقدات السياسية والشخصية لعبد الناصر كانت تنعكس دوماً في مؤشرات عملية زورانية. رغم تقاربه مع العديد من الزعماء العرب المعجبين به إلا أن الكثير منهم لم يرتقي الى جاذبية شخصيته الجماهيرية لاقتناصه السيادة وتغيير نظام الحكم مع ملكة خطاب محاكاة اندفاع العامة والاستفادة من تذبذب ميولها وتنازعها بين الأفكار الماركسية والدينية متوافقة مع رياح التغيير بعد الحرب العالمية الثانية وتراجع سطوة الدول الاستعمارية التي أنهكتها الحرب.
المعارف التي يكتسبها الإنسان في بداية حياته تُزرع في تركيبته المعرفية السلوكية٬ وذلك بدوره يؤسس بناء الشخصية التي يمكن تعريفها في علم النفس السياسي بالتنظيم الذاتي للإنسان نفسه وتفاعلاته مع البيئة التي يترعرع فيها، حيث يسعى الإنسان دائماً الحصول على انسجام داخلي في أعماق ذاته٬ ولا يختلف رجل السياسة عن بقية البشر في ذلك.
معالجة ما يدركه القائد يتم عبر جميع العوامل أعلاه وبالذات عبر معتقداته، ويتم تشخيصه للأزمة وفي نفس الوقت وصف العلاج لها. إدراك القائد قد يكون خاطئاً، ولتجنب هذا الإدراك الخاطئ يتطلب وجود قيادة جماعية مشتركة. لم توجد قيادة جماعية مشتركة في مصر٬ ولا يرجع القائد في العالم العربي إلى مستشاريه، وهؤلاء في الغالب يتجنبون تنبيه الزعيم بإدراكاته الخاطئة. هذا النموذج من السلوك قد نراه أيضاً في الحياة المهنية للطبيب أو المهندس وعند آخرين ممن يتجنب ويرفض الاستماع إلى آراء المحيطين به.
اعتمد جمال عبد الناصر على تجارب الماضي وبالذات تجربة ١٩٥٦ أيام حرب السويس وأزمة١٩٦٠ في تقييم أحداث ١٩٦٧. لكن التجارب السابقة بحد ذاتها ما تحجب حقائق الواقع وكيفية التعامل معه، ولكن الخطأ الكبير هو تعميم تجارب الماضي على الحاضر. الإدراك الخاطئ الكبير لعبد الناصر أيام تلك الأزمة هو أن القيادة الإسرائيلية في ١٩٦٧ غير القيادة العسكرية والمدنية في ١٩٦٠، ولم تكن لهم نية سوى الهجوم على القوات المصرية المتجمعة في سيناء، كذلك من كان في البيت الأبيض الأمريكي في ١٩٦٧ غير من كان فيه عام ١٩٥٦.
في نهاية الأمر٬ ورغم كل عوامل اتخاذ القرار٬ هناك الحاجة إلى مصفاة تضمن عدم تنفيذ قرار القائد التي قد تكون نتائجه كارثية، هذه المصفاة هي البرلمان المنتخب ديمقراطياً، ولكن مصفاة عبد الناصر كان مجلس الشعب التي كانت وظيفته الوحيدة هو الهتاف والتصفيق للقائد.
نقاش عام
هناك جانب لجمال عبد الناصر وفترة زعامته تميزت بالعديد من الإنجازات منها بناء السد العالي، ونصرة المستضعفين من الفلاحين ونهاية الإقطاع في مصر، كذلك أعطى للمرأة حق التصويت، وازدهرت عملية التصنيع٬ ومن جراء ذلك ولدت في مصر طبقة وسطى لها زخمها السياسي والاقتصادي.
من جانب آخر وبسبب جمال عبد الناصر توسع نفوذ الجيش المصري على جميع مرافق الحياة وولدت دولة بوليسية وشبكة تجسس على المواطنين لم يسبق لها مثيل في العالم العربي. تزعمت مصر الأمة العربية أيامها واستمر ذلك لمدة ١٨ عاماً لفترة حكم رجل وصل السلطة وعمره ٣٤ عاماً وفارق السلطة والحياةوعمره ٥٢ عاماً. ورغم قوة شخصيته وسطوته لكنه لم يكن خبيراً في إدارة الدولة بل ولم يكن مؤهلاً لقيادة أي دائرة مدنية صغيرة.
هذا المقال يتعلق بالجانب المعرفي السلوكي لجمال عبد الناصر وخاصة في دوره في حرب الأيام الستة، هذه الحرب لم يتم التخطيط لها كلياً من قبل جميع الأطراف وخاصةً في مصر. لم تكن أهداف هذه الحرب واضحة في مصر بل وحتى في إسرائيل٬ ولكن الفرق بين الاثنين يكمن في ارتباك مؤسسة القرار وضعف وعدم كفاءة القيادة المصرية، هذه القيادة المصرية كان تتمثل في شخص واحد فقط وهو الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. وقد تم إسقاط اللوم أيامها على عبد الحكيم عامر وغيره٬ وتم تأليف روايات في الإعلام المصري بقلم المخابرات المصرية، وكل ذلك لحماية القائد جمال عبد الناصر الذي يتحمل وحده المسؤولية في هزيمة ١٩٦٧ بسبب ارتباك وظيفته المعرفية السلوكية. كان هناك عدم توازن قوى في المنطقة العربية٬ وكان عبد الناصر يبحث عن حل سريع لمعالجة الأزمة، ولم يكن ينوى دفع الجيش المصري في حرب جديدة بعد فشله في اليمن وانهيار معنوياته، كل ذلك دفع إلى اتخاذ قرار كارثي بتصوره أن إسرائيل لن تهاجم٬ وذلك بسبب عوامل معرفية سلوكية في شخصه هو ومن استمر معه ومن حوله ولهم بعض أو كل صفاته.
لعبت هذه الكارثة دورها في تدمير صحة عبد الناصر٬ ولم ينتظر طويلاً لكي يفارق عالم سياسة (لم يكن مُؤهَّلاً له) والحياة في آن واحد٬ وليحفز من على شاكلته في دول العرب ركوب تيار زعامة لمن ليس أهلاً لها.
المصادر
اضغط على الواصل في المقال.
الشكر للأستاذ المهندس علاء حميد العنبكي لمراجعة النص وتنقيحه.
واقرأ أيضاً:
الهجرة والذهان Migration and Psychosis / اضطرابات الشخصية