وسواس اللااكتمال التكرار القهري و.ل.ت.ق مقدمة2
الشعور أو الإحساس بأن أفعال أو نوايا أو تجارب الشخص لم تتحقق بالشكل الصحيح؛ أي إدراك أن شيئا ما ليس صحيحا (إ.ل.ص.ت NJREs)، هو شعور شخصي محير مزعج بعدم اكتمال (و/أو الشك في اكتمال) إنجاز المهام التي يبدو ظاهرا أنها أنجزت بشكل جيد. مثل قفل الأبواب وإطفاء الضوء وفحص الموقد وتنظيف جزء من المنزل وتنظيم العناصر على مكتب وحتى الدخول من الصالة إلى الغرفة، وحتى الابتعاد عن المرآة.... بما يدفع الشخص إلى التكرار... واقعيا لا تبدو مثل هذه الأنشطة مرشحة للشك في إنجازها، لأن نتائجها يمكن التحقق منها بسهولة والمهام أصلا ليست معقدة أو صعبة. رغم ذلك، فإن هذا النوع من الأنشطة هو بالضبط الذي يجعل كثيرين من مرضى الوسواس القهري في معاناة لا تنتهي بسبب ما يجدونه من مشاعر اللاّكتمال أو إ.ل.ص.ت ....
ورغم أن أكثر الدراسات العلمية اهتمت بدراسة إ.ل.ص.ت في مرضى اضطراب الوسواس القهري OCD ومرضى اضطراب العرات Tic Disorder ، إلا أنها موجودة أيضًا في اضطراب التشوه الجسدي Body Dysmorphic Disorder واضطراب الاكتناز Disorder Hoarding واضطراب سحج الجلد Excoriation Disorder واضطراب نزع الشعر Hair Pulling Disorder وكلها من اضطرابات الطيف الوسواسي (Schmidt & Stasik-O’Brien, 2017)، كما أنها يمكن أن توجد في مرضى الاكتئاب والقلق المتعمم والقلق الاجتماعي، وفي اضطراب الشخصية القسرية OCPD أيضًا، وليس هذا فقط بل هي موجودة في الأشخاص الطبيعيين لكن مع فارق كبير في الشدة ومعدل الحدوث.
وفي أصحاب اضطراب الشخصية القسرية OCPD تحديدا تتفاعل سمات الشخصية القسرية (الكمالية، والإفراط في الاهتمام بالتفاصيل، والتفاني المفرط في العمل، وعدم القدرة على التخلص من الأشياء البالية أو غير المفيدة، وفرط الضمير والتورع، وعدم القدرة على تفويض المهام، والصلابة والبخل) مع إ.ل.ص.ت لينتج عن ذلك أنماط تفاعلية مشكلة مثلا (الإصرار على أن يخضع الآخرون للطريقة الصحيحة تمامًا للقيام بالأشياء أو التردد في تفويض المهام بسبب القناعة بأن الآخرين لن يقوموا بها بشكل صحيح تمامًا)، وهو يهدف إلى الالتزام الصارم بالقواعد واللوائح لتجنب ارتكاب الأخطاء للحصول على أقصى ما يمكن من الشعور بالاكتمال أو الصحة، أي أن الدافع وراء محاولات التحكم في العلاقات البيشخصية قد يكون هو الرغبة في تجنب إ.ل.ص.ت التي لا تطاق. كما يمكن تفسير الضمير المفرط والدقة وعدم المرونة بشأن مسائل الدين أو الأخلاق أو القيم (Nelson, et al., 2006) من حيث الحاجة إلى تحقيق شعور أخلاقي صحيح، "أن يكون لديك صحيفة نظيفة"، من خلال اتباع قواعد السلوك المحددة بدقة. ولذلك يبدو أن ذوي سمات الشخصية القسرية يعانون حتى في المجالات الشخصية والقيمية، من إ.ل.ص.ت مشابهة لتلك التي يعاني منها المرضى الذين يعانون من الوسواس القهري المرتبط باللااكتمال، ولكن ربما هناك فرق في الشدة والكثافة أو في القدرة على تحمل إ.ل.ص.ت.
ورغم أن اللا اكتمال Incompleteness وإ.ل.ص.ت NJREs كثيرا ما يستعملان لأداء نفس المعنى إلا أنهما مميزان عن بعضهما فبينما يمثل شعور اللااكتمال عاملا محفزا أساسيا لأداء القهور فإن إ.ل.ص.ت تمثل أحاسيس معينة تحفزها الخبرة الخارجية، وبينما يتفق أغلب الباحثين على أن كلا منهما عبارة عن أحاسيس عقلية إدراكية (معرفية) تدفع المريض إلى تكرار الفعل حتى الوصول إلى الشعور بالكمال أو تمام الصحة فإن إ.ل.ص.ت توصف أحيانا بأن لها بعدا جسديا وليس فقط عقلي (Miguel, et al., 1995) وهناك من يرى اللاّكتمال سمة تزيد القابلية والنزوع للشعور بأحاسيس إ.ل.ص.ت، والأهم من ذلك، أن الظاهرتان مرتبطتان أيضًا ارتباطًا وثيقًا، ويتم تصورهما على أنهما جانبان مختلفان من نفس البناء، بحيث أنهما تؤثران على الخبرات الإدراكية الحسية الداخلية للشخص.
هذه الخبرة أو الشعور بأن شيئا ما خطأ أو ليس كما يجب أن يكون أي إ.ل.ص.ت يمكن أن تستشعر من خلال الحواس المختلفة وفي كل الحالات تظل تحفز الشخص على التكرار وتقلل من قدرته على التوقف، فمثلا عدم الشعور بالتمام أو السواء بصريا (كشعور الشخص بأن شعره ليس مفصولا بالضبط في الوسط أو أن فارقا يوجد بين انتظام الشعر في الحاجبين...إلخ)، أو عدم الشعور بالتمام والكمال أو السواء سمعيا (كالشعور بأن تكبيرة الإحرام لم تنطق بطريقة صحيحة تمامًا أو لم تقع كما يجب الوقوع) أو ذات صلة بالأفعال الحركية (لا يشعر باكتمال الأفعال مثلا إغلاق صنبور الماء أو قنينة الماء) أو عمقحسيا (كشعور أن رباطي الحذاء ليسا مربوطين بتوتر متماثل أو ليسا بنفس الشدة).. إلخ.... ) أو لمسيا مثل: تكرار لمس ونقر الأشياء لأن هذا ينهي الشعور باللاّكتمال، ويمكن أن تكون إ.ل.ص.ت معرفية مثل الشعور بأن كلام الشخص لا يعبر عما يريد قوله كما يجب، ومثل ضبابية ذكرى معينة، كما يمكن أن تكون معرفية استبطانية عند محاولة المريض استبطان نيته أو أيا من حالاته الداخلية...إلخ
تاريخ تطور مفهوم اللااكتمال وظاهرة إ.ل.ص.ت :
تبين القراءة في بعض كتب الفقه الحنفي مثل بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين بن مسعود الكاساني وفي الهداية لبرهان الدين علي المرغيناني معرفتهم (رفيف الصباغ، 2009) بأن الموسوس لا يشعر باكتمال أو وقوع أفعاله ويعجز بالتالي عن التوقف عن الفعل ولذلك ربطوا أفعاله بشيء ثابت محسوس فمثلا تكفي 3 مرات لغسل النجاسة بغض النظر عن شعور المريض وهكذا (أبو هندي وآخرون، 2017)، لكنهم لم يعطوا اسما للظاهرة لأن اهتمامهم الأساسي كان بتقديم حل لمشكلة الموسوس، ثم بعد ذلك بقرون وصف الطبيب الفرنسي بيير جانيه سنة 1908 هذه الظاهرة بأنها شعور داخلي بالنقص يرتبط باعتقاد أن المهمة المقصودة تحققت بشكل غير كامل (Pitman, 1987) أو لم تتحقق بالشكل الكامل أو المطلوب أو المضبوط، وأن هذا الشعور بعدم الاكتمال الخاص بمرضى الوسواس لا يمكن اختزاله ببساطة إلى الإخفاق في تحقيق المعايير الشخصية التي تحددها معتقدات الشخص الكمالي.... أي أنها ترتبط بما هو أعمق من مجرد الكمالية في مستواها المعرفي، والحقيقة أن مفهوم اللااكتمال عند بيير جانيه كان بشكل عام أوسع من الاستخدام الحالي للمفهوم ويضم ظواهر أخرى تخص اضطرابات غير الوسواس القهري بينما يقتصر الفهم الحالي على اللاّكتمال كما عرفناه هنا.
بعد ذلك بتسع عقودٍ وصف آخرون تلك الظاهرة في مرضى الوسواس القهري خاصة في فئة التحقق القهري وفئة الغسيل القهري ومنهم من سماها أسماء متعددة أو وصف ظواهر تشبهها تحت أسماء مختلفة مثلا وصفها بيتمان (Pitman, 1989) بأنها العجز عن الشعور باكتمال المهمةSense of Task Completion حيث يعجز المريض عن إنهاء ما يفعل نظرا لوجود عدم تطابق بين الحالة المحسوسة والحالة المرغوبة كنتيجة للفعل.... ومعنى ذلك أن المريض يعجز عن الشعور باكتمال فعله لأنه لا يشعر بما يتوقع الشعور به عند انتهاء الفعل... فيعجز بالتالي عن التوقف مضطرا للتكرار.
وسماها آخرون خللا في الشعور بالمعرفة ‘Feeling of Knowing’ أو ‘Yedasentience’ بإتمام المهمة وصولا للأمان أو الألفة (Rapoport, 1991) و(Szechtman & Woody, 2004) أو في الحفاظ على ذلك الشعور إن حصل، حيث اعتبروا أن مريض الوسواس القهري يعاني من خلل في نظام التحفيز الأمني Security Motivation System وتحديدا في الجزء المتعلق بإشارة التوقف عن الفعل والتي تستلزم الشعور بالمعرفة بإتمام الفعل والوصول للأمان المطلوب، فبينما القلق هو الشعور الذي يعطي إشارة البدء في العمل فإن الشعور بالأمان والألفة هو الذي يعطي إشارة التوقف عن العمل.... ويعتبر عدم القدرة على توليد الشعور بالمعرفة"الطبيعي" بأن المهمة انتهت والذي من شأنه أن يشير إلى إنهاء المهمة هو العطل في حالة الوسواس ويعني هذا العطل أن مريض الوسواس القهري سيبقى مدفوعا للتكرار لأنه لا يستطيع أن يتوقف.
ورأى آخرون أنها العجز عن الشعور بالصواب Feeling of Rightness كما سماها ماجنان (Mangan, 2001) وليس الشعور بالمعرفة أو الألفة أي الشعور بصحة وصواب إنجاز المهمة، حيث يرى ماجنان أن اضطراب الوسواس القهري يؤثر على وجه التحديد على الشعور "بالصواب". وهو ناتج عن نوع من خلل الوصول إلى العاطفة الطبيعية للصواب فيما يتعلق بالذاكرة الحديثة عند انتهاء المهمة، والعواطف المكتنفة هنا هي على وجه التحديد العواطف المعرفية، فمريض الوسواس القهري يفتقر إلى بعض تلك المشاعر الطبيعية.... وهذا كفيل بدفعه إلى التكرار عجزا عن التوقف... ولعل الشكوى من عدم الشعور بالصحة أو الصواب كسبب للتكرار كثيرة في مرضى الوساوس والقهور الدينية حيث يشعر المريض مثلا بأن الكبيرة لم تكن صحيحة أو أن الصلاة أو الوضوء لم يكن صحيحا بمعنى الصحة الخاص به دينيا.... وقد سمعتها أكثر من مرة أثناء الع.س.م C.B.T على لسان مرضى قهور تكبيرة الإحرام أكرر حتى أشعر بأنها صحت ! وبعض هؤلاء يعانون من العجز عن الشعور بالصحة (أو الصواب) قبل وأثناء وبعد التكبير، وحدوث ذلك قبل الفعل هو ما يفسر جزئيا وساوس البدايات حيث يعاني الموسوس في أن يبدأ العبادة سواء الوضوء (بالوقوف أمام مصدر الماء فترة) أو التكبير فتجده وقد وقف وتوجه للقبلة لكنه يبقى عاجزا عن التكبير للدخول في الصلاة، ورغم أن تسمية وساوس البدايات تبدو مناقضة لما نتحدث عنه هنا كمشكلة في إنهاء الفعل وليس بدايته، إلا أن الحقيقة هي أن وساوس البدايات تنتج عن العجز عن الشعور بصحة أو اكتمال فعل الاستعداد اللازم للدخول في العبادة، فيبقى المريض فترة حتى يستشعر تمام الاستعداد ثم يبدأ ثم لا يشعر بأن ما فعله صح تماما فيكرر وهكذا.
ووصف ليكمان ظاهرة اللاّكتمال بأنها "إدراكات ليس صحيحا تماما" Perceptions Not Just Right أو خبرة أن الأداء "فقط ليس صحيحا" Not Just Right Experience كحافز للتكرار (Leckman, et al 1994)، وتختصر في الأدبيات الإنجليزية بـ NJREs وأرى إ.ل.ص.ت اختصارا عربيا مناسبا لإدراك ليس صحيح تماما، كما وصف كولس ظاهرة اللاّكتمال بأنها "شعور شخصي بأن شيئا ما ليس كما ينبغي أن يكون"، وهو شعور غير مستقر بسبب أن شيئا في الفرد أو في العالم من حوله لا يجري بالشكل الصواب، مع كون الحالة المرغوبة واحدة من الكمال واليقين (Coles et al.’s, 2003) .....إلخ (أبو هندي وآخرون، 2017).... ومن الثابت وجود علاقة بين مشاعر اللاّكتمال وإ.ل.ص.ت وسمة الكمالية خاصة تلك الموجهة للذات Perfectionism Self-Prescribed.
وفي خبرتي الشخصية مع مرضاي فإن هذه الخبرة هي شعور شخصي بأن شيئا ما يفصل المريض عن الشعور باكتمال الفعل أو القصد (النية) أو الخبرة الداخلية وهذا الشيء يمكن تشبيهه بحائل يحول بين الشخص ودواخله (أي مشاعره وتوجهاته الداخلية كالقصد والنية وكذا مشاعر الارتداد الداخلي للأفعال وللمثيرات البيئية) ويكون الحائل أحيانا معتما تماما سميكا فلا يجد الشخص وجودا لشعور معين كالإيمان مثلا أو يكون أحيانا مثقبا أو منفذا بدرجة أو بأخرى فيشعر الشخص أن إيمانه ليس ما كان أو تغير بشكل أو بآخر، وتعني هذه الرؤية أن الخلل ليس في الدواخل التي تكون على حالها وإنما الخلل في طريق الوصول الذي قد يعترضه الحائل المفترض وجوده، ونتيجة ذلك هي الشك في الخبرة أو الفعل، وتبدو إ.ل.ص.ت وكأنها تواجه الدليل الظاهر على تمام الفعل بما تحدثه من شك يقتحم الوعي بأنه لم يكتمل أو لم يصح!، بما يتفق مع نظرية حديثة تعتبر الوسواس ناتجا عن شك مقتحم Intrusive Uncertainty ربما يعكس "إشارات خطأ" عصبية،(Cochrane & Heaton, 2017) ويمكن أن يحدث ذلك اللااكتمال في أغلب صور الوسواس القهري وليس فقط مرضى و.ل.ت.ق فمجرد دخول أي مريض وسواس قهري في عملية استبطان لمشاعره الداخلية (سواء بتمام الفعل أو القصد أو النية أو أي خبرة داخلية معينة) يجعله قابلا للوقوع في فخ مشاعر اللااكتمال أو عدم الصحة أو عدم الوقوع أو الشك في القصد والنية أو المشاعر الداخلية ثم في فخ القهور المتعلقة بالموضوع الوسواسي فهناك من لا يشعر باكتمال الغسل فيكرر الغسيل، وهناك من لا يشعر باكتمال إغلاق الأبواب فيعيد الإغلاق ثم يشك ثم يتحقق ويكرر، وهناك من لا يشعر بوقوع تكبيرة الإحرام للصلاة فيظل يكرر ويكرر...إلخ، وإحدى مشكلات مريض وسواس التكرار هي عدم القدرة على وقف الفعل رغم حدوث النتيجة المرجوة ظاهريا لأنه يجد ما يحول بينه وبين مشاعر الاكتمال أو السواء أو الصحة...إلخ.
وسبب إمكانية حدوث ذلك لمعظم مرضى الوسواس وليس فقط مرضى و.ل.ت.ق هو أن كل العمليات التي يقوم بها المريض للوصول إلى الشعور المفقود (الاكتمال، الصحة، الوقوع، اليقين ... إلخ) لا تكون إلا من خلال التحقق العقلي أي التحقق الاستبطاني وبسبب القابلية العالية للتشكك في المعلومات الداخلية والتي تميز الموسوسين وتجعلهم يبحثون عن إشارات خارجية لمشاعرهم الداخلية لأنهم قادرون على تلقي المنبهات الخارجية بثقة وكفاءة أكبر من التفتيش في دواخلهم، هذه القابلية العالية للتشكك مع العجز عن الشعور بالاكتمال (أو الاتصال أو الثقة أو اليقين أو الصحة) يمكنها أن تكون وقودا لقهور التكرار ثم التحقق الاستبطاني ثم التكرار، ونتفق في رؤيتنا تلك مع الأبحاث الحديثة التي تثبت تشوه علاقة مريض الوسواس القهري بأحاسيسه الداخلية أو خبراته المعرفية الشعورية (Lazarov, 2014) ووجود خلل في قدرته على استشعار حالاته الداخلية Internal States، وبشكل عام تعتبر خبرة الشعور باللااكتمال ظاهرة مشوهة معرفياً، وتختلف عن قناعات الكمالية المعيقة (رغم أن إ.ل.ص.ت قد تصاحب سمة الكمالية) أو لعل مشاعر اللاّكتمال شكلا من الكمالية خاصا بمرضى الوسواس القهري.
إذن يبدو تطور مفهوم اللاّكتمال وإ.ل.ص.ت مرتبطا بمحاولة الإجابة على سؤال لماذا يخفق مريض الوسواس في التوقف عن الأفعال القهرية ؟، وقد وضع أولتمانز وجيبس (Oltmanns, & Gibbs, 1995) فرضية الحث الوسواسي للاستمرار بمعنى أن هناك إثارة ذات كثافة مرضية عالية في الطاقم أو النظام العقلي الذي يبدأ بأفكار معينة أو إجراءات (أفعال) محددة، بحيث يتم توالد أو تعاقب تكرار تلك الأفكار أو الأفعال بسهولة جدا وبقوة، ورغم وجاهة تلك الفكرة أي (الحث الوسواسي للاستمرار) والتي تعني أن الموسوسين لا يستطيعون التوقف عن التكرار لأنهم يشعرون بالحفز والحث على الاستمرار Urge to Continue أو التكرار للوصول إلى راحة معينة، إلا أن تعبيرات المرضى ووصفهم لخبراتهم لا تشير إلى حفز أو حث للاستمرار بقدر ما تشير إلى عجز عن أو فشل في التوقف Inability to Stop عن الفعل وتكرار الفعل، أي أن هناك عجزا في النظام الذي ينهي عادة هذه الأفكار أو الأفعال، بحيث تستمر لفترة طويلة جدا كما بين ريد (Reed, 1977)، وبشكل عام فإن ما تشير إليه نتائج كثير من الدراسات هو وجود خلل في دوائر عصبية جبهية تحت قشرية Frontal-Subcortical Circuitry وينتج عنه "إشارات خطأ" مستمرة متعلقة بالخبرة أو الفعل (إ.ل.ص.ت)، تدفع الفرد إلى اتخاذ إجراءات تصحيحية (غير مثمرة) (Summerfeldt, 2004)، وفي السنوات الأخيرة أجريت دراسات تحاول الرد على نفس السؤال عن طريق دراسة تثبيط الاستجابة Response Inhibition في مرضى الوسواس القهري (van Velzen, et al., 2014) وقد بينت وجود نقائص في المرضى مقارنة بالأصحاء، فضلا عن وجود خلل في السيطرة التثبيطية Inhibitory Control أو القدرة على وقف الاستجابة للمثيرات أو الأفعال التافهة أو غير ذات العلاقة في مرضى الوسواس القهري (Kalanthroff et al., 2016) فهل هذه النقائص خلفية لشعور عدم اكتمال الفعل، بينما أرجع كوكرين وهيتون (Cochrane & Heaton, 2017) اضطراب الوسواس القهري إلى الشك المقتحم باعتباره ما ينتج عن إشارات خطأ في الدوائر العصبية المشار إليها أعلاه وإن بدا الباحثان غير مهتمين بإ.ل.ص.ت، إلا أن الشك المقتحم يبدو تفسيرا آخر لظاهرة إ.ل.ص.ت أو لنقل هو أهم ما ينتج عنها.
وأخيرا نظرا لوجود كثيرٍ من التشابه (Ben-Sasson, et al., 2017) بين ما يسمي إ.ل.ص.ت ويوصف بمشاعر اللاّكتمال في أدبيات طيف الوسواس القهري وما يسمى فرط الاستجابة الحسية Sensory Over-Responsivity في أدبيات العلاج المهني Occupational Therapy حيث تشير أعراض فرط الاستجابة الحسية ف.ا.ح إلى الاستجابات السلبية الشديدة والسريعة تجاه المنبهات الحسية اليومية والتي تحدث في حاسة من الحواس أو أكثر، ومعنى ذلك أنه عتبة الاستجابة الحسية للمحفزات ستنخفض فتحدث الاستجابة بشدة وتكرار ولمدد أطول من المتوقع وهذا واضح العلاقة بالأعراض القهرية، وفرط الاستجابة الحسية ف.ا.ح يعتبر اضطرابًا في تعديل الاستجابة للإحساس (Miller et al. ، 2007) ويُنظر إليه على أنه عامل ضعف عام عابر للاضطرابات ليس خاصا بمرضى الطيف الوسواسي وغالبًا ما يحدث مع اضطرابات أخرى، نظرا لذلك فإن هناك من رأى أن ف.ا.ح قد يفسر وجود مشاعر إ.ل.ص.ت (Hazen et al., 2008) و (Taylor et al., 2014) باعتباره خلفية تحفيز داخلي مستمر. فمن مؤشرات ف.ا.ح مثلا الشعور بالانزعاج من الإحساس بالأشياء على الجلد، والتوتر من أصوات معينة، والتفضيل الصارم لبعض الأذواق والملابس وهذه كلها من محفزات إ.ل.ص.ت، ومثلما في وصف اللاّكتمال يرتبط ف.ا.ح بالحاجة المتزايدة للتحكم في البيئة كطريقة لتجنب/منع تلك الأحاسيس غير المريحة، ولا ننسى أن مشاعر اللاّكتمال وإ.ل.ص.ت هي بالأساس خلل حسي وجداني Sensory-Affective Dysfunction كما وصفتها سمرفيلد (Summerfeldt, 2004) وتشبه إ.ل.ص.ت أعراض ف.ا.ح في وصف أصحابها بأن لديهم "حساسية إدراكية خاصة للتغيرات في بيئتهم المعتادة" كما وصفها ليكمان (Leckman et al., 1994) وكذلك للأخطاء فهم يكتشفونها بسرعة ولا يعتادونها بسهولة (Ben-Sasson & Podoly 2016)، كما لاحظ هازن تفوق الأطفال الموسوسين اكتشاف الفروق بين منبهين (Hazen et al., 2008) وهو ما يحتاج فرط حساسية للاختلافات والأخطاء التافهة وأذكر بصاحبنا القاعد على الواحدة، أي أن كثيرا من الخطوط تتلاقي لتبين التفاعل بين ف.ا.ح وأعراض الوسواس القهري خاصة إ.ل.ص.ت.
نقاط إكلينيكية وبحثية هامة :
من المهم الانتباه إلى أن الشعور بالاكتمال أو بالمعرفة أو الصواب أو الاستواء أو الوقوع إلخ الذي يسعى إليه الشخص ليس مرتبطا بظاهر المهمة بقدر ما يرتبط بما يستبطنه الشخص بعد إتمامها الظاهر، أي ليس بحالة الأشياء بعد إنجاز المهمة بقدر ارتباطه بحالة الشخص الداخلية بعد القيام بها، أي أننا نتحدث عن شعور باطني أيا كانت تسميته يسعى الشخص الموسوس لبلوغه فلا يصل أيا كانت طريقة سعيه، ليس فقط لوجود مشكلة لديه في هذا النوع من الشعور وإنما أيضًا لأن الوصول إليه لابد يتم عبر التحقق الاستبطاني (أو العقلي) وهو نقطة ضعف الموسوسين.
والأهم من ذلك أن ليس كل مرضى الوسواس القهري يفصحون من تلقاء أنفسهم عن تلك المشاعر والخبرات الحسية، معنى ذلك أن السؤال المباشر عنها مهم ليتم اكتشافها والتعامل معها أثناء الع.س.م، ومن الدراسات الحديثة دراسة (Melli, et al., 2020) التي اهتمت لا بوجود إ.ل.ص.ت من عدمه وإنما بتأثيرها على الشخص باعتبار أن الاختلافات بين الناس ليست فقط في القابلية لحدوث إ.ل.ص.تPropensity to—NJREs وإنما في حساسية Sensitivity الشخص لها أو في قدرته على تحملها فهناك من يرى أن حدوثها يجعله غير قادر على العمل لأنه سيرتكب أخطاء أكثر أو لأنه لن يتمكن من تركيز انتباهه، وهناك من يرى أن إ.ل.ص.ت تحرمه من الاستمتاع بما يمكن أن يكون ممتعا في حياته، وتمثل هذه الدراسة منحى جديدا في البحث يستهدف تأثير حدوث العرض على المريض ويفرق بين القابلية لحدوث عرض ما وبين الحساسية له فهناك كثيرون لديهم قابلية لحدوث إ.ل.ص.ت لكنهم قادرون على تحملها بينما مرضى الوسواس القهري (أو غيره) لا يتحملونها لأن لديهم حساسية عالية لها.
وأخيرا رغم أهمية وشيوع هذه الأعراض فإن الدراسات التي اهتمت بها قليلة ما تزال، بل إن التصنيف الأمريكي الخامس DSM--5 لم يعطها اعتبارا حيث ما تزال القناعات التي تتعلق بالضرر أو التهديد هي الدافع الرئيسي لأعراض الوسواس القهري وهذا طرح غير كامل ولا كاف لأن الشعور بعدم الاكتمال أو بأن شيئا ما ليس كما يجب هو أحد الدوافع المعتبرة في كثير من حالات الوسواس، لذلك يجب الاهتمام البحثي بمشاعر اللااكتمال وظاهرة إ.ل.ص.ت، والظواهر الحسية Sensory Phenomena في حالات الطيف الوسواسي بشكل عام، ناهيك عن أهمية دراسة مرضى الوسواس القهري بشكل أكثر تخصصا وتصنيفا للمرضى بحيث يدرس كل نوع من المرضى على حدة وليس كما يحدث غالبا من إجراء الدراسة على مرضى وسواس قهري بشكل عام،
المراجع:
1- Schmidt, JP & Stasik-O’Brien, SM (2017): Not Just Right Experiences in Obsessive-Compulsive and Related Disorders. Journal of Psychological Research VOL. 22, NO. 3/ISSN 2325-7342
2- Nelson, E.A., Abramowitz, J.S., Whiteside, S.P., Deacon, B.J. (2006). Scrupulosity in patients with obsessive–compulsive disorder: Relationship to clinical and cognitive phenomena. Journal of Anxiety Disorders, 20, 1071–1086.
3- Miguel, E. C., Coffey, B. J., Baer, L., Savage, C. R., Rauch, S. L., & Jenike, M. A. (1995): Phenomenology of intentional repetitive behaviors in obsessive- compulsive disorder and Tourette’s disorder. The Journal of Clinical Psychiatry, 56, 246–255.
4- Pitman, R.K. (1987). Pierre Janet on obsessive-compulsive disorder: review and commentary. Archives of General Psychoiatry, 44, 226-232.
5- Pitman RK (1989). Animal models of compulsive behavior. BiolPsychiatry 1989, 26:189-198.
6- رفيف الصباغ (2009) : منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري (10)
7- وائل أبو هندي، رفيف الصباغ، محمد شريف سالم ويوسف مسلم (2017) نحو فهم متكامل للوسواس القهري، البابُ الثالث، الفصل الثاني: بعض السمات المعرفية للموسوسين، سلسلة روافد 138, تصدر عن إدارة الثقافة الإسلامية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة الكويت
8- Szechtman H, Woody E. (2004). Obsessive-compulsive disorder as a disturbance of security motivation. Psychological Review, 111 (1), 111-27.
9- Rapoport, J. L. (1991). Basal ganglia dysfunction as a proposed cause of OCD. In B. J. Carroll & J. E. Barrett (Eds.), Psychopathology and the brain (pp. 77-95). New York: Raven Press.
10- Mangan, B. (2001). Sensation's ghost: The non-sensory "fringe" of consciousness. PSYCHE, 7(181-).
11- Leckman, J.F., Walker, D.E. Goodman, W.K., Pauls, D.L., & Cohen, D.J. (1994). “Just right” perceptions associated with compulsive behavior in Tourette’s syndrome. American Journal of Psychiatry, 151, 675– 680.
12- Coles, M. E., Frost, R. O., Heimberg, R. G.,& Rheaume, J. (2003). “Not just right experiences”: perfectionism, obsessive–compulsive features and general psychopathology. Behaviour Research and Therapy, 41, 681–700.
13- Cochrane, T. and Heaton, K. (2017) Intrusive Uncertainty in Obsessive Compulsive Disorder. Mind and Language, 32 (2). pp. 182-208.
14- Lazarov A, Liberman N, Hermesh H and Dar R (2014) Seeking Proxies for Internal States in Obsessive–Compulsive Disorder. Journal of Abnormal Psychology. 2014, Vol. 123, No. 4, 695–704
15-Oltmanns TF, Gibbs NA: Emotional responsiveness and obsessive- compulsive behavior.Cognition & Emotion 1995, 9:563-578.
16- Reed GF (1977): The obsessional-compulsive experience: a phenomenological reemphasis. PPR 1977, 37:381-384.
17- Summerfeldt, L. J. (2004). Understanding and treating incompleteness in obsessive-compulsive disorder. Journal of Clinical Psychology, 60(11),1155–1168.
18- van Velzen, L.S., Vriend, C., de Wit, S.J., & vanden Heuvel, O.A. (2014). Response inhibition & interference control in obsessive-compulsive spectrum disorders.[Review]. Frontiers in Human Neuroscience,8, 419.
19- Kalanthroff E, Teichert T, Wheaton M.G, Kimeldorf M.B, Linkovski O, Ahmari S.E, Fyer A.J, Schneier F.R, Anholt G.E. & Simpson H.B (2016): The role of response inhibition in medicated and unmedicated OCD patients: evidence from the stop-signal task. Depression and Anxiety 00:1–6 (2016)
20- Ben-Sasson Ayelet, Dickstein Noam, Lazarovich Liraz & Ayalon Noga (2017): Not Just Right Experiences: Association with Obsessive Compulsive Symptoms and Sensory Over- Responsivity, Occupational Therapy in Mental Health, DOI: 10.1080/0164212X.2017.1303418
21- Miller, L. J., Anzalone, M., Lane, S., Cermak, S. A., & Osten, E. (2007). Concept evolution in sensory integration: A proposed nosology for diagnosis. American Journal of Occupational Therapy, 61, 135–140. doi:10.5014/ajot.61.2.135
22- Hazen, E. P., Reichert, E. L., Piacentini, J. C., Miguel, E. C., Do Rosario, M. C., Pauls, D., & Geller, D. A. (2008). Case series: Sensory intolerance as a primary symptom of pediatric OCD. Annals of Clinical Psychiatry, 20(4), 199–203. doi:10.1080/10401230802437365
23- Taylor, S., Conelea, C. A., McKay, D., Crowe, K. B., & Abramowitz, J. S. (2014). Sensory intol- erance: Latent structure and psychopathologic correlates. Comprehensive Psychiatry, 55(5), 1279–1284. doi:10.1016/j.comppsych.2014.03.007
24- Ben-Sasson Ayelet, Podoly Tamar Yonit (2016) Sensory over responsivity and obsessive compulsive symptoms: a cluster analysis., Comprehensive Psychiatry (2016), doi: 10.1016/j.comppsych.2016.10.013
25- Melli G, Moulding R, Puccetti C, Pinto A, Caccico L, Drabik M.J, Sica C, (2020): Assessing beliefs about the consequences of not just right experiences: Psychometric properties of the Not Just Right Experience-Sensitivity Scale (NJRE-SS). Clin Psychol Psychother. 2020;1–11.
ويتبع >>>>>>: وسواس العد القهري