الحديث عن مفاهيم نفسية في تحليل السلوك البشري عملية تستحق الخوض فيها، وتساعد الإنسان على استيعاب وإدراك سلوك البشر حوله، والمجموعة البشرية التي ينتمي إليها، وكذلك السلطة التي يخضع إليها طوعاً أو قهراً. الغاية أيضاً من هذه المفاهيم تقييم البشر لحاضرهم والتفكير بحل لمشاكلهم ومن ثم التخطيط لمستقبل أفضل. في إطار هذا الموضوع سيكون الحديث عما يسمى في العلوم النفسية ثلاثية الظلام التي تتعلق بثلاثة صفات بشرية غير مرغوب فيها وتثير الاستفزاز عموماً وهي:
1- السيكوباتية Psychopathy
2- النرجسية Narcissism
3- الميكافيلية Machiavellianism
هذه الصفات الشخصية كثيراً ما تجتمع سوية في الإنسان والكثير من الدراسات سابقاً كان تشير إلى الصفات التي يتم تمييزها سريرياً في المراجعين لمراكز الصحة النفسية، ولكن بعد ذلك توسعت الدراسات حول تمييز هذه الصفات الشخصية الثلاثة في المجموعات البشرية حين لا تكون ظاهرة للعيان وحين ذلك يتم استعمال مصطلح دون السريرية. الثلاثية بحد ذاتها يمكن إيجازها باستعداد الإنسان أو ميله لأن يكون قاسياً ومتلاعباً في علاقته مع الآخرين ولا يميل إلى الاهتمام بالتواضع والاستقامة. المخطط أدناه يوضح مميزات الصفات الشخصية الثلاث أعلاه في ثلاثية الظلام.
يميل الكثير من الباحثين في العلوم النفسية على جمع هذه الصفات الشخصية الثلاث في مفهوم واحد وهو ثلاثية الظلام، في حين يميل البعض الآخر إلى تجنب جمع الصفات الشخصية ويفضل عزل الواحدة عن الأخرى. الدراسات العلمية ترجح الرأي الأول لوجود صفات مشتركة بين الصفات الشخصية الثلاث وتجمعهم في شخصية واحدة. هناك أيضاً مجموعة أخرى من الباحثين تفضل إضافة مفهوم السادية إلى الثلاثية والحديث عن رباعية الظلام.
السيكوباتية
الإنسان السيكوباتي لا يصعب تمييزه سريرياً وتراه يتميز بقسوته وتهوره ولا يميل إلى التعاطف مع الآخرين ولا يعير أي أهمية لمصالحهم. ترى الكثير منهم يميل إلى إغراء الآخرين لتحقيق مصالحه الشخصية ولا يبالي بمشاعر ضحاياه أو من حوله. هذه الصفات عموماً لا تختلف عن الميكافيلية سوى أن الميكافيلي عموماً أكثر تخطيطا وحذراً في تحقيق أهدافه، وأكثر انتباهاً للأعراف الاجتماعية بل وحتى الدينية. يمكن تصنيف السيكوباتية إلى صنفين:
١- سيكوباتية أولية: يعتقد الكثير بسبب جينات تم وراثتها من الوالدين تسبب عجز وجداني يمنعه من الشعور بالأسى مع الميل إلى الاحتيال والمراوغة. السيكوباتية الأولية كثيرة الارتباط بالنرجسية والميكافيلية ولا تميل إلى التحسن مع تقدم العمر.
٢- سيكوباتية ثانوية مصدرها اكتساب هذه الصفات من خلال التعرض للظروف البيئية ونمط حياة اجتماعي حيث يتم تمجيد الجريمة فيه وهذه الأيام استعمال المخدرات بأنواعها. هذه المجموعة تميل إلى التحسن في سلوكها مع تقدم العمر، وربما ذلك بسبب نضوجهم العاطفي والمعرفي أو تعرض الدماغ لصدمات عدة تؤدي إلى انخفاض قدرتهم العقلية.
السيكوباتية هي صفة من صفات الشخصية، ويتم ملاحظتها فيما لا يقل عن ٢٠٪ من السجناء في العالم الغربي. من جهة أخرى هذه الصفة بحد ذاتها موجودة فيما يقارب ١٪ من السكان عموماً في مختلف بقاع الأرض.
أحياناً يُفضل الحديث عن السيكوباتية من خلال مثلث واحد ربما يعكس ما تشاهده من خلال دراسات شخصيات في المحيط الاجتماعي والسياسي. هذه الشخصيات تصل إلى الزعامة بطريقة أو أخرى بسبب ارتفاع فطنتهم، وظروف بيئية من اجتماعية، سياسية، عقائدية، واقتصادية. الوصول إلى كرسي الزعامة بحد ذاته لا يكفي لسد احتياجاتهم النفسية، ولا يحور سلوكهم وتعاملهم مع الآخرين بل على العكس يفسح المجال لهم بالاستمرار في التهور وتدمير من حولهم ومع كل ذلك لا ترى أثراً لرد فعل عاطفي فيهم.
النرجسية
مفهوم النرجسية ظهر في بداية القرن العشرين مع هيمنة المدرسة التحليلية في تفسيرها لتطور الشخصية البشرية، وتم حصرها في إطار النضوج النفسي الجنسي وسعي الإنسان إلى رعاية ذاته. لم تنظر المدرسة التحليلية إلى النرجسية كصفة من صفات الشخصية بل على العكس تم وضعها في إطار طبيعي، ولم يتغير الأمر حتى منتصف العقد الثالث من القرن العشرين حين تم وصف الشخصية النرجسية التي لا تبالي إلا بذاتها وتحس دوماً بالتعالي والتفوق على الآخرين، وعدم تعاطفهم مع البشر عموماً. ظهر مصطلح الشخصية النرجسية بعد ذلك في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، وتم كذلك تمييز النزعة النرجسية الدون السريرية في المجتمع عموما في السبعينيات.
غرور النرجسي لا حدود له، ويطالب بحقه فقط ولا يتكلم عن واجباته ومسؤولياته. لا يتوقف عن الشعور بالحسد تجاه الناس ولكنه في نفس الوقت لا يصرح إلا بحسد الناس له. يتصور دوماً بأن أقرب الناس له في غاية الرضى منه، وبأنه يمتلك حدساً رومانسياً لا مثيل له، وبأن ذكائه أعلى بكثير من غيره. متى ما شعر بالتهديد الذاتي يتصرف بصورة عدوانية تجاه الآخرين، بل وأحياناً أشد من السيكوباتي الميكافيلي. هذه النرجسية كثيرة الملاحظة في المجتمع وتراها في العديد من الزعماء في العالم الشرقي والغربي، سوى أن القيود المفروضة في مجتمعٍ ما تختلف عن آخر وهذا ما يفسر شدة سلوكهم العدواني.
الميكافيلية
مصطلح الميكافيلي مصدره كتاب الأمير لميكافيلي الذي استنتج بأن أكثر الأمراء نجاحاً هو الأمير الذي يميل إلى الغش والخداع وخدمة مصالحه. تم استحداث الميكافيلية كصفة للشخصية في بداية الستينيات من قبل ريتشارد كريستي، ولكن الذي تشتد فيه هذه الصفة أكثر نجاحاً من غيره في استعمال خطط تتميز بإغراء وخداع الآخرين لخدمة مصالحه الشخصية. نظرتهم إلى العالم والقيم الإنسانية تميل إلى التشاؤم والسخرية منها، ولا يختلفون في شخصياتهم عن صفات الشخصية السيكوباتية في عدم الشعور بالذنب وغياب الضمير الحي. استغلالهم للآخرين لا حدود له، ولكن خطواتهم لتحقيق مصالحهم أكثر حذراً لحين الوصول إلى أهدافهم.
يعتقد الكثير بأن الميكافيلي أكثر ذكاءً من أقرانه، ولكن لا يوجد دليل على ذلك من أقرانه ولكنه أكثر نجاحاً مع الغش والخداع. كذلك يتميز الميكافيلي بغياب التعاطف مع الآخرين، وقوة السيطرة على مشاعره في أعماق نفسه وخاصة في علاقته مع أقرب الناس عليه. أما تفاعله خارج محيط المقربين منه فهو أكثر ميلاً لدراسة تفاعل الآخرين والسيطرة عليهم من خلال مراقبة ميولهم وسلوكهم.
ثلاثية الظلام في المجتمع
الغاية من هذا المقال لم يكن لتوضيح اضطرابات الشخصية التي يتم التعامل معها في مراكز الطب النفسي. تجتمع السيكوباتية، النرجسية، والميكافيلية في شخصية واحدة في معظم الحالات ونتيجتها حصول المراجع على تشخيص اضطراب الشخصية المتميز بعدائه للمجتمع. السيكوباتية الأولية أقل ملاحظة من السيكوباتية الثانوية في الممارسة المهنية، والعديد من المتورطين في أعمال إجرامية لا يفلتون إلا نادراً من القانون، والبعض منهم يتحسن أمره بعد العقد الخامس من العمر. متى ما تمت ملاحظة صفات سيكوباتية في المراجع لا يصعب ملاحظة الصفات النرجسية والميكافيلية.
أما على مستوى المجتمع عموماً فإن هذه الصفات أقل شيوعا ويتم الكشف عنها في دراسات نفسية ومراقبة سلوك البشر في محيطهم الخاصة. لا تصل عتبة السلوك إلى مخالفة القانون، ولكن من يعاني منهم هم المقربون إليهم.
الزعامة وثلاثية الظلام
الغاية من دراسة مفاهيم نفسية هو إلقاء الضوء على سلوكيات البشر ومحاولة استيعابها. الحديث أعلاه تطرق إلى الصفات الشخصية تحت السريرية التي لا علاقة لها بمراكز الطب النفسي، وإنما إلى وجود مثل هذه الصفات في المجتمع عموماً وتأثيرها على الآخرين وخاصة أولئك الذين يصلون إلى مقعد السلطة.
السعي إلى الزعامة بحد ذاته طموح نرجسي ويتطلب في نهاية الأمر صفات ميكافيلية للتفوق على الخصوم. الجلوس على مقعد الزعامة يدفع الإنسان نحو تحفيز صفاته السيكوباتية وبالنهاية تسلطه على الآخرين والبعض يفسر ذلك بنجاح الزعيم.
من يتتبع تاريخ الزعامة في العالم الغربي والشرقي لا يصعب عليه الاستنتاج بأن الوصول إلى زعامة الأوطان هو من نصيب من يملك ثلاثية الظلام في صفاته الشخصية في العديد من الحالات. هناك من يعمم ذلك على جميع الزعماء، ولكن مثل هذا الاستنتاج لا يخلو من الغلو. هذه الثلاثية هي التي دفعت البشرية لاستحداث نظام ديمقراطي منذ عهد الرومان، وتمسكت به الحضارة الغربية مع نهضتها الفكرية والصناعية. توسع الأمر ليشمل استحداث سلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية، وضمان خضوع الثانية بالذات والأولى كذلك لسلطة قضاء نزيه مستقل. ربما سيرة الرئيس الأمريكي الذي انتهت ولايته يعكس ذلك بوضوح، وبدون وجود جميع هذه التقييدات لانتهى الأمر به للتوجه نحو سلوك متهور لا أحد يعرف عقباه.
لا يتسع المجال للحديث عن العالم العربي بالتفصيل في هذا المقال، ولكن ملاحظة ثلاثية الظلام في غاية الوضوح في سلوك الزعيم العراقي الراحل صدام حسين الذي جميع بين الثلاثية بالإضافة إلى صفات سيكوباتية أولية. لا يصعب ملاحظة الثلاثية في سلوكه الشخصي والرئاسي بالإضافة إلى التهور مع الدخول في صراعات وحروب. كذلك الأمر مع الرئيس الليبي السابق الذي لا يزال شعبه يعاني من الدمار الذي تركه حاله حال العراق.
أما في عصرنا هذا فالثلاثية ليست غريبة على العديد من هم جالسون على مقعد السلطة، ومع غياب نظام يراقب وسلوكهم ويخضعهم للقانون، فإن سلوكهم على المدى البعيد قد تكون نتيجته تدمير الأوطان، وهذا بالتأكيد ما سيحدث إن لم يتم استحداث مؤسسات تشريعية وقضائية نزيهة.
واقرأ أيضاً:
الشخصية المتغطرسة: زملة هيوبريس أو متلازمة الغطرسة / متلازمة الغطرسة. . . والسلطة