الإرشاد والعلاج النفسي الإيجابي1
ثانيا : فلسفة العلاج النفسي الإيجابي وافتراضاته:
يقوم العلاج النفسي الإيجابي على مجموعة من المبادئ والافتراضات نذكر منها:
الافتراض الأول- الأمراض تظهر عندما تختفي القوى النفسية الإيجابية وتعزيز نقاط القوة الإيجابية يمكن أن يساعد في التعافي من الاضطراب:
افترض بترسون وسليجمان (2004) أن الأمراض النفسية real psychopathologies هى الأمراض التى يختفى لدى أصاحبها أو المرضى بها كافة القوى النفسية أو الخصال الشخصية الإيجابية وليس مجموعات الزملات المرضية من قبيل الاكتئاب وسوء تعاطى المخدرات وهذا افتراض من وجهة نظرنا إذا صح علمياً سيقلب كل أسس علم النفس المرضى والعلاجات النفسية بكافة مذاهبها رأساً على عقب (محمد الصبوة، 2008، 38).
أي أن العلاج النفسي الإيجابي يستند على فرضية أن المصادر الإيجابية مثل نقاط القوة حقيقية وواقعية مثل الأعراض والاضطرابات التي تكون واضحة كالدفاعات والضلالات (Dobiała & Winkler, 2016, 8)
وبناء على هذا الافتراض فإن التدخلات العلاجية تتضمن اكتشاف إمكانيات النمو والتركيز على نقاط القوة الإيجابية والفضائل الإنسانية السامية لدى العميل وتنميها وتعزيزها, بهدف الحد من المشكلات التى يمكن أن يعانى منها، على أساس أن الفرد عندما يتعرض للمشكلات النفسية أو الاضطراب فإن تفاقم المشكلات السلبية تطغى على الجوانب الإيجابية، وبناء عليه فإن تجميع نقاط القوة لدى العميل واستثمارها وتعزيزها يخفف من المشاعر السلبية ويحد من الأعراض السلبية.
الافتراض الثاني- التوسيع والبناء وتنشيط الانفعالات الإيجابية يساعد في التعافي:
وفقا لنظرية التوسيع والبناء The broaden-and-build theory التي قدمتها "فريدريكسون" فإن الانفعالات الإيجابية positive emotions تقوم بتوسيع وتوفير كم من البدائل حيث توسع من مجموعة الأفكار والأفعال thought–action التي تتبادر إلى الذهن، وهذا يؤدي لبناء مهارات جديدة. أي أن تنشيط الانفعالات الإيجابية يوسع ذخيرة الفرد من الأفكار والإجراءات التي يمكن أن يتخذها(Fredrickson, 2013, 16).
كما أن للانفعالات الإيجابية وظائف أخرى منها أنها تخفف من آثار الانفعالات السلبية العالقة negative emotions وتدعم الصمود النفسي psychological resiliency وتبني الموارد الشخصية personal resources وتحافظ على الصحة النفسية والجسدية (physical well-being (Fredrickson, 2004, 1370: 1373.
ولذلك يعتمد التدخل الإيجابي أيضا على تنشيط الانفعالات الإيجابية حيث إن العلاقة بين الانفعالات الإيجابية والسلبية غير متضادة ولكنها تبادلية في أن كل منهما يؤثر في الآخر بدرجة ما، فتخفيف الشعور بالمعاناة غالبا ما يعتمد على تنمية الشعور بالسعادة وبناء الشخصية، والانفعالات الإيجابية تبطل مترتبات الانفعالات السلبية (الفرحاتي السيد، 2012، 28)
إن بناء الانفعال الإيجابي والمشاركة الفعالة، والمعنى قد يكون له أثر فى مكافحة الاضطراب نفسه. وتتزايد الأدلة لتأثير الانفعالات الإيجابية، فقد أثبتت الدراسات أن المشاعر الإيجابية تساعد على التقليل من المشاعر السلبية بسرعة أكبر.
ففي دراسة لاحقة قام بها فريدريكسون (2004) وجد أن الانفعالات الإيجابية تعمل أيضاً على زيادة فعالية القلب والأوعية الدموية من زيادة المشاعر السلبية, مثل: زيادة معدل ضربات القلب، وزيادة ضغط الدم, تضيق الأوعية. وأظهرت فريدريكسون (2004) أن مساعدة الأفراد لإيجاد معنى إيجابي في المواقف العصيبة له تأثير متصاعد للانفعالات والتفكير الإيجابي، فالأفراد الذين يعانون من المشاعر الإيجابية أكثر عرضة للعثور على معنى في الأحداث السلبية ومرونة في استخدام الانفعالات الإيجابية (رياض العاسمي، 2016، 227-228)
يجب متابعة السعادة بشكل صريح في العلاج النفسي. والسعادة يمكن أن تكون هدفًا واضحًا للعلاج النفسي. هناك أدلة دامغة على أن الشعور بمشاعر أكثر إيجابية يعزز العلاقات وإنتاجية العمل والصحة البدنية، بالإضافة إلى أنه يخفف من الاكتئاب، فإنه يوسع العقليات ويسهل الازدهار والأفراد الذين يعانون من المزيد من المشاعر الإيجابية والتفاؤل تزيد لديهم الاحتمالات إلى العيش لفترة أطول (Rashid, 2009, 462)
الافتراض الثالث- العلاج لا يكتفى بخفض الأعراض والمعاناة وإنما يستكمل مساره في تحقيق النمو والازدهار بعد التعافي:
ما يحدث في العلاج النفسي هو علاج الاضطرابات بشكل مباشر: بتعليم الأشخاص القلقين على مهارات الاسترخاء، والأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب بالجدل ضد أفكار الفشل والإحباط، والأشخاص الذين يعانون من صراع بالاستبصار بالموارد المتاحة لديهم، والأشخاص الذين يعانون من اضطرابات الوسواس القهري بمعرفة أن الكوارث لا تنشأ إذا لم يؤدوا طقوسهم وسلوكياتهم القهرية. أي أن الافتراضات غير المعلنة لجميع العلاجات "التحدث" عن مشاكلهم ومواجهتها للتغلب عليها. بينما التدخلات الإيجابية باعتبارها مدخل جديد ومكمل للعلاج الذي يركز على المشاكلات، فهو سهم آخر في جعبة المعالج. حيث العلاج النفسي كما هو محدد الآن هو المكان الذي تذهب فيه للحديث عن مشكلاتك ونقاط ضعفك؛ ربما في المستقبل سيكون أيضًا المكان الذي تذهب إليه لبناء نقاط قوتك. (Seligman et al., 2005, 12)
إن التفاعل بين الأفراد وبيئتهم يولد السعادة والأعراض المرضية. ولذلك يهدف العلاج النفسي الإيجابي لمساعدة الأفراد على الوعي بأنهم يستطيعون النمو نتيجة تجاربهم حتى لو كانت التجربة مؤلمة(Guney, 2011, 81) .
ويستند العلاج النفسي الإيجابي على فرضية أن المستفيدين من العلاج لديهم رغبة فطرية وطبيعية في تحقيق النمو والرفاه والسعادة بدلاً من السعي فقط لتجنب البؤس والقلق والأعراض المرضية تظهر عندما يتم إعاقة النمو (Dobiała & Winkler, 2016, 8)
كما لا يوجد مبرر تجريبي يذكر بأن تقييم ومعالجة العجز يجب أن يكون الهدف الوحيد للعلاج النفسي. ولذلك نحن بحاجة إلى تطوير علاج نفسي شامل يفحص نقاط الضعف والقوة لدى عملائنا. في كشف العمليات التي تساهم في الازدهار والأداء الأمثل (Rashid, 2009, 462)
الافتراض الرابع- العلاج النفسي الإيجابي يشكل علاقات وتحالفات علاجية في مناخ إيجابي آمن.
يمكن تشكيل العلاقات العلاجية الفعالة من خلال مناقشة وتوضيح جوانب القوة الإيجابية، وليس فقط التحليل المطول الشامل لنقاط الضعف والعجز (Dobiała & Winkler, 2016, 8)
إن الحديث عن إيجابيات المستفيد كفيل بخلق لغة حوار إيجابية في وقت قصير، وسرد نفسي يدعم العلاقة العلاجية، كما أنه يبتعد عن سياق اختزال الشخص في الاضطراب، ويغطي على ثقافة الوصمة بموضوعية وواقعية غير مفتعلة.
وقد حدد طيب رشيد أربعة اعتبارات مهمة لأخذها في الاعتبار:
أولا: لا تعني التدخلات الإيجابية أن بقية العلاجات النفسية سلبية، ولا يمكننا فهم الإيجابيات دون فهم السلبيات. والتدخلات الإيجابية تعمل على إعادة تثقيف وتوجيه الانتباه والذاكرة نحو الإيجابيات بدلا من التمركز حول السلبيات كما في حالات القلق والاكتئاب.
ثانيًا- قابلية الإنسان للتكيف مع الظروف الجديدة والتعود بعد امتلاك الأشياء أو تحقيق الأهداف المادية مما يجعله لا يشعر بها ولا تزداد سعادته، ولذلك فإن التدخلات الإيجابية القائمة على الأنشطة السلوكية المتعمدة بوعي – لكسر درجة التعود والتكيف – مفيدة، خاصة عند الانخراط بشكل دائم في الأنشطة التي تتناسب مع قيمهم ونقاط قوتهم واهتماماتهم ، فإن مستويات السعادة تتحسن بشكل كبير. مع تنويع وتغيير هذه الأنشطة في نفس الوقت، كي لا يتم التكيف والتعود.
ثالثا أن تكون ممارسة الأنشطة الإيجابية والتدخلات بشكل اختياري يعتبرها المستفيد شيئا ايجابيا وليس أمرًا إلزاميًا. كما يجب مراعاة الفروق الثقافية والقيمية في اختيار الأنشطة.
رابعاً تدخل التدخلات الإيجابية تفيد الأفراد العاديين غير المضطربين الذين يرغبون في جعل حياتهم أكثر إرضاءً وسعادة. لأن علم النفس علم يهتم بالصحة و ليس فقط بالمرض. (Rashid, 2009, 463)
العلاج النفسي الإيجابي قائم على الأدلة والبراهين:
حقق علم النفس العلاجى الإيجابى في السنوات الست الأخيرة (PPT) مكاسب علمية كبيرة فى تحليل طبيعة وفوائد وأهداف هذه الحركة من الناحية التطبيقية. فعلى سبيل المثل, قام كل من هايدت (Haidt ,2006), سليجمان ولينلى وجوزيف, (Seligman, Linley & Joseph, 2002) ويترسون(Peterson, 2006) وفريدريكسون (Fredrickson ,2015) بالعديد من الدراسات الإكلينيكية التى وضعت على النفس الإيجابى على الطريق العلمى السليم لفهم وعلاج الأمراض النفسية.
ويعتبر العلاج النفسي الإيجابيPPT تدخلا نفسيا معترفا به وتم التحقق منه في البداية مع الأشخاص الذين يعانون من أعراض الاكتئاب واستند إلى افتراض أن العلاج الأمثل لا يستهدف فقط التشوهات المعرفية والإدراكات الخاطئة faulty cognitions، والعواطف العالقة غير المحلولة unresolved والمقموعة suppressed والعلاقات المضطربة troubled relationships، ولكنه يشمل أيضًا بشكل مباشر وأساسي "بناء الانفعالات الإيجابية ونقاط القوة الشخصية والمعنى .(Seligman et al., 2006, 755)
وجوهر التدخلات الإيجابية في علاج الاكتئاب تمثلت في العمل على موارد الشخص ونقاط قوته وتوجيه عمليات الانتباه والذاكرة من خلال الأنشطة والممارسات اليومية والتدريبات نحو الحياة التي تستحق أن تعاش، لأن أكثر ما يبرز في حالة الاضطراب هو التحيز المعرفي للانتباه والذاكرة.
ويعد PPT تطورا لمدخل علاجي مختلف عن المداخل العلاجية الأخرى حيث يركز على تعظيم الرفاهية وحسن الحال wellbeing بدلاً من تخفيف العجز (deficit. (Riches, et al., 2016
وهناك عدد من التدخلات الإيجابية لمشكلات سريرية محددة، مثل: الاكتئاب والقلق والفصام والفقد والحزن واضطراب العلاقة. (Rashid, 2009, 461) وسوء تعاطي المواد المخدرة (Afzali, 2017) وتحسين نمو ما بعد الصدمة (إبراهيم يونس، 2019)
وأثبتت الأبحاث والدراسات فعالية العلاج النفسي الإيجابي كأحد المداخل العلاجية الفعالة وفقا لما يلي من دراسات: (Meyers et al., 2012; Mongrain & Anselmo-Matthews, 2012; Seligman, Steen, Park & Peterson, 2005; Seligman, Rashid, Parks, 2006; Rashid & Anjum, 2007; Vella- Brodrick, Park & Peterson, 2009; Schueller, 2010; Akhtar, & Boniwell, 2010) (in: Dobiała & Winkler, 2016, 8) وتبين من تحليل نتائج الدراسات meta-analysis وصلت إلى 51 دراسة للتدخلات الإيجابية تحسنًا ملحوظًا في الرفاهية وخفض أعراض الاكتئاب لدى مرضى الاكتئاب (Sin & Lyubomirsky, 2009).
ويشير دابيالا ووينكلر (2016) Dobiała & Winkler إلى أن هناك العديد من الدراسات التي تحقق في فعالية تدخلات علم النفس الإيجابي مثل: العمل بنقاط القوة الشخصية working with personal strengths الذي تم تقديمه من خلال ((Seligman, Steen, Park & Peterson, 2005)؛ وعد وإحصاء النعم (counting blessings (Emmons & McCullough,2003 وممارسة التعاطف (practicing kindness (Otake et al., 2006 وتحديد الأهداف الشخصية setting personal goals (Sheldon et al., 2002; Green et al., 2006)
لاشك أن الموجات الأخيرة للعلاج النفسي تحاول تقديم واستكمال ما يمكن التعامل به مع الأعراض بجانب تحسين جودة الحياة والنظر للإنسان نظرة شاملة كإنسان وليس مريض بدوام كامل. والتحقق من فاعلية المدخل العلاجي وحدود ومحددات تأثيره ترتبط بمزيد من الدراسات والتحقق عبر الزمن، فلا داع لتعظيم اتجاه ومدخل علاجي على حساب الآخر بدون مبررات موضوعية كافية، ورغم ذلك فنحن الآن نعايش أفضل فترات العلاج النفسي من حيث الجهود المبذولة والاهتمام العالمي وتحسين ثقافة تقديم الخدمات النفسية وتوظيفها، بجانب سهولة انتقال التيارات الحديثة عبر حركة الترجمة أو التدريب.
المراجع:
- محمد نجيب الصبوة (2008). علم النفس الايجابي: تعريفه وتاريخه وموضوعاته والنموذج المقترح له – مجلة علم النفس – مصر. ص ص 16 – 43 سلسلة 21 - عدد 79 , 76.
- الفرحاتي السيد محمود (2012) علم النفس الإيجابي للطفل، الإسكندرية: دار الجامعة الجديدة.
- رياض نايل العاسمي (2016). علم النفس الإيجابي السريري. دمشق: دار المسيرة.
إبراهيم يونس (2019). تنمية مهارات التفكير الإيجابي كمدخل لتحسين نمو ما بعد الصدمة. رسالة دكتوراه، كلية البنات للآداب والعلوم والتربية – جامعة عين شمس.
- Dobiała, E., & Winkler, P. (2016). Positive psychotherapy’according to Seligman and ‘Positive Psychotherapy’according to Peseschkian: A Comparison. Int J Psychother, 20(3), 3.
- Fredrickson,B.L.(2013). Positive Emotions Broaden and Build, In Patricia Devine, and Ashby Plant, editors: Advances in Experimental Social Psychology, Burlington: Academic Press, 47. 1-53.
- Fredrickson,B.L.(2004).The broaden-and-build theory of positive emotions. The Royal Society. 359, 1367–1377 .doi:10.1098/rstb.2004.1512
- Rashid, T. (2009). Positive Interventions in Clinical Practice. Journal of Clinical Psychology: IN SESSION, Vol. 65(5), 461--466. DOI: 10.1002/jclp.20588
- Seligman, M. E. P., Steen, T. A., Park, N., & Peterson, C. (2005). Positive psychology progress: empirical validation of interventions. American Psychologist, 60, 410-421.
- Guney, S. (2011). The Positive Psychotherapy Inventory (PPTI): reliability and validity study in Turkish population. Procedia-social and behavioral sciences, 29, 81-86.
- Seligman, M.E.P., Rashid, T., & Parks, A.C. (2006). Positive psychotherapy. American Psychologist, 61, 774–788.
- Riches, S., Schrank, B., Rashid, T., & Slade, M. (2016). WELLFOCUS PPT: Modifying positive psychotherapy for psychosis. Psychotherapy, 53(1), 68.
- Sin, N. L., & Lyubomirsky, S. (2009). Enhancing well-being and alleviating depressive symptoms with positive psychology interventions: A practice-friendly metaanalysis.Journal of Clinical Psychology: In Session, 65, 467-487. DOI: 10.1002/jclp.20593
واقرأ أيضًا:
الصدمة النفسية لدى الأطفال / القياس النفسي الإكلينيكي الإيجابي