وسواس الذنب التعمق القهري و.ذ.ت.ق1
أشرنا من قبل إلى أن إحدى الخصائص المعرفية الجوهرية في تشخيص اضطراب الوسواس القهري وهي سلامة الاستبصار لا يمكن تطبيقها على الوساوس الدينية بنفس الطريقة المعتادة في عروض الوسواس القهري المختلفة حيث يقيم الاستبصار بثلاثة درجات: ١- استبصار جيد. ٢- استبصار ضعيف. ٣- انعدام الاستبصار ..... وقد يتأرجح الاستبصار في مختلف عروض الوسواس، بمعنى أنه عادة يستطيع مرضى الوسواس القهري في مرحلة ما إدراك أن تركيز وساوسهم يتعارض تمامًا مع من هم أي مع قيمهم ومعتقداتهم الحقيقية. لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لمرضى و.ذ.ت.ق (وسواس الذنب التعمق)، لأنهم أولا يرون بأنه لا يوجد شيء أكثر مركزية بالنسبة لهم، ولا شيء يحدد بوضوح الهدف الرئيسي من حياتهم، إلا معتقداتهم الروحية وممارساتهم الدينية.... والأفكار التي تتمحور معاناتهم حولها هي جزء مهم من عقيدتهم، فلا تمكنهم رؤيتها ولا رؤية سلوكاتهم التعمقية خطأ أو حتى مبالغا فيها ليقيم الطبيب النفساني الاستبصار بأنه سليم... وفي نفس الوقت فإن عدم استبصارهم ينتج في الأساس عن تشوهات معرفية في فهمهم للعقيدة و/أو للعبادات وهو قابل للإصلاح بامتياز من خلال الع.س.م وإعادة الهيكلة المعرفية، في إطار عقيدة المريض.
كما هو الحال مع العروض الأخرى لاضطراب الوسواس القهري، فإن عرْض الذنب التعمق شديد الخصوصية والتباين. ففي حين أن أحد المرضى قد يلجأ إلى الممارسات والأماكن الدينية كوسيلة للتخفيف من خوفه الوسواسي، قد يتجنب آخر هذه الأماكن أو الممارسات لأنها تثير أفكارًا تجديفية غير مرغوب فيها. وتشير الملاحظات السريرية (Abramowitz & Jacoby, 2014) إلى ما لا يقل عن أربعة عروض تقديمية (متداخلة في أغلب الأحيان) لو.ذ.ت.ق ونراها تنطبق في الكبار والصغار من المرضى:
(أ) أفكار مقتحمة لا منسجمة مع الذات خاصة بالدين (كالسب الكفري أو التصورات الكفرية) أي تجديفية أو تشكيكية، والتي تدفع لطقوس واستراتيجيات تحييد قد تتضمن أو لا تتضمن ممارسات دينية. مثلا، استجابة للسب الكفري هناك من يستغفر ويغتسل، وهناك من يهز رأسه وهناك من يفرط في الاستغفار وهناك من يكرر العبادة، وهناك من يتحاشى أي محفزات دينية يرى أن السب مرتبط بها، وهناك من يكرر السؤال عن الحكم لنفس مصدر الطمأنة ولأكثر من مصدر...إلخ
(ب) أفكار مقتحمة لا منسجمة مع الذات (كالجنس، والعنف، والأفعال اللاأخلاقية، وما إلى ذلك) التي يتم تفسيرها جزئيًا على الأقل في إطار ديني. قد لا يكون محتوى مثل هذه الأفكار دينيًا بشكل محدد، لكن تقييمات الأفكار والسلوكيات الطقسية والتحييدية المرتبطة بها عادة ما تتضمن موضوعات دينية. مثلا المرأة التي تباغتها صور عقلية لممارسة الجنس مع شقيق زوجها.. وتفسرها على أنها من الشيطان، وتقوم بتكرار الوضوء أو الصلاة ...إلخ. عند حدوثها.... أو من يعاقب نفسه على ممارسة العادة السرية بالاغتسال ثلاث مرات في عز الشتاء ليجيز لنفسه الصلاة (ورقم 3 مهم في حياته لأنه يكرر كل شيء 3 مرات)، ومثل من تعاقب نفسها على التخيلات الجنسية أو العدوانية...إلخ.
(ج) أفكار دينية منسجمة مع الذات، ربما فيما يتعلق بمسائل الإيمان أو تفسيرات النصوص والأحكام أو الاختلافات بين المذاهب أو بين الروايات، والتي ربما تتطور إلى وساوس تشكيك في صحة الإيمان ثم طقوس تكفير أو تحقق وطلب طمأنة.. وهناك بعض المتعمقين تدفعهم هذه الأفكار لا إلى الشك في صحة إيمانهم وإنما إلى كثرة السؤال والتقاط الاختلافات بين الآراء ثم السؤال عنها .. ويلاحظ في هؤلاء نوع من الغرور بمثل هذا النوع من التفكير ونقترح تسمية هؤلاء بالمتنطعين.
(د) الشكوك الوسواسية حول ما إذا كان يتبع القواعد ويؤدي الفروض الدينية بشكل صحيح، أو ما إذا كان المرء "مؤمنًا بدرجة كافية". إذ يرغب الشخص في التصرف وفقًا لدينه، لكنه يخشى أنه ليس كذلك... ومن أمثلة ذلك فرط التحري في كون الرزق حلال أو الطعام وربما بعض الأمور الفقهية الخلافية طلبا للاطمئنان...إلخ.، ومن الأمثلة كذلك بين الملتزمين ما يسمى بجداول المحاسبة أي محاسبة الذات على معدل إحسان العبادة وعلى الذنوب، وبينما يكتفي المتدين العادي بأنه يعرف أين أخطأ أو أذنب ويستغفر وتنتهي المسألة... فإن الموسوس المتعمق بالذنب يمرر شريط أحداث يومه في تخيله باحثا عن الذنوب التي قد يكون ارتكبها ولم يدرك، والموسوس بمحاسبة الذات أولا بأول عن العبادة يضع مقاييس لكل تفاصيل عباداته يوميا بداية من صلاة الفجر أين صلاها في المسجد أم في البيت ؟ فإن كانت في البيت فقد أذنب ! وإن كانت في المسجد فمتى وصل المسجد ؟ وهل صلى ركتعي التحية أم لا ؟ ثم هل قبل تكبيرة الإحرام أم بعدها ؟ ولكل درجة ؟ ثم كم شرد ذهنه أثناء الصلاة ؟....إلخ.
وربما من المؤسف أن محتوى أفكار بعض مرضى و.ذ.ت.ق تقترب بشكل مؤلم من المركز بالنسبة لعقيدة الشخص، وما يجعل الأمور أسوأ، أنه في العديد من الأديان، يمكن النظر إلى تحدي العقيدة أو الإله ولو تخيلا على أنه تحد للإيمان نفسه وفعل من أعمال الردة، ورغم وضوح الفرق في الديانات السماوية الثلاث بين ما يحاسب عليه الإنسان وما لا يحاسب عليه فإن ذلك لا يَمْثُل في وعي غالبية المؤمنين ولا يحميهم عندما تباغتهم وساوس مثل أفكار تشكيكية في المعتقد الديني أو أفكار أو صور تجديفية (كفرية أو جنسكفرية) .... أو سماع درس ديني فيه تشديد على الطهارة أو الوضوء أو أي موضوع ديني، أو السماع عن موقع للشبهات في دينه .... إلخ.. فهم يصدمون ويفزعون محاولين الخلاص من أثر الوسواس بالتكفير عنه أو طلب الطمأنة بشأنه .... وهناك من يقرر التحري بنفسه عن الموضوع فيدخل مواقع الشبهات ليرى مثلا ويرد ... وهناك من يقرأ المتاح من الفقه لدراسة الموضوع من أوله لآخره ... ثم هو في النهاية لا يستريح لأنه لم يتأكد بنفسه.
وبينما تنجح الطمأنة التي عادة ما يقوم بها رجل دين أو أي من ذوي الدلالة بالنسبة للشخص العادي في إنهاء المشكلة فإن ذلك لا يحدث مع مريض و.ذ.ت.ق الذي وإن اطمئن للوهلة الأولى فإنه وربما بسبب أي من صفاته (كالعصابية أو الكمالية أو حساسية الذنب أو فرط الاجترار أو لا تحمل الشك...إلخ) سريعا ما يفقد اطمئنانه ويشعر بالحاجة إلى التكرار لأجل التحقق أو التأكيد ومن ثم ينتهي به الحال إلى الشعور المستمر بالذنب والبقاء في فخ التكرار التعمقي.
بشكل عام ولكل بني آدم توجد خمس استراتيجيات للتحكم في التفكير حسب ويلز وديفيز (Wells and Davies 1994) أو بالأحرى لمناجزة الضيق الإدراكي والعاطفي الناتج عن الأفكار المقتحمة التطفلية أو السيطرة عليه هي الإلهاء (كتوجيه الانتباه نحو فكرة أخرى)، أو إعادة تقييم الفكر (أي تحليل معنى الفكرة)، أو السيطرة الاجتماعية (عبر ذكر الفكرة لآخرين)، أو القلق والتوجس (التفكير الاجترري في النتائج السلبية للفكر ة)، وأخيرا العقاب الذاتي (أي أن يغضب من نفسه بسبب التفكير في الفكرة) ومرضى الوسواس القهري حسب نتائج دراسات عديدة (Inozu et al., 2018) يلجئون إلى آخر وأسوأ استراتيجيتين وهما القلق والتوجس أو عقاب الذات، وكلاهما واضح الصلة بمشاعر الخوف و/أو الذنب و/أو الخزي و/أو التقزز، وكلاهما تمثله أعراض الوسواس القهرية التعمقية وغير التعمقية (والعبارة لا تعني ديني أو غير ديني لأن أعراض الوسواس القهري الدينية ليست بالضرورة تعمقية)....
والحقيقة أن مرضى و.ذ.ت.ق يستجيبون مبدئيا ككل مرضى الوسواس بأسوأ استراتيجيتين وهما القلق والتوجس أو عقاب الذات ... كذلك يلجأ أغلب مرضى و.ذ.ت.ق إلى اجترارات كثيرة بشأن الذنب والتقصير والخوف وقد تشمل تحليل الموضوع والآراء بشأنه وهم منغمسون في مشاعر الخوف و/أو الذنب و/أو الخزي و/أو التقزز، وأما عقاب الذات في المتعمقين فيشمل أشكالا كثيرة منها ما يأخذ الشكل الديني أي بالتشديد على النفس في العبادة وأليم محاسبتها ومنها ما هو خارج عن المألوف كضرب الإنسان لنفسه عقابا على أفكار كفرية أو كفرجنسية أو حتى نوبات الانفلات التي لا يغض فيها بصره عن المثيرات الجنسية.
كذلك كثيرون من مرضى و.ذ.ت.ق يلجئون بعد فترة قد تطول أو تقصر إلى السيطرة الاجتماعية (عبر ذكر الفكرة لرجل دين أو أكثر).. وأكثرهم يقعون في فخ الاستفتاء القهري (أكثر من عالم دين وأكثر من مرة له ولغيره، ومقارنة الفتاوى والشك في بعضها وفي الذاكرة الشخصية... والاستمرار في محاولات جلب الطمأنة مناجزة لمشاعر الخوف من الذنب أو الخطأ بالاستفتاء)....
المراجع :
1- Abramowitz JS & Jacoby RJ (2014). Scrupulosity: A cognitive–behavioral analysis and implications for treatment. Journal of Obsessive-Compulsive and Related Disorders 3 (2014) 140–149
2- Wells, A., & Davies, M. I. (1994). The thought control questionnaire: A measure of individual differences in the control of unwanted thoughts. Behaviour Research and Therapy, 32, 871–878.
3- Inozu M, Kahya Y and Yorulmaz O (2018). Neuroticism and Religiosity: The Role of Obsessive Beliefs, Thought-Control Strategies and Guilt in Scrupulosity and Obsessive–Compulsive Symptoms Among Muslim Undergraduates. J Relig Health https://doi.org/10.1007/s10943-018-0603-5.
ويتبع>>>>> : وسواس الذنب التعمق القهري و.ذ.ت.ق3
واقرأ أيضًا:
الشعور بالذنب في مرضى الوسواس القهري2 / الوسواس القهري والتعمق Scrupulosity 3-3