مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا حبس العالم أنفاسه خوفا من تطور الصراع إلى حرب عالمية ثالثة تحرق العالم بعد وباء كورونا، ومما زاد من الإحساس بالخطر ما نشر على مواقع غربية من تحليلات لشخصية بوتين توحي باحتمالات تماديه في الصراع إلى مراحل شديدة الخطورة، والبعض يقارنه بهتلر وستالين وغيرهم ممن حملوا في شخصياتهم مشكلات نفسية دفعتهم للتورط في صراعات دامية وحارقة لملايين البشر، ومما يؤيد الاحتمال ما رأيناه من تصرفات غريبة وهو يجلس على طاولة ممتدة بشكل مبالغ فيه بعيدا جدا عن ضيفه ماكرون وعند انتهاء الاجتماع سبقه بمسافة كبيرة وأشار إليه ليلحق به، وفعل ذلك مع ضيف آخر، وحين سئل ماكرون عن سلوك بوتين قال أنه أصبح "منعزلا وحادا"، ونفس الوصف صرحت به المستشارة الألمانية ميركل لأوباما حين وصفت بوتين بأنه "يعيش في عالم آخر" .
ومنذ 2014م وعلماء النفس والاجتماع يرصدون سلوك بوتين ويسجلون ملاحظاتهم وينشرونها في العديد من المجلات والمواقع الإلكترونية، ليحذروا من سمات ومشكلات شخصية قد تجر العالم إلى خطر كبير خاصة وأن صاحبها يمتلك قوة عسكرية هائلة وترسانة نووية تكفي لتدمير العالم كله، وسوف نحاول قراءة شخصية فلاديمير بوتين بشيء من التفصيل: وقد ورد في موقع Psychology Today كلاما عن إصابة فلاديمير بوتين بما يسمى Hubris Syndrome ، (متلازمة الغطرسة)، وهي تعني أن الشخص الذي يحمل هذه المتلازمة يستخدم استراتيجيات عنيفة ليسيطر على الآخرين. وقد كتب الطبيب النفسي Lord David Owens بمزيد من التفصيل عن هذه المتلازمة، وقال أنها تصيب الأشخاص الذين يمتلكون ناصية القوة والسيطرة خاصة من القادة والسياسيين، وأنها تؤثر على سلوك الشخص وقراراته، وقال أنها تصيب بشكل خاص الأشخاص الذين يتبوأون مواقع السلطة المطلقة لفترات طويلة. وذكر Owen أن من يصابون بمتلازمة الغطرسة تكون لديهم اضطرابات نفسية سابقة أو سمات شخصية معينة تدفعهم للوصول إلى مراكز السلطة والتأثير وتجعلهم أكثر عرضة للإصابة بمتلازمة الغطرسة، وذكر من هذه الإضطرابات والسمات مايلي :
1 – اضطراب الشخصية النرجسية : حيث يكون إحساس الشخص بذاته متضخما، ومتمحورا حول نفسه، ويتسم بالأنانية الشديدة، ولا يحتمل النقد أو التوجيه من أحد، ولا يشعر بالتعاطف مع أحد، ولا يحب أحدا غير نفسه، ومع كل هذا يشعر في داخله بتدني للتقدير الذاتي ويعوض ذلك بامتلاك القوة والسيطرة .
2 – الشخصية المضادة للمجتمع : وهو شخص يتسم بانتهاكه لحقوق الآخرين وخروجه على القواعد والقوانين، واستغلاله لكل من يتعامل معه لتحقيق ما يحتاجه، وهو لا يشعر بالذنب أو الندم ولا يتعلم من تجاربه .
3 – اضطراب الشخصية الهستيرية : ويتسم بالإستعراضية، والرغبة في الظهور وجذب الإنتباه بكل الطرق، والتباهي بالقوة أو الجمال أو الإنجازات، والمبالغة في الكلام والتعبير، وإظهار مشاعر تبدو دافئة ولكنها كاذبة .
4 – الاضطراب الوجداني ثنائي القطب (ثنائية الهوس والاكتئاب) : وحين يكون في نوبة الهوس أو تحت الهوس يشعر بتضخم الذات والقدرة الفائقة ويتخذ قرارات جريئة ومتهورة ومندفعة .
5 – الشخصية البارانويا : ويتسم صاحبها بالتعالي على الناس، واحتقارهم، والاستبداد بالرأي، والشك وسوء الظن فيمن حوله، وسوء تأويل الكلمات والتصرفات على المحمل السئ، وتوقع الشر دائما من الناس .
وحين تتوفر بعض الإضطرابات أو السمات سالفة الذكر في شخصية قائد أو سياسي يمتلك ناصية القوة والسيطرة والتحكم والتأثير فإنه يكون عرضة لمتلازمة الغطرسة خاصة إذا طالت فترات وجوده في موقع السلطة .
وقد عكف علماء النفس على دراسة هذه المتلازمة ليعرفوا مظاهرها وأعراضها ونوجزها فيما يلي :
1– النظرة للعالم : يعتبر العالم مكانا لإظهار عظمته وتفوقه، ويستخدم ما لديه من سلطة وقوة لتحقيق ذلك .
2– الرسالة : يعتقد الشخص أنه جاء لهذا العالم ليحقق رسالة مهمة، وتتوحد شخصيته بهذه الرسالة، وتتوحد أيضا بالوطن أو الأمة التي ينتمي إليها، وقد يعتقد أنه جاء منقذا للعالم .
3– المحاسبة : يعتقد الزعيم أو القائد أنه فوق محاسبة البشر، وأنه لا يحق لأحد أن يسأله عما فعل ويفعل، وأن من يحاسبه التاريخ أو الله فقط .
4– طريقة الكلام : يستخدم كلمات التعظيم والتفخيم والمجد حين يتحدث عن نفسه، ويخاطب الجماهير من عال، فهو يتحدث إليهم ولا يتحدث معهم، ويغلب على كلماته صيغة الأمر، وهو يتكلم أكثر مما يستمع، وتبدو كلماته قاطعة، حاسمة، مؤكدة ومعظمة وكأن التاريخ يقف ليسجل كلماته ومواقفه .
5– ازدراء الآخرين : وبما أن ذات هذا الشخص تضخمت، وأصبح لديه شعور طاغ بالعظمة، فهو ينظر إلى الآخرين باحتقار، ولا يراهم جديرين بالمناقشة أو التشاور، هم فقط يسمعون ويطيعون .
6– الصورة هي كل شيء : وهو حريص كل الحرص على صورته وعظمته ومجده، وبالتالي فإن كل القرارات، وكل الخطوات التي يتخذها تضع أولوية لهذه الصورة بحيث يظهر بطلا منجزا عظيما مؤثرا مبهرا .
7– الكاريزما : قد يكون هذا الشخص ذو كاريزما بسحر حديثه وقدرته على الإيحاء والاستهواء واستلاب الجماهير والتأثير فيهم فينقادون له وربما ينبهرون به ويسلموه قيادهم، فيشعر هو بفرط الثقة والقدرة، فيتخذ قرارات دون دراسة ودون تأن أو استشارة فتكون قرارات كارثية تظهر آثارها مع الوقت ويحدث الانهيار.
8– الجلد الرقيق : بمعنى أن هذا الزعيم أو القائد لا يحتمل أي كلمة نقد أو معارضة، ولهذا يحيط نفسه بمن يمدحونه ليل نهار وينكل بكل من ينتقده أو يعارضه أو حتى ينصحه .
9– العزلة وفقد الاتصال بالواقع : حيث يعيش القائد أسيرا لتصوراته الذاتية عن نفسه وعن العالم من حوله ولا يجرؤ أحد من المحيطين به أن يقول له إلا مايريد هو أن يسمعه، وبالتالي يتورط في قرارات كارثية .
10– لا يتأثر بالنتائج السيئة : فقد يتورط في قرارات خاطئة وتظهر نتائج سلبية أو كارثية لاتتحملها ذاته المتضخمة، فيستخدم دفاع الإنكار أو التبرير أو الإسقاط حتى لا يراها، ويساعده من حوله على قلب الحقائق وتحويل الفشل إلى نجاحات تاريخية وتحويل الهزائم إلى انتصارات كبرى .
11– الشعور الزائد بالفخر والمجد : فتزداد ثقتة بنفسه، ويشعر بقوة وسيطرة كونية، وزهو بلا حدود، وفي هذه الحالة قد يستخدم سلطته وقوته لإزهاق أرواح الآخرين ويعتبر هذا مشروعا لتحقيق أهداف عليا .
12– إنكار الضعف والمرض : فقد يعتريه شيء من الضعف أو المرض وهو لا يتحمل أو يتقبل فكرة أنه ضعيف أو مريض أو لديه شيء من القلق أو التوتر أو الشك المرضي وكل هذا يؤثر في قراراته، وقدرته على اتخاذ القرارات بشكل سليم .
13– تعاطي العقاقير أو المخدرات : وذلك بعيدا عن نصائح الأطباء، وربما يقع في دائرة إدمان المهدئات أو المسكنات كما حدث مع إيدن رئيس وزراء بريطانيا .
وقد تكون متلازمة الغطرسة بسيطة أو متوسطة أو مؤقتة وتكون مؤثرة في أوقات الطوارئ التي تستدعي زعيما حازما حاسما شديدا لعبور أزمة معينة، ولكنها تكون شديدة الضرر على الشخص وعلى الشعوب حين تكون شديدة وطويلة الأمد .
|وقد ذكر الباحثون أمثلة من التاريخ لمتلازمة الغطرسة ومنهم : جوزيف ستالين، وأدولف هتلر، وموسيليني، وماوتسي تونج، ومعمر القذافي، وصدام حسين، وغيرهم كثير من القدامى والمعاصرين .
ويمر القائد الذي سيصاب بمتلازمة الغطرسة بعدة مراحل كالتالي :
1– مرحلة السيطرة والتحكم : حيث يمسك بتلابيب السلطة المطلقة، ويصبح هو الحاكم الفرد المسيطر
2– مرحلة التخلص من المعارضين
3– مرحلة التخلص من الرموز المحتملة للقيادة حتى من المؤيدين والمقربين
4– مرحلة المجد : حيث التباهي بالنجاحات والإنجازات والانتصارات الحقيقية أو المزيفة .
5– مرحلة العزلة عن الواقع
6– مرحلة القرار الأخير : وهو في الأغلب قرار كارثي ينتج عن المنظومة المضطربة السابق ذكرها، وهذا القرار ينتج عن ثقة زائدة بالنفس، ولا يسبقه دراسات أو مشاورات، ويكون خادما لصورة القائد والزعيم، أو صادرا بدافع من اضطراباته الشخصية، وبالتالي يؤدي إلى انهيار المنظومة بالكامل وتحدث خسائر فادحة، ويموت القائد أو يقتل أو يخلع أو ينتحر أو يحاكم .
وبالعودة إلى فلاديمير بوتين بطل الأحداث في هذه الأيام فقد كتب Avidan milevesky Ph.D على موقع Psychology Today أن فلاديمير بوتين كان طفلا وحيدا لأبويه، وأنه قد سبقه أخوين ماتا وهم صغار، وجاء هو بعد وفاتهما، وهذا يجعله طفلا مرغوبا فوق العادة، ويعطيه إحساسا كبيرا بالأهمية والتفرد، ويجعل ذاته شيئا هاما لدى أبويه ولديه فيشعر أنه مركز الاهتمام وأنه شخص متفرد، وطلباته أوامر لمن حوله، وقد حظي برعاية فائقة، وحماية زائدة في طفولته نظرا لهذه الظروف .
وكما تأثرت شخصية بوتين بنشأته وطفولته، فقد تأثرت أيضا بالبيئة والثقافة التي نشأ فيها وهي كالتالي :
1– العقيدة الماركسية اللينينية وما تحويه من مبادئ وتوجهات
2– ثقافة الغاية تبرر الوسيلة وهي منتشرة في المجتمع الروسي وكانت مبدأ هاما لدى قياداته المتعاقبة .
3– عقدة التفوق، حيث ترقى بوتين في المناصب السيادية الحساسة ووصل إلى قمة السلطة وتربع عليها لأكثر من عشرين عاما، وكل الشواهد تشير إلى أنه لن يتركها.
4– احتقار الغرب، وهو شعور يسيطر على الروس عموما وعلى بوتين بوجه خاص
5– الغزو السياسي والإقتصادي، فقد نجح بوتين في لعب أدوار محلية وعالمية كثيرة، أدت إلى عودة الدور الروسي كقوة عظمى منافسة بعد أن كان هذا الدور قد تلاشى إبان سقوط وتفكك الإتحاد السوفيتي، وهذا ما يغري بوتين باستعادة توحيد الجمهوريات السوفيتية مرة أخرى، وهو يشعر أنه جدير بهذه الرسالة الوطنية .
6– التوحد مع الأمة الروسية والدفاع عن وحدتها وعظمتها مهما كانت التضحيات .
7– العزلة وفقد الاتصال بالواقع .
8– الخوف، من ضياع السلطة، ومن المحاكمة المحلية أو الدولية .
9– الأيديولوجية، فهو يتبنى فكرة إعادة مجد الاتحاد السوفيتي، وربما تكون استعادة أوكرانيا خطوة نحو استعادة بقية الجمهوريات .
فإذا وضعنا احتمال إصابة فلاديمير بوتين بمتلازمة الغطرسة، مع ظروف النشأة وتأثير البيئة التي عاش فيها بوتين، فإننا نتوقع قرارات خطيرة من هذه الشخصية ربما لا تبالي بما تحمله من مخاطر على المستوى المحلي والعالمي، وأنه بهذه التركيبة النفسية قد يكمل في الصراع إلى أقصى مدى، ونكون أمام سيناريوهات عالمية مرعبة، ولا ننسى أن الحرب العالمية الأولى والثانية قد نشبتا لأسباب واهية وراح ضحيتهما أكثر من خمس وستون مليون نفس إنسانية، لذا وجب التنويه .
واقرأ أيضاً:
ضرب الأزواج للزوجات (من المنظور الديني والنفسي) / ضرب الزوجات للأزواج (العنف العكسي)