لم أكد أعرفه، فقد انطفأ بريق عينيه، وكان يجلس مطرقا لا يتحدث إلا قليلا وبكلمات هامشية غالبا لاتحمل معنى أو رسالة ولكنها توحي بالعجز واليأس والغضب والعزلة والتمرد الصامت والسخرية الباهتة، على الرغم من أنني كنت أراه في مواقف سابقة وأحداث وفعاليات سياسية أو ثقافية شعلة من الأمل والحيوية والنشاط وطاقة من الفكر الجديد الوثّاب وأحيانا الاندفاع والتهور.
سألته بشكل مفاجئ : أين الشباب؟ .. فرد بابتسامة ساخرة : "انشقت الأرض وبلعتهم" !!! ... قلت على الفور: هذا بالضبط مانشعر به.. فبعد أن كانوا يملأون الدنيا صوتا وحركة وحيوية في أحداث مهمة، واستبشرنا خيرا ببداية حقبة شبابية مستنيرة ومتطورة ومتناغمة مع العصر في المجتمعات العربية ... إذ بالدائرة تدور ويختفي الشباب... !!! .. هز رأسه في أسى نبيل وقال: جيلنا فعل ما يستطيع وحاولنا التغيير، ولكننا اكتشفنا أن المجتمعات العربية لم تكن جاهزة أو قابلة للتغيير!!. سألته: وفيم تفكرون الآن؟ .. رد: لا شيء!!!... صدمتني إجابته وهالني إعلان عجزه وعجز الجيل الذي يمثله فأعدت السؤال: كيف؟!!! ... قال: هكذا كما سمعت..
انتهى اللقاء العابر ولكن لم تنته تداعياته إذ تكرر الموقف بأشكال وسيناريوهات مختلفة مع أعداد من الشباب ذوي توجهات متباينة ولكن النتائج كانت متقاربة وهي تشير إلى حالة من الاغتراب لدى هؤلاء الشباب ربما لا ينتبه إليها المجتمع المنشغل بلقمة عيشه... والمجتمع يخسر كثيرا حين يصاب شبابه أو قطاع كبير من شبابه بهذه الحالة من الاغتراب خاصة وأن الشباب (تحت سن 40سنة) يمثلون حوالي 40% من المجتمع، ليس هذا فقط ولكنهم يشكلون المرحلة الأكثر حيوية ومبادرة وعطاءا وإبداعا وقدرة على مواكبة العصر ودفع عجلة الحياة.
ماهو الاغتراب؟:
الاغتراب هو حالة نفسية اجتماعيّة تسيطر بشكلٍ تام على الفرد (والشباب بشكل خاص) ، بحيث تحوّله إلى شخصٍ غريبٍ وبعيد عن كثير من جوانب حياته فيصبح في حالة انفصال عن نفسه وعن الواقع المحيط به. وبمعنى آخر هو حالة من الانفصال أو الغربة أو الاستلاب؛ يشعر معها الشخص بأنه ليس في بيته أو موطنه أو مكانه أو زمانه، ولذا يبحث عن واقع آخر قد يكون افتراضيا، وقد يكون في منطقة جغرافية أخرى، أو ربما في زمن آخر.
والاغتراب قد يبدأ من الأسرة حين ينعزل الشخص عن أفرادها لشعوره بالغربة بينهم والاختلاف الحاد معهم أو مع بعضهم، ثم يمتد هذا الانعزال إلى المجتمع الأوسع، وقد يحدث العكس حين يشعر الشخص بظلم مجتمعي (حقيقي أو متخيل) فلا يجد فرصة جيدة للدراسة أو العمل، ولا يجد قضية تشغله، أو يضيق أمامه أفق التعبير عن الرأي أو الفكر أو الحركة، فينعزل عن المجتمع ويرفضه أو يتمرد عليه سرا أو جهرا، ويمتد ذلك فيما بعد إلى الأسرة فينكفئ في النهاية على ذاته فاقداً أية رغبة في التواصل أو الاتصال بأي مما يذكره بواقعه المؤلم، وحاضره المرفوض، ومستقبله الغامض.
ومن هنا نرى أنماطا عديدة للاغتراب فقد يكون عائليا، أو اجتماعيا، أو فكريا، أو سياسيا، أو دينيا، أو روحيا، وقد يكون اغترابا كليا يجمع كل هذا.
وللاغتراب مخارج وتداعيات متباينة وخطيرة منها: العزلة، التطرف، العدوان السلبي، تعاطي المخدرات، السلوكيات التدميرية، السخرية، التمرد، الإلحاد، الرغبة في تحطيم الثوابت، الرغبة في التحلل من الأخلاق، فقد الانتماء، فقد الشغف والحماس، إدمان الإنترنت، إدمان المواقع الإباحية، إعلان الانتماء لمجموعات جنسية يستهجنها المجتمع، .....إلخ
مظاهر الاغتراب:
1 – غياب الحلم في العيش الكريم الهانئ في الأسرة أو في المجتمع ثم أفكار لهجرهما، بعدها ينتقل حلم الشاب خارج حدود أسرته أو وطنه فيفكر في الهجرة ويسعى إليها وينفصل وجدانيا عن الوطن ومشاكله وهمومه.
2 – ضعف الانتماء، حيث يشعر بأنه لم يجد نفسه في هذه الأسرة أو هذا المجتمع فيضعف انتماؤه أو يموت ذلك الانتماء.
3 – اللاهدف، إذ تضيع بوصلة التوجه وتفقد الأهداف قيمتها وشحنتها وجاذبيتها.
4 – اللامعنى، حيث تفقد الأشياء والأحداث وتفقد الحياة كلها معناها وتصبح خالية من الروح والجوهر والبريق.
5 – ضعف الهوية أو فقدانها، إذ لم يعد يعرف على وجه اليقين من هو؟ .. وماذا يريد؟.
6 – العزلة الاجتماعية، حيث ينفصل عن السياق الاجتماعي وينكفئ على ذاته لأنه لا يتناغم مع هذا السياق.
7 – اللامعيارية، وهي تحدث حين يتأكد للشخص أن الأمور تسير بشكل عشوائي ولا يحكمها قواعد أو قوانين أو ضوابط، أو أنها تسير بقوانين القوة والسيطرة والغلبة وليس بقوانين الأخلاق.
8 – التشيؤ، أي شعوره كما لو كان شيئا تافها في هذا الوجود وأنه فقد قيمته وكرامته وحقوقه كإنسان.
9 – العجز واليأس وقلة الحيلة والاتجاه نحو العدمية واللاجدوى والتسليم السلبي بالواقع رغم رفضه وكراهيته.
10 – نوبات التمرد، وقد تأخذ شكلا صريحا في صورة غضب أو سخرية أو استهزاء أو عنف لفظي أو جسدي، وقد تتحول مع الوقت إلى حالة مستتبة من العدوان السلبي حيث يميل الشاب إلى مقاطعة كل شيء والبعد عن كل شيء وهو ما نسميه "صمت العناد والتجاهل".
علاقة مواقع التواصل الاجتماعي بالاغتراب سلبا وإيجابا:
لاشك أن استغراق الشباب لساعات طويلة من يومهم على مواقع التواصل الاجتماعي قد ساهمت في خلق حالة الاغتراب، إذ سرقت الوقت والاهتمام من حاضر في الزمان والمكان والأشخاص كان أولى بالرعاية إلى عالم افتراضي بديل يبتلع كل طاقته وليس له عائد إيجابي على حياته الواقعية، وهذا يفسر تنامي ظاهرة الاضطراب بعد منتصف تسعينيات القرن الماضي في كثير من دول العالم، وهذا صحيح، ولكن لا ينكر أحد أنه على الجانب الآخر أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي فرصا هائلة للتعبير الحر والتنفيس لدى الشباب وأصبح لدى كل شاب فرصة لأن تكون لديه صحيفة ومحطة إذاعة وقناة تليفزيونية خاصة به، ولا يحتاج الأمر غير جهاز الاتصال المحمول، وأتاحت أيضا فرصا للتواصل مع مجموعات تحمل نفس فكره وتطلعاته، وتشجعه على التعبير بلا سقف عن كل ما يجيش في صدره متجاوزا كل القيود السياسية أو الاجتماعية أو حتى الأخلاقية.
ويرى البعض أن مواقع التواصل الاجتماعي ليست مسؤولة عن ظاهرة الاغتراب، وأن كل مافعلته هو كشف الغطاء عنها حين أعطت مساحة هائلة لهؤلاء الشباب للتعبير عن غضبهم وتمردهم وانفصالهم عن واقعهم وواقع مجتمعاتهم وغربتهم عن كل مايجري حولهم.
ويتبع : ظاهرة الاغتراب ومستقبل الشباب2
واقرأ أيضاً:
الأمن القومي النفسي / هوس الحب (Erotomania)