روايات الحب والطب النفساني
في المقال السابق كان الحديث عن البعد النفسي الاجتماعي لتجربة الحب واختيار الإنسان لرفيقة حياته استناداً إلى احتياجات نفسانية اجتماعية. هذا المقال يعرض وجهة النظر النفسانية التحليلية أو النفسانية الحركية في تفسير الحب.
حين تتحدث المدرسة التحليلية النفسانية عن العلاقات البشرية فهي تكثر من استعمال مصطلح كائن Object بدلاً من إنسان في نطاق الحديث عن العلاقة بين الكائنات Object Relation وعلى عكس ما يتصور الكثير فإن هذه المدرسة لم تركز فقط على البعد الجنسي في العلاقات وإنما أيضاً على تجربة الحب بين رجل وامرأة. تشير الفرضيات النفسانية التحليلية بأن وقوع الإنسان في الحب ليست عملية عثور على كائن جديد وإنما إعادة العثور على كائن وقع الإنسان في حبه سابقاً واستوطن عالمه الداخلي. ما تعنيه هذه الجملة من العقد الأول من القرن الماضي هو أن الحب بعد البلوغ هو عملية العثور على كائن قديم استوطن عالم اللاوعي للإنسان. توسع فرويد في بداية القرن الماضي في حديثه عن الحب وأشار أيضاً إلى أن الأعراض النفسية التي يعاني منها الإنسان تتعلق بفقدانه للحب الذي تم كبته والعلاج النفساني التحليلي يستهدف تحرير هذا الحب المكبوت(١).
لا يقتصر اهتمام المدرسة التحليلية على دور الحب في العلاقات البشرية وإنما يدخل في صميم العلاج النفساني التحليلي٬ والأدق من ذلك في صميم كل علاج نفسي كلامي. التحول أو الطرح Transference هو رد الفعل العاطفي اللاشعوري للمراجع تجاه معالجه النفساني والذي بدوره يعكس تعامل المراجع مع من تولى رعايته في الطفولة٬ أزماته في الحياة٬ علاقته بمن حوله٬ وعصابه النفساني. هناك ظاهرة معاكسة تتعلق برد فعل المعالج النفساني لمراجعه وهي التحول العكسي أو الطرح العكسي Counter Transference. رد الفعل العاطفي بدوره قد يكون مشاعر غضب وسلوكيات مراوغة تعكس تعامل المراجع أو المعالج مع كائنات لعبت دورها في حياته٬ ولكن في نفس الوقت قد تكون بداية مشاعر حب وإلهام طرف بالطرف الآخر.
هناك من يحاول تصنيفها بأنها مشاعر جنسية أو عاطفية أو ودية، ولكن في نهاية الأمر إطارها واحد وهو الحب. يمكن القول بأن مثل هذه المشاعر قد تعرقل عملية العلاج النفساني ويتحول العلاج إلى مجرد علاقة عاطفية ولقاء بين العشاق نهايته كارثة تحل بالطرفين وخاصة المعالج النفساني. من هنا هناك الحاجة إلى إشراف Supervision أسبوعي لكل معالج نفساني يقوم بها أحد زملائه أو المعالج النفساني المشرف عليه. اللقاء الأسبوعي بين المعالج والمشرف عليه ضرورة مهنية ولا تقتصر فقط على العلاج النفساني٬ والتملص منها تعجرف من قبل المعالج النفساني. ليس من المبالغة القول بأن ظاهرة التحول أو طرح المشاعر هي ظاهرة قد تحدث بين رجل وامرأة في تواصل مستمر ومنتظم يتم فيه فسح المجال للكلام من طرف والاستماع من طرف آخر. كذلك يجب الانتباه إلى أن استماع طرف لآخر لمدة ساعة كاملة أسبوعيا نادرا ما يحدث في الحياة٬ وربما هذه الآذان الصاغية هي التي تلهم الإنسان المقابل.
من المصطلحات كثيرة الاستعمال في روايات الحب مصطلح الرومانسية وهي ببساطة علاقة بين رجل وامرأة قبل الزواج تتميز بحرص كل منهما على مشاعر، أفكار، واحتياجات الآخر، وتلبيتها. ربما ما يميز استعمال مصطلح الرومانسية عن الحب هو أن استعماله يقتصر فقط على علاقة حب بين ذكر وأنثى عكس مصطلح الحب الذي يكثر استعماله في شتى الميادين هذه الأيام. تشير المدرسة التحليلية النفسانية بأن الرومانسية هي دليل على قابلية الأنا Ego للإقدام على اختيار شريكة الحياة والعكس صحيح أيضاً٬ والذي يعكس بدوره أولاً علاقة تعلق الإنسان بالكائنات التي لعبت دورها في رعايته في الماضي وبالتالي تكون حبيبته هي مثالية في نظره٬ تسد احتياجاته الجنسية وتشاركه في مواجهة تحديات الحياة على أرض الواقع وليس في عالم الخيال. هذا التعريف النفساني للرومانسية أدق بكثير من استعماله في الروايات الأدبية وحديث عامة الناس لأنه يربط الحب الرومانسي بالواقع والاحتياجات الغريزية بالإضافة إلى تركيبة الإنسان النفسانية. كذلك ربطت المدرسة التحليلية الرومانسية بالإيمان Faith وهو الحب الذي لا يعرف زمانا أو مكانا ولا يخضع لوصفات اجتماعية ويتميز بالواقعية والنضج بدلا من المظاهر الصبيانية.
التحليق في الفضاء الرومانسي
استناداً إلى النظريات النفسانية التحليلية فإن الإنسان منذ طفولته في تعامله مع من حوله وبالذات من يتولى رعايته يتنقل من موقع نسميه الموقع الاكتئابي Depressive Position إلى موقع آخر نسميه موقع الشك أو الموقع الفصامي Schizoid-Paranoid ويحاول الوصول إلى حالة توازن يشعر فيها بالطمأنينة والأمان(٢). يتجاوز الطفل هذه الأزمة في مرحلة ما من حياته في علاقته مع الأبوين٬ ولكن التحليق بين الموقعين يعود ويظهر بين الحين والآخر في علاقة الإنسان مع أقرانه وبالتالي مع من سيختارها لتكون شريكة حياته وفي بعض الثقافات من يتم اختيارها له لتكون شريكة حياته.
نسق العلاقة بين الحبيب وحبيبته سواء كان ذلك قبل أو بعد الزواج يخضع لفعاليات نفسانية لا شعورية في حيز اللاوعي بين موقع الاكتئاب وموقع الشك. هناك أولاً التعلق Attachment حيث يشعر الإنسان بتعلق كامل لا يفسح له المجال بالتحرك ويدفعه نحو موقع اكتئابي في حين هناك من يشعر بتعلق جزئي إطاره الشك في النوايا والحاضر والمستقبل.
العملية النفسانية الثانية هي القلق Anxiety حيث يشعر الإنسان بالاكتئاب ويتبوأ الموقع الاكتئابي أو يدخل أحيانا موقع الشك ويشعر بالاضطهاد من قبل من يحبه. العملية النفسانية الثالثة تتعلق بالتمثيل الرمزي الذي يستعمله الإنسان في وصف العلاقة وسلوك من يحبها. هناك من ينظر إلى السلوكيات المقابلة بأنها عفوية يشير إليها دوما بكلمة ربما حين يدخل الموقع الاكتئابي في حين تكون نظرته للعلاقة مجردة من الخيال والتفسير ويطغى عليها صلابة التفكير حين يكون في موقع الشك.
بعد ذلك يتوجه الإنسان صوب استعمال دفاعاته النفسية اللاواعية حيث يطغي استعمال الكبت والهوس الدفاعي في الموقع الاكتئابي ويطغى الانشطار والتعريف الإسقاطي في موقع الشك. كمثال على دفاعات الكبت والهوس الدفاعي ترى المرأة تكبت مشاعرها وأحيانا يكون رد فعلها للأحداث مليئا بالبهجة والسرور بصورة لا يستوعبها الآخرون. أما في موقع الشك فترى المرأة تمجد حبيبها يوما ما وفي يوم آخر تصنفه بأنه إنسان لا خير فيه ولا أمل في تغييره. أما الإسقاط التعريفي فهو ببساطة إسقاط اللوم على الزوج في تحليل كل أزمة. هذه الدفاعات بالطبع لا تقتصر على المرأة وإنما يشاركها في ذلك الرجل.
بعد ذلك تدخل العلاقة حالة استقرار بين الطرفين. الاحتمال الأول هو حيز أو الأدق فضاء بين موقع الاكتئاب والشك يحظى برضى الطرفين ولا يتم تحديه رغم تحديات الواقع وأزمات الماضي والعقد العصابية التي يحملها الإنسان بل على العكس من ذلك يتم تجاوزها ويتم وضع حقائب الماضي جانباً والمضي قدماً إلى عالم جديد. في هذا الفضاء الرومانسي يشعر الإنسان بالقدرة على التغيير وتعريف الماضي في إطار جديد.
الاحتمال الثاني هو استمرار العلاقة واستقرار الإنسان في موقع اكتئابي والاندماج مع الطرف الآخر وإصدار رواية مشتركة. لكن الإنسان في نفس الوقت يدرك بأن لديه القدرة على التفكير بحرية والاهتمام بالطرف الآخر. الاحتمال الثالث هو الاستقرار في موقع الشك والشعور بعدم القدرة على التكامل مع الطرف الآخر. يبحث الإنسان عن التجديد أو النضارة بين الحين والآخر بمفرده وقد يحاول السيطرة على الطرف الآخر بصورة قسرية ويبحث عن مثالية يتمسك بها لا تقترب كثيراً من واقع الحياة. المخطط أعلاه يوضح ما يحدث بين الطرفين والاستقرار في المواقع الثلاث٬ ولكن الفضاء الرومانسي هو الوحيد الذي يضمن التجديد والشعور بالقناعة والسعادة في آن الوقت.
ملاحظات
١- رغم تعدد المصادر في منشورات التحليل النفساني عن الحب٬ تبقى نظريات فرويد هي المصدر الرئيسي. يمكن القول بأن هناك نظريتان عن الحب لسيغموند فرويد. النظرية الأولى تركز على أن الإنسان يبحث عن الحبيب المطابق لوالديه نفسانياً بدون وعي منه بعد تجاوزه مرحلة المراهقة. النظرية الثانية متعلقة بالطبع النرجسي للإنسان وبدوره يبحث عن الحب الذي يكتمل معه حبه لذاته.
٢- مصدر مصطلح وفرضية الفراغ أو الحيز الرومانسي هو كالآتي. الفرضية بحد ذاتها تجمع مختلف فرضيات المدرسة النفسانية التحليلية.
Wilkinson S & Gabbard G(1995). On Romantic Space. Psychoanalytic Psychology 12(2): 201 -219.
واقرأ أيضاً:
ما هو القلق؟ / اضطراب الحزن المطول