التواكب المرضي مع الوسواس القهري مقدمة
ذكرنا في المقدمة أن إحدى أكثر الصفات السريرية المميزة لمرضى الوسواس القهري هي وجود اضطرابات نفسانية مواكبة لاضطراب الوسواس القهري الذي لا يكاد يوجد منفردا، حتى أن تشخيص اضطراب وسواس قهري وانتهى هو اختزال لمعاناة المريض، والصحيح أن نقول: وسواس قهري+ خلافه كذا وكذا! ففي دراسة حديثة كانت أكثر الاضطرابات تواكبا مع الوسواس القهري هي اضطرابات القلق 75.8٪، تليها اضطرابات المزاج 63.3٪، واضطرابات السيطرة على النزوات 55.9٪، واضطرابات تعاطي المخدرات 38.6٪ (Ruscio, et al., 2010)، ومن المعروف سريريا أن ظهور اضطراب الوسواس القهري تسبق ظهور أعراض الاضطراب المواكب في أغلب الحالات، إلا أن هذا لا ينطبق في حالة تعدد الاضطرابات المواكبة، حيث لا يشترط ظهور أعراض الوسواس قبل أعراض الاضطرابات المواكبة.
فقط إذن باستطلاع وجود أو عدم وجود الاضطرابات غير الوسواس القهري في مريض الوسواس، يكون الطبيب النفساني أتم التشخيص الصحيح والكامل للحالة، ذلك أن وضع الخطة العلاجية لكل حالة لابد أن يتأثر بنوعية الاضطرابات المواكبة، خاصة وأن اضطراب الوسواس القهري المتأخر أو المعالج بشكل غير كافٍ يؤدي إلى تفاقم الأعراض المتزامنة مثل الاكتئاب، وهو ما قد يكون له تأثير كارثي على نوعية الحياة، إضافة إلى أن الاضطرابات الأكثر تواكبا مع الوسواس القهري (اضطرابات القلق واضطراب الاكتئاب) غالبا ما يمكن علاجها في نفس الوقت مع علاج الوسواس،
يتميز الوسواس القهري بالعروض التقديمية المتنوعة للأعراض (و.ت.غ.ق- و.ش.ت.ق- و.ل.ت.ق- و.ذ.ت.ق) وهو ما دفع الدارسين إلى محاولة تصنيفه إلى أنواع فكان هناك تصنيف على أساس سن بداية الأعراض قبل 17 سنة وبعد 17 سنة، وآخر على أساس نوعية الأعراض الموجودةِ (تلوث غسيل شك تحقق لا اكتمال تكرار... إلخ)، وتصنيف ثالث على أساس وجودِ الاستبصار من عدمه، ورابع على أساسِ علاقته بالتهاب اللوزتين في الأطفال كشكلٍ من أشكال الحمى الروماتزيمية، وكانت هناك تصنيفات على أساس التواكب المرضي لكنها كانت أحادية النظرة تصنف مرضى الوسواس مثلا إلى ذي علاقة بالعرات وغير ذي علاقة بالعرات أو ذي علاقة بالفصام وغير ذي علاقة...إلخ، إلا أن التصنيف على أساس الصورة السريرية أي على أساس الأعراض الموجودة هو الأكثر بروزا رغم أن نفس المريض يمكن أن يعاني من خليط من العروض في نفس الوقت أو في نوبات مختلفة من اضطرابه أي أن لا يستبعد ظهور أيٍّ منها ظهور عرْضٍ آخر طوليًا (أي بمتابعة المريض) ولا عرضيا (أي في نفس الوقت).
وتعتبر محاولة تصنيف الوسواس القهري على أساس التواكب المرضي تعميقا وتوسيعا للتصنيف على أساس الصورة السريرية، بحيث تكون أكثر اتساعا فتشمل كلاً من عدد ونوع الاضطرابات المرضية المواكبة إضافة إلى عرض الوسواس القهري نفسه، وقد قامت مجموعة نستات (Nestadt et al., 2011) بجهد رائد في هذا الاتجاه، فقدمت لنا التصنيف الثلاثي لأنواع الوسواس القهري إذ حدد وميز الباحثون بين ثلاثة فئات فرعية على أساس الاضطرابات المواكبة في عينة من مرضى الوسواس القهري لديهم تاريخ عائلي موجب للوسواس القهري، وشملت في الاعتبار ثمانية اضطرابات مرضية مواكبة (اضطراب القلق المعمم، واضطراب الاكتئاب الجسيم، واضطراب الهلع، واضطراب القلق الانفصالي، واضطراب العرات، والهوس، واضطرابات الجسدنة، واضطرابات التهيؤ Grooming Disorders (نزع الشعر وقضم الأظافر، وسحج الجلد أو التسحج))،. وهذه الفئات الثلاث هي:
1- فئة "الوسواس القهري البسيط" OCD Simplex وفيها التواكب المرضي الأقل مقارنة بالفئة 2 أو 3، ويكون اضطراب الاكتئاب الجسيم (MDD) هو الاضطراب الإضافي الأكثر شيوعًا ؛
2- فئة "الوسواس القهري المواكب بالعرات" OCD Comorbid Tic-Related، وهي أكثر في الذكور، وتتميز بغلبة اضطراب العرات حيث تكون العرَّات بارزة وربما اضطرابات الطيف الوسواسي وتكون المتلازمات الوجدانية شحيحة، بينما ترتفع درجات العصابية والضمير على مقياس أبعاد الشخصية الخماسي..
3- فئة "الوسواس القهري المواكب بالاضطرابات الوجدانية OCD Comorbid Affective-Related ، مع انتشار واسع لاضطراب الهلع والمتلازمات الوجدانية. وهي أكثر في الإناث، وتبدأ في سن مبكرة، وتشيع خصائص اضطراب الشخصية القسرية (الوسواسية القهرية) OCPD، وترتبط بوساوس وقهور التماثل والترتيب، ويحصلن على درجات عالية في عامل "المحرمات" في مقاييس أعراض الوسواس القهري، وارتفاع درجات العصابية وانخفاض درجات الضمير الكفاءة والانضباط الذاتي على مقياس أبعاد الشخصية الخماسي.
كما وجدت مجموعة نستات أن عضوية كل فئة ترتبط بشكل مميز بالخصائص السريرية الأخرى، وأن عدد الاضطرابات المتواكبة يزداد مع الارتفاع في الفئة بمعنى أن عضوية الفئة 1 تعني وجود اضطراب مواكب واحد أو عدم وجود تواكب وعضوية الفئة الثانية تعني وجود أكثر من اضطراب بينما الفئة الثالثة تعني وجود أكثر من اضطرابين، كما يمكن أن ينظر إلى حمل التواكب المرضي مع الوسواس القهري باعتباره موزعا على متصل بين نقطتين هما لا تواكب وتواكب مرتفع وبينهما المنخفض والمتوسط.
وحديثا قامت مجموعة آودهيوسدن (Oudheusden, et al., 2020) سنة 2020 بتأكيد وتعميق المسار نحو تصنيف مرضى الوسواس القهري على أساس الاضطرابات المواكبة، فدرست معدل الوجود الحياتي لـ 15 اضطراب نفساني (الاعتماد على المواد، الفصام والاضطرابات الذهانية الأخرى، الاضطراب الاكتئابي الجسيم، عسر المزاج، الاضطراب الثناقطبي، اضطراب الهلع و/أو رهاب الخلاء، الرهاب المعين، الرهاب الاجتماعي، اضطراب الكرب التالي للرضح -ما بعد الصدمة- اضطراب القلق المعمم، الاضطراب جسدي الشكل، واضطرابات الأكل، واضطراب العرات واضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة "ن.ا.ف.ح ADHD") وكان ملخص النتائج أن اضطراب الاكتئاب الجسيم هو الأكثر انتشارًا (56.6٪)، يليه اضطراب العرات (27.3٪) الرهاب الاجتماعي (23.2٪) ، اضطراب الهلع و/أو رهاب الساح (22.4٪) واضطراب نقص الانتباه مع فرط الحركة (21.7٪).
ثم قسم الباحثون نتائج المرضى حسب الاضطرابات المواكبة إلى مجموعتين رئيستين وفئات فرعية خمس، فنتج التصنيف الخماسي لأنواع الوسواس القهري المجموعة الأولى (الأكثر عددا) هي ذات التواكب المنخفض والثانية (الأقل عددا) هي ذات التواكب المرتفع، ثم تصنف المجموعة الأولى إلى فئتين:
الفئة الأولى (35%) بلا تواكب (بدون اكتئاب مواكب) أو تواكب مع اضطراب العرات
والفئة الثانية (44%) يتواكب فيها الاكتئاب الجسيم (أحادي القطب) مع الوسواس القهري،
وأما المجموعة الثانية ذات التواكب المرتفع فتشمل فئات ثلاثة:
الفئة الثالثة 12% وفيها يشيع التواكب مع اضطراب القلق المعمم (إلى جانب أيٍّ من اضطرابات القلق الأخرى واضطراب الاكتئاب الأحادي وربما العرات أو غيره من اضطرابات الطيف الوسواسي).
الفئة الرابعة 7% ويشيع فيها التواكب مع الذاتوية Autism والرهاب الاجتماعي (إلى جانب أيٍّ من اضطرابات القلق الأخرى واضطراب الاكتئاب الأحادي وربما العرات أو غيره من اضطرابات الطيف الوسواسي).
الفئة الخامسة 2% وهي أصغر الفئات عددا وتتميز بشكل خاص بتواكب عالٍ من الاضطراب الذهاني والاضطراب الثناقطبي من النوع الأول، واضطراب الهلع وغياب اضطراب الاكتئاب الجسيم
ومن المهم بيان أن كلا التصنيفين سواء الثلاثي أو الخماسي تمثل فيه عضوية الفئة الأعلى مرتبة أعلى في عدد الاضطرابات المواكبة في كل مريض ومرتبة أدنى في عدد المرضى، وأن اضطراب الاكتئاب الأحادي وكذلك اضطراب العرات يميلان للظهور مع كل أشكال التواكب وفي أي فئة
وكانت الخصائص السريرية لمرضى الفئة الأولى في هذا التصنيف الخماسي فئة وسواس القهري فقط (أي بدون اضطرابات نفسانية مواكبة) قد درست من قبل مجموعة توريس (Torres et al., 2013) ووجد أن هؤلاء المرضى أكثر عرضة لأن يكونوا من الإناث، ولديهن درجات أقل على مقياس الاكتئاب والقلق والانتحار وكن أقل احتمالا لتلقي العلاج النفساني، وهو ما يمكن أن يعني أن كثيرات من هذه الفئة يستطعن التأقلم وتكييف حياتهن مع اضطراب الوسواس القهري بمفرده، كما أوضحت دراسة آودهيودسن أن هذه الفئة هي الأفضل من حيث عبء الصدمات في مرحلة الطفولة، والعمر عند بداية الوسواس، وشدة المرض بشكل عام، وشدة الأعراض ومسار المرض، مقارنة بمرضى الفئة الثانية التي يظهر فيها الاكتئاب الجسيم وكذلك مرضى المجموعة الثانية بفئاتها الثلاث.
وأما مرضى الفئة الثانية والتي يكاد ينفرد فيها الاكتئاب مع الوسواس القهري فسوف نفرد مقالا لهم، وأما الفئة الثالثة والتي يميزها وجود اضطراب القلق المعمم، فقد أظهرت نتائج دراسة حديثة (Sharmaa, et al., 2021) أن تواكب القلق المعمم كان مرتبطًا بشكل فريد مع زيادة عدد سلوكيات التحاشي، وزيادة حدة القلق، وهو ما يزيد الحالة تعقيدا، ومع تواكب اضطراب الهلع دون رهاب الساح، والرهاب الاجتماعي، والرهاب النوعي، والاضطراب ثنائي القطب من النوع الثاني.
أما مرضى الوسواس القهري من الفئة الرابعة والتي يميزها وجود أعراض الطيف الذاتوي واضطراب القلق الاجتماعي، وتشيع فيهم وساوس وقهور التماثل والتساوي والتنظيم، وعلاقة الوسواس القهري بأعراض الذاتوية توحي بما هو أكثر من مجرد تواكب (ومرضى الوسواس القهري أكثر عرضة للإصابة باضطراب طيف الذاتوية المواكب 13 مرة (6.6٪) مقارنة بغير المصابين بالوسواس القهري (0.5٪) (Lewin, et al., 2011) وكذلك، علاقته باضطراب القلق الاجتماعي (تواكب ما بين 15٪ و 43.5٪ في عموم السكان، وبين 12٪ و 42٪ في العينات السريرية (Carpita, 2020))، وقد نشرنا منذ نصف عقدٍ مقالا عن تواكب الوسواس القهري والرهاب الاجتماعي.
وأخيرا نصل إلى مرضى الفئة الخامسة، وطبقا لدراسة مجموعة سوياتا (Soyata et al., 2018) فقد كانت أعراض الوسواس الشائعة لدى الأشخاص المعرضين لخطر الإصابة بالذهان هي الوساوس العدوانية، وقهور التحقق، والاكتناز القهري، وكانت دراسة أقدم لمجموعة أميرو قد أظهرت الوساوس الجنسية والدينية ووساوس وقهور التناظر والترتيب، إضافة لوساوس وقهور العدوان والاكتناز، وتوضح مطالعة الأدبيات (Amerio et al., 2014) عدم وضوح وجود علاقة معينة بين أعراض وسواس معينة ووجود عملية ذهانية، وحتى التفكير الخرافي أو السحري (رغم علاقته بالفصام كما بالوسواس) في مريض الوسواس القهري لا يمكن اعتباره علامة على هذه العلاقة في مريض بعينه.
المراجع:
1- Ruscio A. M., Stein D. J., Chiu W. T., and Kessler R. C. (2010). The epidemiology of obsessive-compulsive disorder in the National Comorbidity Survey Replication, Mol. Psychiatry, 15 (2010), pp. 53-63.
2- Nestadt, G. , Di, C. Z. , Riddle, M. A. , Grados, M. A. , Greenberg, B. D. , Fyer, A. J. , … Roche, K. B. (2011). Obsessive–compulsive disorder: Sub classification based on co‐morbidity. Psychological Medicine, 39(9), 1491–1501. 10.1017/S0033291708004753
3- Van Oudheusden LJ, Van de Schoot R, Hoogendoorn A, van Oppen P, Kaarsemaker M, Meynen G, et al. (2020). Classification of comorbidity in obsessive–compulsive disorder: A latent class analysis. Brain Behav 2020; 10(7): 1-10.
4- Sharmaa P, Rosáriob MC, Ferrãoc YA, Albertellaa L, Migueld EC & Fontenelle LF (2021). The impact of generalized anxiety disorder in obsessive-compulsive
disorder patients. Psychiatry Research, vol. 300, p.113898,
5- Carpita, B., Muti, D., Petrucci, A., Romeo, F., Gesi, C., Marazziti, D., . . . Dell’Osso, L. (2020). Overlapping features between social anxiety and obsessive-compulsive spectrum in a clinical sample and in healthy controls: Toward an integrative model. CNS Spectrums, 25(4), 527-534. doi:10.1017/S109285291900138X
6- Lewin, A.B., Wood, J.J., Gunderson, S., Murphy, T.K., & Storch, E.A. (2011). Phenomenology of comorbid autism spectrum and obsessive-compulsive disorders among children. Journal of Developmental and Physical Disabilities, 23(6), 543-553.
7- Soyata AZ, Akışık S, İnhanlı D, Noyan H, Üçok A. (2018). Relationship of obsessive-compulsive symptoms to clinical variables and cognitive functions in individuals at ultra-high risk for psychosis. Psychiatry Res. 2018;261:332–7.
8- Amerio A, Odone A, Liapis CC, Ghaemi SN. (2014). Diagnostic validity of comorbid bipolar disorder and obsessive-compulsive disorder: A systematic review. Acta Psychiatr Scand. 2014;129:343–58.
ويتبع>>>>: التواكب المرضي بين الوسواس القهري والاكتئاب
واقرأ أيضا:
التحاس (التحويل الحسي) في الحواس الخاصة / الجهاز البصري III :الباحات البصرية القشرية