يعاني الطب النفساني من تأزم مستمر في علاقته مع المجتمع والدولة في نظرته للفعل الإجرامي ولكنه في نهاية الأمر جزء لا يتجزأ من المجتمع الذي يستعمل خدماته. غير أن مفهوم الفعل الإجرامي يخضع لدراسات علمية مستمرة حاله حال جميع المفاهيم الاجتماعية القديمة والحديثة، وفي مختلف فروع الطب النفساني وعلم النفس. تولد من خلال هذه الدراسات مفاهيم جديدة تبدأ بالانتشار أولاً ضمن مراكز البحث العلمي. متى ما ترسخت هذه المفاهيم بعد إجراء دراسات غايتها الإثبات والنقض، تبدأ بالزحف تدريجياً وتؤثر أولاً على العاملين في مجال الصحة النفسية وتعمل على تغيير نظرتهم إلى الجريمة ومرتكب الجريمة. أما المهمة الشاقة بعدها فهي نشر هذه المفاهيم وطرحها على الراي العام لكي يتقبلها.
ولادة المفاهيم الجديدة في تفكير العاملين في الصحة النفسية عملية يسيرة لكثرة تفاعلهم مع ما هو الجديد في ميدان اختصاصهم، ولكن توصيلها إلى الرأي العام هي عملية صراع شاقة لا تنتهي بالنجاح دوماً. لا ينتهي الأمر في مجال البحث العلمي ولكن هناك قوة زخم أخرى تلعب دورها في مجال الصحة النفسية وهي العملية السياسية التي تدير أمور المجتمع والاجتماعية التي تتعلق بالفضيلة والأخلاقية الإنسانية.
العملية السياسية تتفاعل مع مطالب الجمهور الذي تضمن استمرار أفرادها في العمل٬ والتفاعل مع الجماهير كان له تأثيره على رجال السياسة والدين والتشريع منذ القدم ويضمن الحفاظ على ما يسمى بالتقاليد الموروثة إلى حين. في عين الوقت هناك قوة اجتماعية حديثة تظهر في داخل المجتمعات في وقت يطلق عليها أخلاقية العصر والقرن وما شابه ذلك. هذه الأخلاقية في يومنا هذا التي يطلق عليها البعض أخلاقية القرن العشرين Twentieth Century Morality ولدت من جراء مسلسل الحروب العالمية والإقليمية ابتداءً من الحرب العالمية الأولى مروراً بالثانية وبعدها الحرب الفيتنامية. كانت الحرب الأخيرة بداية لتصوير البعد الوحشي وعرضه بالألوان على شاشة التلفزيون والسينما في جميع أنحاء العالم. ابتدأت الألفية الثالثة بعمليات إرهاب وتصور البعض بأنها ستقضي على أخلاقية القرن العشرين التي تؤمن بتأهيل مرتكب الجريمة بدلاً من الإفراط في عقوبته لكن ذلك لم يحدث ولا تزال فضيلة القرن العشرين في تمام الصحة والعافية. هذه القوى الثلاث من سياسية تقليدية وعلمية بحتة وأخلاقية حديثة تضع الصحة النفسية في أزمة لا نهاية لها وطالما ترى أصابع الإدانة تصوب نحوها. القوة السياسية تتوقع دوماً خضوع الطب النفساني لمن يموله وهي الدولة، والقوى العلمية تتهمه دوماً بالكسل في تطبيق المفاهيم الجديدة، والأخلاقية تهتف بأن الطب النفساني ما هو إلا عميل للسلطة.
الخطر والصحة النفسية
تتميز خدمات الصحة العقلية عن غيرها من الخدمات الطبية بتركيزها على خطورة الإنسان تجاه نفسه عن طريق الانتحار وخطر الإنسان المراجع للخدمات تجاه غيره من البشر عن طريق فعل إجرامي. يتم تقييم فعالية الخدمات الصحية النفسية بمراجعة الإحصائيات الحكومية عن حدوث الانتحار سنوياً وعلاقتها بجغرافية المنطقة وكذلك الأمر في جرائم القتل. الانتحار وجرائم القتل ترتبط دوماً بعوامل اجتماعية واقتصادية متعددة تخجل من الخوض فيها الجهات الرسمية، وأما الخدمات الصحية العقلية وفعاليتها فهي فريسة سهلة وتثير اهتمام رجال السياسة والرأي العام وطالما يتم تقييم فعالية الخدمات عن طريق دراسة الانتحار وجرائم القتل دون غيرها من المؤشرات.
الانتحار لا يثير الجدل الكثير مقارنة بجرائم القتل حين تكشف التحريات بأن مرتكب الجريمة يعاني من اضطراب عقلي تم تشخيصه وعلاجه من قبل الخدمات الصحية العقلية. هناك اعتقاد زائف بعض الشيء بأن المصاب بالفصام أكثر خطراً تجاه الآخرين ويجب الحجز عليه في مستشفى الصحة العقلية لا لتلقيه العلاج وإنما حماية بقية أفراد المجتمع. لكن الإحصائيات العامة الخاصة بجرائم القتل قلما تتطرق إلى التشخيص وكثيراً ما تشير إلى أن مرتكبي الجرائم كان لهم اتصال ومراجعة لخدمات الصحة العقلية قبل ارتكابهم الجريمة.
الإحصائيات الرسمية في المملكة المتحدة على سبيل المثال تشير إلى حدوث 1200 جريمة خلال عشر سنوات تم ارتكابها من قبل أفراد راجعوا مركز الصحة العقلية. يمكن قراءة الرقم بصورة أخرى وهي 120 جريمة سنوياً يتم ارتكابها من قبل أفراد مصابين باضطراب عقلي وبعبارة أخرى هناك جريمة قتل كل ثلاثة أيام ترتكب من قبل مريض مصاب باضطراب عقلي. عندما يتم عرض الخبر على عامة الشعب لا أحد يتوقع رد فعل إيجابي ويتعالى الصراخ والهتاف بشعارات منها:
لابد من حجز المجانين من البشر.
الصحة العقلية مجرد هدر وتبذير لميزانية الدولة.
العودة إلى عقوبة الإعدام وغيرها.
أما تفاعل رجال السياسة فهو يميل إلى تأييد الجمهور دون الخدمات الصحية العقلية. من جراء ذلك ترى بأن الصحة العقلية قلما تجذب عطف وحنان الدولة والمجتمع مقارنة بالاختصاصات الطبية الأخرى.
تعريف الفعل الإجرامي:
يتم تعريف الفعل الإجرامي قانونياً في كافة المجتمعات ولكن مصدر التشريع يختلف من مجتمع إلى آخر. التشريع بحد ذاته يتعرض إلى عملية تطورية ويخضع أحياناً إلى عوامل اجتماعية وسياسية وعاطفية وبل حتى إلى عوامل اقتصادية. هذه العوامل لا تؤثر على العملية التطورية للتشريع على المدى البعيد وكل ما يمكن أن تفعله هو تهدئة سرعة العملية ولكنها لا تستطيع توقيفها. إن توقفت العملية التطورية التشريعية في مجتمع ما توقف معها عملية تطور المجتمع فكرياً وسياسياً واقتصاديا ويمكن القول أن هذه هي بداية نهاية المجتمع بأسره وقرب انقراضه.
يتطلب تعريف الفعل الإجرامي القيام بالفعل أولاً وتواجد الفكرة والنية للقيام به. يتم تقسيم هذا التعريف كما يلي:
١- الفعل المذنب Actus Rea.
٢- العقل المذنب Mens Rea.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فيتم إضافة ما يسمى بالظروف المرافقة للجريمة Attendant Circumstances.
يعني الطب النفساني بالعقل المذنب دون الفعل المذنب وعملية التنفيذ . عملية التنفيذ بحد ذاتها تجذب أنظار المجتمع وتلعب دورها في تغيير مسيرة العملية القانونية فعلى سبيل المثال قتل طفل بصورة وحشية تثير عواطف سلبية في المجتمع وقادته وقد تؤثر على العملية القانونية وتحيد من مسيرتها. إن كان مرتكب الجريمة يعاني من فصام ووهام مرضي فإن إدانته بالقتل المتعمد مع سبق الإصرار أكثر احتمالاً إذا قتل طفلاً بريئاً وارتكب مجزرة بحق مجموعة من الأفراد دون الأخذ بنظر الاعتبار صحته العقلية.
العقل المذنب
قد يكون طبيعيا وغير طبيعياً بسبب اضطراب عقلي يؤثر سلبيا على بصيرة الإنسان وحكمته كالاتي:
١- وجود أفكار غير منطقية ووهامية.
٢- ولادة أفكار وهامية جراء حالة وجدانية (اكتئابية وهوسية).
٣- استجابة الإنسان لهلاوس سمعية وبصرية.
هذه العوامل الثلاثة هي الكثيرة الملاحظة في الممارسة العملية. لا يقبل القانون أبداً بولادة هذه الحالات بسبب عامل حاد مثل تعاطي الكحول وعقاقير الإدمان٫ وإنما فقط إذا كان المتهم يعاني من اضطراب عقلي مزمن. كذلك لا يقبل القانون هذه الأيام بوجود أفكار عدوانية مصدرها إصابة الإنسان باضطراب الشخصية العدوانية والحدية.
الفعل المذنب
إطار الفعل وتفاصيله لا علاقة له بإدانة المتهم والحكم عليه، ولكن لها علاقة بتقييم خطورة المتهم المريض إذا انتكس بعد علاجه. المعادلة التي يتمسك بها الطب النفساني لتقييم المخاطر هي:
درجة الخطورة = تفاصيل الفعل X تكراره.
جريمة اعتداء جنسي واحدة ترفع من خطورة الإنسان على الآخرين٫ وكذلك الأمر مع الاعتداء الجنسي على الأطفال. اشعال الحريق وحتى وإن لم يؤدي إلى إلحاق الأذى بالآخرين يرفع من درجة الخطورة وتكرار الفعل في المستقبل.
الجريمة المروعة بتفاصيلها ترفع من درجة خطورة الإنسان على الآخرين (وكذلك على نفسه في محاولات الانتحار) وتؤدي إلى عملية تأهيل طويلة المدى.
العلاج والتأهيل
المدان والمصاب باضطراب عقلي يتم إرساله إلى مصحات طبنفسية مقفلة ومأمونة يتم تقسيمها إلى ثلاثة درجات وهي:
١- عالية High Secure Units.
٢- متوسطة Medium Secure Units.
٣- واطئة Low Secure Units.
المدان بجريمة قتل يبدأ مسيرته في المصحات العالية الأمان تحت حكم قانوني. رحلة العلاج والتأهيل طويلة وتستغرق عدة أعوام وأحياناً مدتها أطول من فترة يقضيها مدان بنفس الجريمة في السجن. يتوجه المريض بعد ذلك إلى مصحة متوسطة ثم واطئة الأمن وخلال هذه الرحلة يتم:
١- العلاج بالعقاقير.
٢- العلاج النفساني.
٣- العلاج المهني.
خروج المريض من المصحات النفسية إلى المجتمع لا يحدث إلا بعد وضع خطة علاج تضمن عدم انتكاسته في المستقبل ومراقبته من أجل حماية الآخرين وحمايته أيضاً. المخطط المرفق يوضح عملية تقييم الخطورة ومعالجتها مع استعمال HCR-20: Historical and Clinical Risk Management. الأداة الأخيرة تتطرق أولا إلى التاريخ الشخصي والطبنفسي السابق للمراجع منذ الطفولة إلى وقت تقييم الخطورة. بعد ذلك هناك التقييم السريري الحاضر للصحة النفسية ويشمل ذلك تفاعل المراجع مع خطة العلاج ودرجة بصيرته. أما معالجة الخطورة فذلك لا يشمل فقط العلاج الذي يتم تقديمه وإنما ظروف السكن٬ مساندة المراجع خارج المصحات العقلية٬ وتقبله للمراقبة والعلاج.
مصادر للإطلاع:
1- Silva E(2020). HCR-20 and violence risk assessment-Will a peak of inflated expectations turn to a trough of disillusionment?. BJPsychBULL 44(6):269-271
2- مقالة تراجع استعمال أداة HCR-20 في الممارسة المهنية. لا توجد أداة مثالية لتقييم الخطورة والتكهن بسلوك المراجع. ربما فائدة استعمال هذه الأداة مبالغ فيها٬ ولكن لا يمكن الاستغناء عنها في الوقت الحاضر.
واقرأ أيضًا:
آلية الطعام والصحة النفسية/ العلاقة بين الهرمونات والوزن