التواكب المرضي مع الوسواس القهري التصنيف
بينا في الجزء السابق من هذه المقالة كيف أن الاكتئاب أحادي القطب هو الاضطراب المنفرد الأكثر تواكبا مع اضطراب الوسواس القهري، وسريريا تظهرُ أعراض الاكتئاب في كثيرِ من مرضى اضطراب الوسواس القهري وربما تبدو هذه الأعراضُ في بعض الحالات كردِ فعلٍ مفهومٍ لأعراض الوسواس القهري لكنها ليستْ دائمًـا كذلك؛ فهناك من مرضى اضطراب الوسواس القهري من يعانون من فترات اعتلالٍ مزاجي كالاكتئاب يبدو حدوثها مستقلاً عن أعراض الوسواس القهري لأنه لا يرتبطُ بفترات زيادة الأعراض القهرية؛ وهكذا لا نستطيعُ في مثل هذه الحالات أن نرجعَ سبب أعراض الاكتئاب إلى رد فعل المريض على أعراضه القهرية؛ ويثور التساؤل حول ماهية هذه الأعراض الاكتئابية هل هيَ جزءٌ من اضطراب الوسواس القهري؟ أم هيَ أعراض اضطراب اكتئابٍ جسيمٍ قائمٍ بذاته في نفس المريض باضطراب الوسواس القهري؟ (أبو هندي، 2003( وإذا أخذنا في الاعتبار تأثير ضعف أو إخفاق التثبيط السلوكي باعتباره سمة أساسية من سمات مرضى الوسواس القهري (Chamberlain et al., 2005)، فقد نستنتج تأثيرًا ممرضًا للوسواس القهري على الاكتئاب إذ يؤدي تكرار الإخفاق التثبيطي كمادة للاجترار الوسواسي إلى نشوء العقلية الاكتئابية ويؤدي كذلك إلى زيادة الاكتئاب، وقديما اقترح بعض الباحثين أن الوسواس القهري هو في الواقع اضطراب مزاجي بينما اقترح البعض الآخر أن الاضطرابين يرتكزان على الوجدان السلبي. بينما كان الافتراض الثالث هو أن الاكتئاب جزء أساسي من الوسواس القهري ولكن الوسواس القهري اضطراب منفصل عن الاكتئاب، وهو ما دعمته نتائج دراسة حديثة (Moore & Howell, 2017).
التداخل التشخيصي بين الاكتئاب والوسواس القهري:
فضلا عن ذلك هناك ما يسمى بالتداخل التشخيصي للوسواس القهري مع اضطرابات الاكتئاب، ففي الكثير من حالات الاكتئاب يجدُ الطبيبُ النفسانيُّ نفسه يتعاملُ مع أفكارٍ تسلطية أو وسواسية في مريض تشخيصه الأصليُّ هو اضطرابُ الاكتئاب الجسيم أي أن هناكَ أعراضُ الاضطرابين معًا في مريضٍ واحد، ولكن أعراض اضطراب منهما تكونُ هيَ الغالبة على الصورة المرضية أو هيَ سببُ شكوى المريض الأولية؛ فيكونُ أمام الطبيب ثلاثةُ خياراتٍ تشخيصية على الأقل :
(1) أن اضطراب الاكتئاب الجسيم يمكنُ أن يشتمل على أفكارٍ وسواسية أو أفعال قهرية كجزءٍ من أعراض اضطراب الاكتئاب نفسه.
(2) أن اضطراب الوسواس القهري يمكنُ أن يشتمل على أعراض اكتئابٍ كجزءٍ من أعراض اضطراب الوسواس القهري نفسه .
(3) أن الاضطرابين يمكنُ أن يكونا موجودين معًـا في المريض نفسه في الوقت نفسه وهو ما يعني تواكب اضطرابي وسواس قهر ي واكتئاب جسيم.
وجديرٌ بالذكر هنا أن أولَ منْ نبهَ إلى وجود علاقة بين الوسواس القهري والاكتئاب كانَ حجة الطب الإسلامي أبو بكر الرازي (854 –932 م) في القرن التاسع/العاشر، كما أطلق الرازي على اضطراب الاكتئاب الجسيم اسم الوسواس السوداوي وهو بذلك سبق كل الغرب في الانتباه إلى هذه العلاقة (Youssef,1994). كما ربط الإنجليزُ القدامى (Rachman, & Hodgson,1980) من المفكرينَ النفسانيين فلاسفةً وأطباءَ ورجال دين ربطوا ما بينَ اضطراب الوسواس القهري والاكتئاب، بل إنهم أطلقوا على حالات اضطراب الوسواس القهري اسم "الميلانكوليا الدينـيـة Religious Melancholy" وكلمة ميلانكوليا تعني الاكتئاب الشديد، ومن الملاحظات التي تشيرُ إلى وجود علاقة بينَ اضطراب الوسواس القهري واضطراب الاكتئاب الجسيم أن المسار المرضيَ لبعض مرضى الوسواس القهري يأخذُ شكلاً دوريا بمعنى أن الأعراض تظهرُ وتختفي على شكل نوبات خلال حياة المريض وهوَ ما يشبه مسار الاكتئاب الدوري، ومما يزيدُ الأمورَ تعقيدًا أن مرضى اضطراب الاكتئاب الجسيم نفسه قد يعانون من أفكارٍ اجترارية تسلطية، وأحيانًا من اندفاعات انتحارية تشبهُ إلى حد كبيرٍ الاندفاعات القهرية عند مرضى اضطراب الوسواس القهري، وتصل نسبةُ مرضى الاكتئاب الجسيم الذين يعانون من أعراض تشبه أعراض الوسواس القهري إضافة إلى أعراض اكتئابهم إلى 20% ، كما أن حوالي الثلث من مرضى اضطراب الاكتئاب تظهر في شخصيتهم قبل المرض سماتُ الشخصية القسرية، وتزيدُ هذه النسبة عن الثلث إذا حصرنا كلامنا على نوع من الاكتئاب يُسمَّى باكتئاب سن التقاعد Involutional Depression وهو يحدثُ في سن متأخرة بعض الشيء ويتميزُ بوضوح الأعراض الوسواسية فيه. وقد لاحظتُ في أكثر من مريضة أن نوعيةَ الأفكار التسلطية التي تحدثُ في مرضى الاكتئاب الجسيم عادةً ما تكونُ مصبوغةً بصبغة اكتئاب (كأن تحسَّ أمٌّ مثلاً بأنها كتلةٌ من الأذى وتخافُ على أبنائها وزوجها من أن تتسبب في أذاهم أو عدواهم بشكلٍ أو بآخر) وتكونُ أفعالُها القهريةُ متمشيةً مع هذا النوع من الأفكار(كأن تخافَ نفسُ الأم من أن تلمسَ أو أن يلمسها أبناؤها لأنها كما قلتُ مصدر أذىً وعدوى).
ومعنى ذلك أن الطبيبَ النفسانيَ يجدُ نفسهُ أمام أعراض اضطرابين نفسيين في مريضٍ واحدٍ وفي ذات الوقت، وفي الماضي عندما لم يكن هناكَ علاجٌ لاضطراب الوسواس القهري بينما كان هناك العديد من طرق علاج الاكتئاب كانَ الاهتمامُ بتشخيص اضطرابٍ يمكنُ علاجهُ يدفعُ الكثيرين من الأطباء النفسانيين إلى إعطاء الأمل للمريض بأن الأفكار التسلطية أو الأفعال القهرية التي يعاني منها هيَ جزءٌ من اضطراب الاكتئاب وكانَ العلاجُ يوجهُ للاكتئاب فإذا تحسنَ مزاجُ المريض أصبحَ على الأقل أقدرَ على مقاومة أعراضه القهرية إن لم تختف تلك الأعراضُ مع تحسن اضطراب الاكتئاب، لكن اكتشاف علاج للوسواس القهري وكذلك اكتشاف وجود فروقٍ في اختيار الأدوية وفي طريقة استجابة الاضطراب للدواء أصبحَ يلزمُ الطبيبَ النفساني بتحديد تشخيصه بصورةٍ أدق لكي يتمكنَ من تحديد نوعية العقار الذي سيصفهُ، وليتمكنَ أيضًا من إخبار مريضه بكيفية تغير الأعراض ونوعية مراحل التحسن التي سيمرُّ بها (أبو هندي، 2003).
المراجع:
1- وائل أبو هندي (2003): الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، عالم المعرفة إصدار يونيو 2003 عدد 293
2- Chamberlain, S.R., Blackwell, A.D., Fineberg, N.A., Robbins, T.W., Sahakian, B.J., (2005). The neuropsychology of obsessive com- pulsive disorder: the importance of failures in cognitive and behavioral inhibition as candidate endophenotypic markers. Neurosci. Biobehav. Rev. 29 (3), 399–419.
3- Moore K.A. & Howell J. (2017). Yes: The Symptoms of OCD and Depression Are Discrete and Not Exclusively Negative Affectivity. Frontiers in Psychology . volume 8, May 2017
4- Youssef , H. (1994). Arabic expression of emotion. British Journal of Psychiatry , 165(3) 407.
ويتبع:
التواكب المرضي بين الوسواس القهري والاكتئاب2
واقرأ أيضًا:
الجهاز البصري III :الباحات البصرية القشرية / قشرة المخ قبل الجبهية Prefrontal Cortex ق.ج1