التواكب المرضي بين الوسواس القهري والاكتئاب1
اكتئاب الوسواس مقابل الاكتئاب الجسيم
ومن الباحثين من حاولوا اكتشاف الفروق بين أعراض الاكتئاب في مرضى الاكتئاب الجسيم وأعراض الاكتئاب المواكب في مرضى الوسواس القهري، فمثلا أظهرت دراسة فاينبرج وشركاه اختلافًا بين الأعراض الاكتئابية لمرضى الوسواس القهري المصابين بالاكتئاب المرضي المواكب ومرضى اضطراب الاكتئاب الجسيم رغم التطابق من حيث شدة الاكتئاب، فكانت بعض أعراض الاكتئاب شائعة بين المجموعتين، وهي انخفاض المزاج والتركيز وانخفاض الطاقة وفقدان الاهتمام والتفكير الانتحاري. ويمكن اعتبار هذه الأعراض بمثابة السمات الأساسية المحددة للاكتئاب بغض النظر عن التشخيص، وتميزت مجموعة الوسواس القهري بكونها الأكثر أعراضًا في البنود التي تقيس التوتر الداخلي والتشاؤم، وكلاهما قريب من الأعراض الأساسية للوسواس القهري، بينما القلق هو العاطفة الأكثر شيوعا في مرضى الوسواس القهري، لذا فليس من المستغرب أن يكون مستوى القلق مرتفعًا في اضطراب الوسواس القهري المصاحب للاكتئاب المرضي، وكذلك كانت مجموعة الوسواس القهري كانت أقل أعراضًا على البنود التي تقيس الاستجابة الحيوية للاكتئاب (الأكل والنوم) وقد يشير هذا إلى مساهمة بيولوجية مختلفة من أنظمة الدماغ التي تعدل النوم والشهية في هذا النوع من الاكتئاب (Fineberg et al., 2005).
وفي دراسة قديمة لكنها تثير الاهتمام قورنت عمليات الأيض الدماغية في مرضى الاكتئاب الجسيم ومرضى الوسواس القهري المواكب باكتئاب جسيم، خلص الباحثون إلى ارتباط الخلل الوظيفي في الحصين الأيسر Left Hippocampus بنوبات الاكتئاب الجسيم، بغض النظر عن التشخيص الأولي. وأن نوبات الاكتئاب التي تحدث في مرضى الوسواس القهري فترتبط بخلل في دوائر العقد القاعدية-المهاد المختلفة مقارنة بمرضى الاكتئاب الجسيم الأساسيين (Saxena et al., 2001) وهو ما يعني وجود دوائر عصبية دماغية مختلفة في هذين الشكلين من أشكال الاكتئاب.
العلاقةُ بينَ الاكتئاب والوسواس القهري قديمةٌ كما ذكرتُ من قبل، ولكنها جديدةٌ أيضًـا لأن النظرَ إلى نوعية الأدوية التي تعالجهُ يجعلنا نفكرُ مرةً أخرى في هذه العلاقة؛ فكلُّ العقَّـاقير التي تعالجُ اضطراب الوسواس القهري إنما هيَ عقاقير تعالجُ الاكتئاب أصلا بغض النظر عن وجود أعراض وسواس قهري أو عدم وجودها في المريض؛ لكنَّ العكس غيرُ صحيح فليست كل العقَّـاقير التي تعالجُ اضطراب الاكتئاب الجسيم تصلحُ في علاج اضطراب الوسواس القهري إذ لابد من أن تكونَ لها مفعولُ زيادة الناقل العصبي السيروتونين في مشابك الالتقاء العصبي. كما أن الاستجابة لهذا النوع من مضادات الاكتئاب تختلفُ من حيث توقيتها بينَ مريض الوسواس القهري ومريض الاكتئاب ففي مريض الوسواس القهري تبدأ الاستجابةُ مبكرًا فتقلُّ الأعراضُ القهرية وفي نفس الوقت تقل الأعراضُ الاكتئابيةُ المصاحبةُ لها؛ بينما تتأخرُ استجابةُ أعراض الاكتئاب إلى ما لا يقلُّ عن أسبوعين في مريض اضطراب الاكتئاب الجسيم إذن فأعراض الاكتئاب الموجودة في مريض اضطراب الوسواس القهري تتحسنُ بشكلٍ سريعٍ مقارنة بأعراض الاكتئاب في مريض اضطراب الاكتئاب الجسيم وكل ذلك يوحي باختلاف في طبيعة الأعراض الاكتئابية المصاحبة لاضطراب الوسواس القهري عن تلك الموجودة في اضطراب الاكتئاب الجسيم؛ يضاف إلى ذلك أن الاستجابة للعلاج في اضطراب الاكتئاب الجسيم عادةً ما تكونُ إما استجابةٌ كاملةٌ أو لا استجابةَ كاملة بينما استجابة اضطراب الوسواس القهري كثيرًا ما تكونُ استجابةً جزئيةً بمعنى أن الأفكار التسلطية تصبحُ أقلَّ إلحاحًا وأكثر خضوعًا لمقاومة المريض عنها قبل العلاج، بل إن هناكَ من يذهبُ أبعدَ من ذلكَ ليقولَ أن أعراض الاكتئاب المصاحبة لاضطراب الوسواس القهري لا تستجيبُ أحيانًـا لأي نوعٍ من مضادات الاكتئاب وإنما تستجيبُ فقط للعقاقير التي تعملُ عملها المضاد للاكتئاب من خلال زيادتها للسيروتونين أي الم.ا.س أو الم.ا.س.ا (Goodman, et al., 1990) و (Fineberg et al., 2005).
ثمَّ أن دراسات الحجب المزدوج (أو التعمية المزدوجة) Double Blind Studies باستخدام العقاقير الزائفة (المُمَوِّهات) لمقارنة عقَّـار الكلوميبرامين بها قد بينت أن مرضى اضطراب الوسواس القهري مختلفون عن مرضى الاكتئاب الجسيم في أنهم :
-1- لا تستجيبُ أعراضهم للمموهات Placebo رغم اعتقادهم بأنهم يتناولونَ دواءً فعَّالاً وهم في ذلك مختلفون عن مرضى الاكتئاب الجسيم الذين يستجيبون بنسبٍ تصل إلى ما يقاربُ الخمسين بالمائة للعقار الزائف في بعض الدراسات.
-2- إذا غُـيِّـرَ العقَّـارُ النشط بعد ظهور التحسن في أعراض الوسواس القهري وأعراض الاكتئاب المصاحبة لهُ دونَ علم المريض أيضًـا يحدثُ انتكاسٌ سريعٌ في التحسن المبدئي بحيثُ تعود أعراض الوسواس وأعراض الاكتئاب بسرعة في الظهور مرة أخرى وهو ما يثبتُ فعالية الدواء بشكل معكوس ؛ وهذا أيضًـا مختلف عما يحدثُ لأعراض الاكتئاب في مريض الاكتئاب الجسيم إذا تعرض لنفس التجربة (Pato et al.,1988)، ولكي أوضح ذلك فإنني سأشرحُ أسلوب الدراسة المقصودة هنا :
وهيَ الدراسة المحكومةُ بالحَجْبِ المزدوج للعقار الزائف Double Blind Placebo Controlled Study ، ففي هذا النوع من الدراسات يقسم المرضى إلى قسمين يتناول قسم منهم وليكن القسم الأول العقَّـارَ الفعَّال بينما يتناول القسم الثاني عقارًا زائفًا (مُمَوِّهًا Placebo) له نفس الشكل ونفس المواصفات، ويتمُّ ذلك دون علم لا من المريض ولا من من يقوم بإعطائه الدواء (الحجب المزدوج)، فلا أحد يعرفُ من من المرضى يتناول عقَّـارًا نشطًـا ومن يتناول عقارًا زائفًا، وإنما يعرفُ ذلك من خلال أرقام كودية توجدُ على علب الدواء المتماثلة في كل شيء ويكونُ مفتاحها مع واحد من الباحثين لا يشترك في الجزء العملي من الدراسة؛ وبعد مرور فترة من الوقت -تختلف حسب نوعية الدراسة- يتم عكس الوضع السابق بحيث يتناول القسم الأول من المرضى عقارًا زائفًا بعد أن كان يتناول عقارًا نشطًـا ويتناول القسم الثاني العقار النشط بعد أن كان يتناول عقارًا زائفًا، ويتم ذلك أيضًا دون علم لا من المريض ولا من من يقوم بإعطائه الدواء؛ وهكذا يمكنُ إثباتُ فاعلية الدواء مع استبعاد أن يكونُ التأثير راجعًـا للإيحاء؛ ويتم كذلك إثبات أن بقاء التحسن الذي يطرأ على المريض إنما يعتمد على استمراره في تناول الدواء؛ والذي حدثَ مع مرضى الوسواس القهري أن أعراضهم القهرية وأعراضهم الاكتئابية تحسنت بشكل ملحوظ وسريع مع استخدامهم للعقار النشط ثم عادت للظهور مرة أخرى بسرعة عندما نقلوا إلى العقار الزائف برغم عدم علمهم بذلك.
أثر الاكتئاب على مريض الوسواس القهري:
ومن المهم بعد كل ذلك التفكير في أثر وجود اضطراب الاكتئاب الجسيم على مريض الوسواس القهري، قد يكون التأثير الأكثر أهمية للاكتئاب الشديد على الوسواس القهري هو مسار أكثر شدة للوسواس القهري (Tükel et al., 2006) ، ليست المسألة فقط إضافة عبء اضطراب على آخر، وإنما أيضًا تفاعلهما معا وقد أيدت نتائج الدراسات أغلب الملاحظات السريرية التي تشير إلى الأثر السلبي للاكتئاب سواء في الكبار أو الراشدين الصغار (المراهقين)، فقد ارتبط الاكتئاب المرضي المواكب بارتفاع درجات أعراض الوسواس القهري قبل العلاج وبعده مقارنة بغير المصابين باكتئاب (Leonard et al., 2014)، كما اتهم الاكتئاب كثيرا بإعاقة العلاج السلوكي المعرفي وتقليل قدرة المريض على الاستفادة من العلاج، رغم ذلك تشير نتائج العديد من الدراسات إلى أن الأفراد الذين يعانون من الوسواس القهري والاكتئاب معا، يمكن أن يستفيدوا من العلاج السلوكي المعرفي للوسواس القهري وأن الاكتئاب المرضي لا علاقة له بالامتثال للعلاج. وعادة تكون ثقة المعالج السلوكي المعرفي أقل بكثير عند علاج مريض وسواس مصاب بالاكتئاب الشديد، لأن هذا قد يكون مرتبطًا بنتائج أسوأ، ولذلك ما تزال نتائج الدراسات مختلطة إلى حد ما فيما يخص تأثير الاكتئاب السلبي على نتائج علاج الوسواس القهري (Marques et al., 2010).
إلا أن الكلام أعلاه يتعلق بدراسات العلاج السلوكي المعرفي غير المدعم بالعقاقير، في حين أن خبرتنا لا تشير إلا إلى ارتباط الاكتئاب بشدة أعراض الوسواس القهري وطول مكوثها وثقل تأثيرها السلبي على حياة المريض، ولأننا في خبرتنا لم نعرف كثيرا من المجازفين الناجحين بتجريب العلاج السلوكي المعرفي وحده في مجتمعاتنا فقد كانت الخبرة في أحد أشهر طرق العلاج في العالم الثالث وهي العلاج السلوكي المعرفي مدعما بعلاج عقاري بجرعة أقل كثيرا من المعتاد في العلاج العقاري للوسواس القهري ونسميه تجاوزا بالعلاج التكاملي، الخبرة لدينا بالعكس تشير إلى أن وجود الاكتئاب يبشر باستجابة أسرع وتحسن معتبر في أعراض الوسواس القهري، بل إن ذلك يجعل دمج كل من علاج الاكتئاب والوسواس القهري السلوكي المعرفي معا بالتوازي.
أعود بعد ذلك إلى مناقشة ما يحدثُ خلال الممارسة العملية للطب النفساني لأنهُ أيًّا كانَت طبيعةُ الأعراض الاكتئابية الموجودة في مريض الوسواس القهري فإن وجود أعراض اضطراب الوسواس في هذه الحالة يستدعي استخدام نوعية معينة من عقاقير الاكتئاب وهيَ التي تختص بتأثيرها على السيروتونين؛ ومن نعمة الله على المريض وعلى الطبيب النفسي أنها تعالجُ الاكتئاب سواءً كانت معه أعراض وسواس قهري أو لم تكن وهيَ في ذلك مختلفةٌ عن مضادات الاكتئاب الأخرى التي ربما تؤثر على كل الناقلات العصبية بشكل متساوٍ أو على ناقل عصبي آخرَ غير السيروتونين فكلها تعالجُ اضطراب الاكتئاب بنجاحٍ لكنها لا تعالجُ اضطراب الوسواس القهري (أبو هندي، 2003).
المراجع:
1- وائل أبو هندي (2003): الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، عالم المعرفة إصدار يونيو 2003 عدد 293
2- Fineberg NA, Fourie H, Gale TM and Sivakumaran T (2005). Comorbid depression in obsessive compulsive disorder (OCD): Symptomatic differences to major depressive disorder. Journal of Affective Disorders 87 (2005) 327–330
3- Saxena, S., Brody, A.L., Ho, M.L., Alborzian, S., Ho, M.K., Maidment, K.M., Huang, S.C., Wu, H.M., Au, S.C., Baxter Jr., L.R. (2001). Cerebral metabolism in major depression and obsessive-compulsive disorder occurring separately and concurrently. Biol. Psychiatry 50 (3), 159 – 170.
4- Goodman W. K., Price, L.H., Delgado, P.L, Palumbo J, Krystal J.H, Nagy, L.M, Rasmussen S.A, Heninger G. R, & Charney D.S (1990). Specificity of SRIs in the treatment of OCD: Comparison of Fluvoxamine and desipramine. Archi. Gen. Psychi. , vol. 47, p. 577-585.
5- Pato M, Zohar-Kadouch R, Zohar J. and Murphy D.L (1988): Return of symptoms after discontinuation of clomipramine in patients with OCD. Am. Journal of Psychiatry , vol. 145 , p. 1521-1525.
6- Tükel R, Meteris H, Koyuncu A, Tecer A, Yazici O. (2006). The clinical impact of mood disorder comorbidity on obsessive-compulsive disorder. Eur Arch Psychiatry Clin Neurosci. 2006 Jun;256(4):240-5. doi: 10.1007/s00406-006-0632-z. Epub 2006 May 12. PMID: 16683062.
7- Leonard RC, Jacobi DM, Riemann BC, Lake PM & Luhn R. (2014). The effect of depression symptom severity on OCD treatment outcome in an adolescent residential sample, Journal of Obsessive-Compulsive and Related Disorders, Volume 3, Issue 2,2014, Pages 95-101,
8- Marques L, Chosak A, Phan DM, Fama J, Franklin S, and Wilhelm S (2010). Avoiding Treatment Failures in Obsessive Compulsive Disorder. In: Otto MW & Hofmann SG (editors). Avoiding Treatment Failures in the Anxiety Disorders. Springer New York Dordrecht Heidelberg London
واقرأ أيضًا:
الجهاز البصري III :الباحات البصرية القشرية / قشرة المخ قبل الجبهية Prefrontal Cortex ق.ج1