الاضطرابات التفارقية: رحلة من القرن 18 إلى القرن 21-ج2
حدثت عدة تغيرات ثقافية في المجتمعات بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكذلك تغيرت مفاهيم التشخيصات الطبنفسية وبالذات الاضطرابات لا ذهانية Non Psychotic Disorders. في عام 1962 صدر بحث تحت إشراف طبيب الأشعة هنري كيمب Kempe بعنوان متلازمة الطفل المضروب Battered Baby Syndrome يشير إلى مجموعة إصابات يتعرض لها الأطفال من جراء سوء المعاملة والضرب المتكرر منبهاً إلى مخاطر تجاهل هذه الظاهرة التي مصدرها الأول والأخير الاعتداء الجسدي وتأثير ذلك عليهم على المدى البعيد1. كان هناك أيضاً ولادة الحركة الأنثوية Feminist Movement في السبعينيات ومواجهتها للتمييز ضد النساء وتعامل الذكور والمجتمع معهم وكأنهم مواطنين من الدرجة الثانية في مختلف المجالات ومنهم الطبية والنفسانية. بعد ذلك صدر المجلد الثالث التشخيصي الإحصائي للجمعية الطبية الأمريكية في عام 1980 ومعه ظهر مصطلح اضطراب كرب ما بعد الصدمة Post Traumatic Stress Disorder PTSD .
برز نجم مصطلح التفارق مع الطبعة الرابعة وفيها تم استعمال مصطلح فقدان الذاكرة التفارقي، تغير الهوية التفارقي Dissociative Identity Disorder، والشرود التفارقي Dissociative Fugue. هذه المحطات التاريخية 2 في دراسة مفهوم التفارق تفسر صعود نجم نموذج الصدمة لتفسير الظاهرة والاضطرابات، وما ساعد في ذلك ولادة قياسات نفسانية لدارسة التفارق في المراجعين والمجتمع، وصدرت الكثير من البحوث تتناول وبائيات اضطرابات التفارق المختلفة منها سلم التجربة التفارقيةDissociative Experience Scale DES، ومقابلة سريرية منظمة structured Clinical Interview للتنقيب عن أعراض تفارقية في المراجعين المشاركين في بحوث علمية. لكن دراسة البحوث في مجال الاضطرابات التفارقية مع استعمال القياسات الأخيرة قد يفسر التضارب الكبير في نتائج دراسات انتشار ظاهرة التفارق في مختلف المجموعات البشرية . انتشار التفارق3 في المجتمع يتراوح ما بين0.3% الى 18.3%، وفي المراجعين لمراكز الطب النفساني ما بين 12% الى 40%. أما فقدان الذاكرة التفارقي فالأرقام تتراوح ما بين0.2% في الصين إلى أكثر من 7% في تركيا. عمر المصابين باضطراب فقدان الذاكرة التفارقي هو ما بين 30 إلى 40 عاماً ولا يوجد فارق بين الجنسين. أما اختلال الإنية-اختلال الواقع فانتشاره على مدى طول العمر Lifetime فهو 26-74%. هذه الأرقام تثير الاستفسار8 حول دقة التشخيص مع استعمال المقاييس أعلاه، ويمكن القول تناقض ظاهرة النسيان حيث أن الأحداث الصدمية يصعب حذفها من الذاكرة وربما من يشير إلى فقدان ذاكرته لصدمة سابقة هو بالأحرى لا يميل إلى الحديث عنها إراديا وليس لا إرادياً.
نموذج الصدمة النفسية لتفسير التفارق كثير الانتشار ويمتد ليس فقط لتفسير الاضطرابات التفارقية وإنما إلى تفسير اضطراب الشخصية الحدية4 التي يتميز هو الآخر بأعراض تفارقية متعددة حيث تتجاوز نسبة المصابين بالاضطراب التفارقية إلى أكثر من 50%. استناداً إلى هذا النموذج التفارقي يساعد على تجنب الألم النفساني الناتج من الصدمة وعزل ذكريات الصدمة التي هي مصدر الألم. أما النموذج الاجتماعي المعرفي فهو يركز على أن الكثير من ذكريات الصدمة هي مزيفة ويتم اقتراحها عن طريق المعالج. كذلك تلعب العوامل الفردية من الميل إلى الخيال والاستجابة للإيحاء دورها بالإضافة إلى دور المواقع الاجتماعية هذه الأيام التي تركز على دور الاعتداء الجنسي في الصحة العقلية.
الاضطراب العصبي الوظيفي
الاضطرابات التفارقية ليست حصراً على الطب النفساني، وإنما تمتد إلى الطب العصبي الذي يصيغ هذه الاضطرابات مع استعمال مصطلح غير التفارق ويبتعد عن تفسير الأعراض بنموذج الصدمة مع التركيز على الاختلال الوظيفي للعمليات المعرفية للدماغ. يتم صياغة الاضطراب العصبي الوظيفي 5 مع استعمال نموذج تقليدي لتفسير الأعراض من عوامل مؤهبة، عوامل مسرعة، وبالتالي عوامل ادامة الاضطراب. العوامل المؤهبة تتمثل في ظروف نفسية اجتماعية قاهرة، مرض جسدي، والتعرض إلى نموذج مرضي معين في المقربين. تحدث الأعراض مع الإصابة بأذى أو مرض عضوي، وتترسخ الأعراض بسبب العزلة الاجتماعية ونمط تفكير الفرد.
البحوث العلمية في هذا المجال تكشف عدم التوافق بين الاستجابات الذاتية والموضوعية اثناء العملية العاطفية للإنسان بالإضافة الى ارتفاع رد الفعل الجهاز العصبي اللاإرادي5. الدراسات الإشعاعية6 تشير إلى زيادة فعلية اللوزة، ارتفاع نشاط الدائرة الحركية، تغيرات في تفاعل الفصي الجبهة الأمامي، وتعزيز الاتصال الوظيفي للدائرة الحوفية أثناء المعالجة العاطفية. هناك فرط في نشاط الفص الجبهي في الاضطرابات التفارقية مع تثبيط للجهاز الحوفي وهذا على عكس ما يتم ملاحظته في اضطراب كرب ما بعد الصدمة المتميز بارتفاع درجة اليقظة Hyperarousal. هذه البحوث ترسخ إلى حد ما النموذج الطبي للاضطراب مبتعدة عن النموذج الاجتماعي والنفساني السلوكي، والتي تقدم للمراجع تفسيراً لأعراضه أقل غموضاً من التفسيرات الطبنفسية7.
المعالجة
تتعامل الجهات الطبية في مختلف الاختصاصات مع التفارق والاضطرابات التفارقية استناداً إلى الأعراض ونماذج العلاج المتوفرة في الاختصاص ذاته8. المريض الذي يصل إلى مركزٍ للطب العصبي بسبب أعراض الدوار أو تغيرات حسية غامضة أو نوبات لا صرعية غير المريض الذي يصل إلى مركز للطب النفساني بسبب نوبات غيبة أو تغير في الهوية الشخصية. في جميع الحالات لا بد من الوصول إلى تشخيص دقيق وحسم وجود أو عدم وجود اضطراب آخر سواء كان طبيا أو طبنفسياً.
التفارق هو فشل أو تعثر التكامل بين العاطفة، الوظائف المعرفية، الذاكرة والسيطرة على الجسد. العلاج إذاً هو محاولة استرجاع التكامل بين العاطفة، الوظائف المعرفية، الذاكرة، والسيطرة على الجسد9. ما يمنع هذا التكامل قد يكون ظروف اجتماعية قاهرة، إصابة المريض بمرض عضوي، وجود أزمات نفسية، أو وجود اضطراب نفسي مثل الاكتئاب أو الحصار المعرفي (الوسواس القهري). علاج الاضطرابات الأخرى يتبأ موقع الصدارة في خطة العلاج، ولكن الأعراض التفارقية قد لا تتحسن بصورة متوازية مع تحسن الأعراض الأخرى وأحياناً تثير اهتمام المريض أكثر من الأعراض الأخرى. لا يوجد علاج نفساني معين يستهدف الأعراض التفارقية، ولكل مراجع احتياجاته الخاصة به استناداً إلى طبيعة الأعراض وتأثيرها على أدائه الوظيفي. لا توجد دراسات10 توفر دليلاً مقنعاً على فعالية أي عقار في علاج اختلال الإنية-اختلال الواقع وكذلك الأمر مع عقار نالتركسون Naltrexone.
المصادر:
1- C. H. Kempe, Frederic N. Silverman, Brandt F. Steele, William Droegemuller, Henry K. Silver, ‘The Battered Child Syndrome’, Child Abuse and Neglect, 9 (1985): 143, originally published in Journal of the American Medical Association 1962 ;181 17–24.
2- Merckelbach H, Muris P. The causal link between self-reported trauma and dissociation: a critical review. Behaviour Research and Therapy 2001; 39 :245–254
3- Sar V. Epidemiology of dissociative disorders: An overview. Epidemiology Research International. 2011; 2011:1–8.
4- Lowenstein R. Dissociation debates: everything you know is wrong Dialogues Clin Neurosci. 2018 Sep; 20(3): 229–242.
5- Ross C. Borderline personality disorder and dissociation. Journal of Trauma & Dissociation 2007:8(1) 71-80.
6- Pick S, Goldstein L, Perez D, Nicholoson T. Emotional processing in functional neurological disorder: a review, biopsychosocial model and research agenda. J Neurol Neurosurg Psychiatry 2019; 90:704–711
7- Blihar D Delgado E Buryak M, Gonzalez M, Waecher Randall. A systematic review of the neuroanatomy of dissociative identity disorder2020 European Journal of Trauma and Dissociation. 4(3) Internet Publication.
8- Brand B, Schielke H, Putnam K et al. An Online Educational Program for Individuals with Dissociative Disorders and Their Clinicians: 1-Year and 2-Year Follow-Up. Journal of Traumatic Stress 2019, 32, 156–166.
9- Hunter E, Charlton J, David A. Depersonalisation and derealisation: Assessment and Management. BMJ 2007. 356. Online Publication.
10- Gentile J, Dillon K, Gillig P. Psychotherapy and Pharmacotherapy for Patients with Dissociative Identity Disorder.Innov Clin Neurosci 2013 Feb; 10(2): 22–29.
ويتبع>>>>>: الاضطرابات التفارقية: رحلة من القرن 18 إلى القرن 21-ج4
واقرأ أيضاً:
العلاج النفسي لاضطراب الشخصية الحدية / الاستشارة الطبنفسية (الطبنفسانية)