منذ بداية جائحة كورونا شعرنا جميعاً بأن ثمة شيئاً مريباً في الأمر، وتوالت نظريات المؤامرة التي حمل بعضها نوعاً من المنطق ولكن عازها الدليل، فيما لم يعدُ البعض الآخر أن يكون إما ضرباً من الخيال العلمي أو توهمات المصابين بالبارانويا. لكن أحداً لم يقدم تفسيراً مقنعاً لذلك الشعور، وبالتأكيد لم يقدم أحدٌ دليلاً يدعم أياً من تلك النظريات وإلا لما كنا نتحدث هنا.
لن أخوض هنا في الجدل حول منشأ الفيروس، فما ذكره أساتذة جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة حول تسرب الفيروس بالخطأ من معمل صيني في مدينة ووهان له صلات بمؤسسات تمويل وأبحاث أميريكية يكاد يخبرنا تقريباً بما نحتاج معرفته بهذا الشأن. لذا دعنا نتجاوز هذه النقطة في حديثنا اليوم، إذ في النهاية فإن الحوادث المؤسفة تقع رغم أنف الجميع بين الحين والآخر، وذلك بالتأكيد مالم يقدم أحدهم في المستقبل دليلاً يثبت أنه قد تم نشر الفيروس عمداً وأنها لم تكن مجرد حادثة، فذاك حينها أمرٌ آخر.
ولكن قبل الدخول في صلب موضوعنا اليوم، نحتاج أولاً إلى أن نتفق بشأن مدى خطورة الفيروس فعلياً دون تهوين أو تهويل. وتجنباً للإطالة فلن أغوص في الأرقام والإحصاءات والدراسات المختلفة، فكلها متاحة على الإنترنت لمن يرغب في التدقيق والتمحيص، وسألخص الأمر قدر الإمكان قبل أن نستكمل حديثنا.
إن من المؤكد أن الفيروس شكل نوعاً من الخطورة الحقيقة على فئات مختلفة من الناس، وكان هناك عددٌ كبيرٌ نسبياً من الوفيات حول العالم. وهذا القدر من الخطورة مع سرعة انتشار نسبية جعلا من الضروري أن تكون هناك بشكل ما بعض الاجراءات الاحترازية مثل ارتداء الكمامات والتباعد الاجتماعي وخلافه.
إلا أنه من المؤكد أيضاً أنه لم يكن فتاكاً بالمعنى التقليدي للكلمة، فعلى مقياس من واحد إلى عشرة للتهديد الذي تشكله الأوبئة والأمراض، يمكن بشكل منصف أن نمنحه تصنيفاً معتدلاً في مكان ما بين المستويين الرابع والخامس مقارنة بأوبئة أخرى، وذلك بالنظر إلى كلٍ من سرعة الانتشار، ومعدل الوفيات، والأضرار طويلة الأمد على الناجين. ربما لا يبدو مثل هذا القياس دقيقاً من الناحية العلمية لأسباب عديدة، ولكنه بشكل أو بآخر هو الخلاصة المبسطة لكل ما قيل علمياً. فعلى سبيل المثال فمقارنةً بمعدلات وفيات تتراوح بين 10% إلى 75% لفيروسات مثل الإيبولا وسارس وأنفلونزا الطيور وميرس ونيباه، فإنها في أسوأ التقديرات لم تتجاوز 3% من إجمالي عدد الإصابات في حالة كوفيد-19. وبالمقابل فإنه رغم أن معدلات الانتشار والإصابة عموماً لم تقترب من أمراض أخرى سريعة الانتشار مثل الحصبة، فإن معدلات الانتشار والإصابة لكوفيد-19 كانت عالية نسبياً مما يعني ارتفاع أعداد المصابين إجمالاً وبالتالي ارتفاع أعداد الوفيات ككل، وضغطاً أكبر على الأنظمة الصحية المتردية أصلاً بما يكفي لدفعها للانهيار، وهذا هو السبب الرئيسي وراء الارتفاع النسبي لتصنيف خطورة الفيروس.
إن نظرة سريعة على الإحصاءات الرسمية للوفيات في الولايات المتحدة عام 2020 على سبيل المثال ستعطينا نفس المنظور تقريباً، إذ تظهر أن الفيروس تسبب في وفاة نحو 7 أضعاف من قتلتهم الأنفلونزا الموسمية، ولكن عدد قتلاه كان قريباً من نصف عدد وفيات التي تسبب بها السرطان أو أمراض القلب كلٌ على حدة.
إن هذا يأخذنا بالضرورة إلى السؤال الأكثر إثارة للجدل منذ بداية الجائحة وهو هل كانت هناك ضرورة لاجراءات الإغلاق الشامل التي تم فرضها؟ والحقيقة أن سرعة انتشار الفيروس وتردي الأنظمة الصحية وضعفها في جميع دول العالم تقريباً جعل الإجابة هي نعم ولكن... فقد كانت هناك فعلياً حاجة لشكل من أشكال الإغلاق الجزئي أو الكلي لفترات مختلفة قد تقصُر أو تطول حسب ظروف كل منطقة جغرافية على حدة، والتي تشمل الكثافة السكانية، ومستوى النظام الصحي، والطبيعة السكانية أو الديموغرافية للمنطقة، والمناخ، إلى جانب عوامل الأخرى. ولكن لم يكن هناك مبررٌ في أغلب الأحوال للإغلاقات الطويلة جداً والتي بلغت عدة أشهر في بعض الأماكن. ومع ذلك يجادل بعض الخبراء أن فكرة الإغلاق كلها كانت استراتيجية خاطئة منذ البداية ويقدمون بعض الحجج التي تستحق النظر ويعوزها التدقيق والتمحيص. ولكن في النهاية فإن الأمر هنا كان أولاً وأخيراً يعتمد على تقدير واجتهاد القائمين على الأمر في كل مكان على حدة في ظل المعلومات المتوفرة لهم في حينه ولا عيب في ذلك.
وبعد أن قيل كل هذا، دعنا ننتقل الآن إلى مربط الفرس حيث تكمُن القصة التي تشكل محور حديثنا اليوم. فهل كانت ردة الفعل والاستجابة لظهور الفيروس مناسبة؟ هل كان هناك مبررٌ حقيقي لحالة الرعب التي انتشرت؟ وهل كان من الضروري أن يحدث الضرر الاقتصادي الذي حدث على مستوى العالم نتيجة انتشار الفيروس؟ أو بعبارة أخرى مختصرة، هل تمت إدارة الأزمة بالشكل الصحيح؟
إن الإجابة هنا هي قطعياً لا... لا... لا...
فقد كانت هناك حاجة ماسة لطمأنة الناس وتوعيتهم بالاجراءات الاحترازية المطلوب اتخاذها سواء على المستوى الفردي أوعلى المستوى القومي، وكان هناك المبرر الأكيد للحذر والتحوط المعقول، ولكن لم يكن هناك أي مبرر لحالة الهلع والرعب تلك. وكما قد يخبرك أي مختص، فإن أول أبجديات التعامل مع أي حالة طواريء هو الحرص على منع حدوث الذعر أو انتشاره، أو قل الحرص على السيطرة على الشعور بالذعر والدفع باتجاه الهدوء والعقلانية في التعامل مع الموقف، وكلما ازدادت خطورة الموقف كلما كان ذلك أكثر إلحاحاً. لكن الغريب أن ما حدث هو العكس تماماً، فقد بدا أن هناك نوعاً من التواطؤ العالمي غير المفهوم على نشر الذعر بشكل يبدو متعمداً وغير مبررٍ منذ اللحظات الأولى، واستمر المنوال على ذلك بشكل تصاعدي على مدى عدة أشهر، ووصل الأمر إلى حد الابتذال في بعض الأحيان.
وللتوضيح والتأكيد هنا، فأنا لا أتحدث عن مؤامرة بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكني أرى أن الأمركان أشبه بقطعة موسيقية عزفها أحدهم في البداية، ثم رقص عليها البقية حين رأى كل منهم أن ذلك يصبُ في مصلحته. فربما انطلقت الشرارة الأولى لذلك الرعب بحسن نية، ربما لأن أحدهم ظن أن الوسيلة الأفضل لاجبار الناس على التحوط هو إخافتهم حد الرعب، وإن كنت أظن أن مسألة حسن النية هنا مشكوك فيها لأسباب سنناقشها لاحقا.
لكن المؤكد هو أنه سواء كان عَزفُ تلك المقطوعة قد تم بحسن نية أو بسوئها، فإن من بدأ تلك الفوضى قد أدرك لاحقًا أن الأمر قد خرج عن السيطرة بعد أن بدأ الجميع بالرقص وترديد اللحن باستخدام جميع مكبرات الصوت الممكنة، حتى لم يعد يُشكل فارقاً إن توقف العازفُ أم استمر، فقد كانت الحفلة قد بدأت بالفعل. ولاحقًا، أدرك الجميع أن الأمر قد ذهب بعيدًا، وأصبح الذعر من الفيروس مشكلة أكبر من الفيروس نفسه، وكبرت كرة الثلج وبدأت تكتسح كل شيء، من منظور اقتصادي على الأقل. ولذا لم تُعزف المقطوعة مرة أخرى مع الإعلان عن المتحور (XBB) الجديد، على الرغم من أنه تم الإبلاغ عن أنه أكثر خطورة، وأسرع انتشارًا ومراوغة، وأقل استجابة للقاحات والعلاج من النسخ السابقة من الفيروس؛ فقد هدأ الغبار أخيرًا، ولا أحد يريد تلك الفوضى مرة أخرى. وفي الواقع، فقد تبين أن هذه التقارير خاطئة ، وأن الطفرة الجديدة لا تفرض خطرًا أكبر من طفرة Omicron الأصلية، حتى وإن كانت أسرع قليلاً في الانتشار؛ لكن النقطة هنا هي أنه لم أحداً لم يقرع الجرس لإخافة الناس مرة أخرى دون داع، وأخذوا أولاً الوقت الكاف للتحقق من المعلومات وتقييم الموقف بهدوء قبل إصدار أي تصريحات.
إن ذلك الإصرار على نشر الذعر بشكل ممنهج كانت له تداعياتٌ وآثار كثيرة، وربما سيحتاج الأمر بضع سنوات قبل أن نتمكن من الإحاطة بها جميعاً. لكن المؤكد أن بعض هذه التداعيات كانت فورية، وكان أولها وأخطرها أنها كانت السبب وراء انتشار ذلك الشعور الغامض بأن شيئاً ما مريباً يحدث، وتوفير أرضية خصبة لنظريات المؤامرة المتعددة، والنتيجة كانت أن الصدمة أو حالة الرعب لدى العامة انقلبت سريعاً إلى انقسام الناس بشكل عام إلى فئتين، إحداهما مرعوبة وتزدادُ رعباً كل يوم، وتستمر في تكرار نغمة الرعب ونشرها حتى يشاركها الآخرون فيها، وأخرى استفزها الأمر بشدة فاتخذت موقفاً مضاداً تماماً أدى لتهاونها بشكل كامل كانت نتيجته في النهاية ارتفاع وتيرة الاصابات والوفيات بشكل كبير كان من الممكن تجنبه حتماً لو أن الأمور سارت بشكل مختلف منذ البداية. وستبقى هذه الدماء في أعناق أولئك الذين تعمدوا نشر ذلك الذعر شاؤوا أم أبو.
أما أهم التداعيات الفورية الأخرى لحملة الرعب تلك فقد كان الأثر الاقتصادي، فالحقيقة أن عمليات الإغلاق الشامل لم تكن هي السبب الرئيسي في الأزمة التي هزت الاقتصاد العالمي كما يحلو للبعض أن يتصور، بل يمكن القول أنها في الواقع ساهمت في ازدهار بعض القطاعات كما سنتطرق إلى ذلك في وقت لاحق. إن السبب الرئيسي للأزمة كان انتشار حالة الذعر واللايقين وهما العدوان الأساسيان لأي اقتصاد.
دون شك، فإن الإغلاق كان من الحتمي أن يصاحبه بعض التباطؤ والركود في بعض القطاعات، وقدر من الارتباك والفوضى في بعض القطاعات الأخرى. ولكن بالقليل من الحنكة كان يمكن أن يتم امتصاص تلك الأثار وإدارتها للخروج بخسائر مقبولة وصغيرة نسبياً لا تمثل أكثر من حالة ركود بسيط عابرة سرعان ما يتم التعافي منها لاحقاً دون آثار سلبية على المدى الطويل، وذلك من خلال قيام الدول بالإنفاق على تدعيم البنية التحتية المتهالكة لأنظمتها الصحية مع مزيج رشيد من برامج التحفيز والمساعدات المدروسة والتشريعات التنظيمية المؤقتة لخلق وضع مستقر نسبياً يرسل للجميع رسالة مفادها أن الأمور تحت السيطرة وأننا نحمي ظهوركم ودوركم أن تتخذوا الاحتياطات الكافية لسلامتكم وتخرجو لتقاتلوا لنعبر سوياً الأزمة بأقل الخسائر الممكنة.
ولكن مرة أخرى، بدى وأن هناك من يصب الزيت على النار ويضاعف من حالة الذعر واللايقين بشأن ما هو آت من خلال اجراءات اقتصادية غير مفهومة من ناحية المنفعة المرجوة منها، ولا يبدو الآن بعد مضي الوقت إلا أنها كانت إما حماقة واضحة أو محاولة متعمدة لزيادة حالة الذعر تلك! لقد بدا أن معظم دول العالم بشكل أو بآخر تقرأ من كتيب الغباء الاقتصادي نفسه. إذ بدأت واحدة من أكبر عمليات طباعة النقود في التاريخ، وموجات من الاستدانة الحكومية من أجل تمويل حزم تحفيزية ومساعدات يمكن وصفها بالعشوائية أو غير المدروسة بشكل كاف في أحسن الأحوال، حيث لم تقدم أي حلول نافعة على المدى الطويل.
ولكن الأسوأ كان ذلك الإخراج الدرامي لكل تلك الإجراءات والذي لم يبعث سوى برسالة واحدة للجميع مفادها نحن نفعل المستحيل كي لا نغرق صحياً واقتصادياً، وما عليكم إلا أن تبقوا في البيوت مذعورين كالفئران لأطول فترة ممكنة، تحلمون بعودة الحياة إلى طبيعتها، وسنرسل الطعام إلى أقفصاكم إلى أن ينقذنا أحدهم من الانقراض بانتاج لقاح ما! وكانت النتيجة الطبيعية لكل ذلك موجة تضخمية بدأت معها دوامة الديون السيادية لتضاعف من حالة اللايقين وتعمق جراح الاقتصاد العالمي، تبعها بالضرورة حالة الركود المستمرة منذ ذلك الوقت والتي لا يبدو من الواضح الآن كيف ومتى ستنتهي بعد أن ألقت الحرب في أوكرانيا بظلالها على المشهد لتزيده قتامةً وتبعثر رياحاها ما تبقى من الشعور بالاستقرار الاقتصادي على مستوى العالم.
ويتبع >>>> كورونا... رقصة الرعب2
واقرأ أيضاً:
مفاتيح حل معضلة المرور/ الرحمة والبديل الثالث/ علامة تعجب