يعد مفهوم "حوار الأديان" مفهوماً قديمًا، ربما قِدم الأديان نفسها، ولكنه اكتسب زخمًا أكبر في العقود الأخيرة، أما "حوار الحضارات" فهو جديد نسبيًا، وربما جاء الاهتمام الواسع به في عقد التسعينيات ردًا على أطروحة "صامويل هنتنجتون" (صدام الحضارات) وما أثارته من جدل.. والسطور التالية تستند إلى خبرة كاتبها في ميدان حوار الأديان ثقافيًا واجتماعيًا عبر عقد أو يزيد، فمع بداية التسعينيات أتيحت له فرصة الالتقاء والاتصال بالعديد من الأكاديميين والناشطين في هذا الحقل، والمشاركة في العديد من لقاءات ومؤتمرات الحوار محليًا ودوليًا.. والورقة تستكشف آفاق ما يجري من حوارات على الأرضية الدينية، وتحاول أن تستشرف إمكانية ومواضع التواصل بين هذه الأرضية، وجهود حوار الحضارات المتزايدة، وبخاصة في أعقاب هجمات سبتمبر الماضي وتداعياتها.
* مفهوم حوار الأديان:
"حوار الأديان" عالم واسع ومتنوع الأهداف والمستويات، والمبادرة إلى رفضه أو قبوله مبدئيًا تعتبر مغامرة غير محسوبة تختصر واسعًا، وتنتقي وجهًا واحدًا تحكم عليه بالسلب أو بالإيجاب وسط ظاهرة متعددة الوجوه.. والتنوع الذي نتحدث عنه يتضمن الأطراف المتحاورة، من رجال دين، أو أكاديميين متخصصين في الأديان، أو ناشطين في العمل الخيري، أو المهتمين بتعظيم دور الأديان في نواحي الحياة المختلفة، أو خليط من هؤلاء وأولئك... وأهداف الحوار أيضًا تختلف، فهناك حوارات تبحث عن تفاهم متبادل وتعارف أعمق، وهناك أخرى تبحث عن القيم المتفق عليها، وهناك حوارات تبحث عن موقف مشترك من قضية بعينها، وهناك حوارات ذات أغراض سياسية... وهكذا.
وأساليب الحوار تختلف، وطريقة "استدعاء الدين" أيضًا تختلف؛ فهو يُستدعى كتجربة روحية أحيانًا، ويستدعى كتاريخ وممارسة أحيانًا أخرى، ويستدعى كنصوص مقدسة أحيانًا ثالثة، أو كقيم مجردة، أو كواقع حي يومي يتحرك على أرض الواقع... ويختلف الحوار في نطاقه واتساعه الجغرافي بين المحلي والإقليمي والدولي، وفي تحديده للأديان، فقد يقتصر على الأديان السماوية المسماة بـ"الإبراهيمية"، وقد يتضمن ديانات أخرى مثل: الهندوكية والبوذية وغيرها، وقد يكون داخل دين واحد بين مذاهب وطوائف شتى، أو بين دين وآخر، أو بين عدة أديان في وقت واحد.
* نماذج من أنواع ومستويات الحوار الديني:
- تجربة اللجنة المصرية للعدالة والسلام / مصر:
وتعتبر هذه التجربة هي الأبرز على الساحة الفكرية والوطنية المصرية لمناقشة الشأن القبطي وهموم المواطنة، وقد اتخذت في بداياتها شكلاً منتظمًا عبارة عن جلسات يفصل بين الواحدة والأخرى عدة أسابيع أو أشهر، وتتم في الجلسة مناقشة مجموعة من الأوراق المقدمة من مسلمين وأقباط في إطار القضايا المحلية الوطنية، وبخاصة أن الفترة التي بدأت فيها تلك الحوارات – بداية التسعينيات - قد شهدت تصاعد حدة المواجهة بين النظام المصري وجماعات التغيير بالقوة التي تنطلق من أرضية دينية بالأساس، وقد ضمت تلك الحوارات أكاديميين وناشطين، ورجال دين من مختلف الأعمار والخلفيات الأيديولوجية والفكرية، واستضافتها مقرات المؤسسات المرتبطة بالكنيسة الكاثوليكية المصرية في القاهرة.
واستهدفت هذه النقاشات استطلاع آراء المشاركين حول الأحداث التي كانت تدور وقتها، وتأثيرها على الوضع الاجتماعي والشأن السياسي والثقافي، وبخاصة فيما يخص مناخ الاحتقان والتوتر الذي ساد وقتها في علاقة المسلمين بالأقباط.. إضافة إلى تحقيق نوع من الصلة بين المتحاورين، وبدءِ اهتمامٍ ما زال مستمرًا لديهم حتى الآن بنفس هذا الشأن الوطني الحواري.. فقد نتج عن هذه السلسلة من الحوارات كتاب بعنوان: "الحوار الوطني" تضمن نص الأوراق المقدمة من خلال الجلسات، وتفريغا للمناقشات التي دارت بين المتحاورين.
ورغم أن العلاقة واللقاءات "الأضيق" قد استمرت بين هذه المجموعة، فإن الروح الحماسية التي سادت في البداية لم تستمر لأسباب نذكر منها:
(1) عقد مؤتمر حكومي تحت نفس العنوان "الحوار الوطني" ودعيت إليه أطراف كثيرة، ودارت نقاشات حول قضايا متعددة دون الوصول إلى نتائج محددة.. ولكن يبدو أن المؤتمر الرسمي ابتلع الجهود غير الرسمية، وغير الحكومية!!!
(2) خفوت حدة الصراع بين السلطة وجماعات العنف، وكأن الحوار يكون مطلوبًا في النوازل فقط، مرتبطًا بالوضع السياسي فحسب.
(3) الإفراط في التفاؤل، وعدم تحديد مستهدفات مرحلية تكون بمثابة محطات إنجاز يستثمر التراكم، ويشجع على المواصلة.
وما زالت التجربة مستمرة وتعقد لقاءات فكرية ومنتديات موسمية (خاصة في رمضان).
- تجربة الهيئة الإنجيلية - مصر:
"الهيئة الإنجيلية" هي من أكبر الجمعيات القبطية الاجتماعية العاملة في مجال النشاط الأهلي في مصر، وإضافة إلى برامجها التنموية في أنحاء البلاد بدأت الهيئة في نشاط يستهدف سبر أغوار وتغطية أبعاد فكرة "حوار الحضارات" عبر منتدى منبثق عن الهيئة، ويحمل هذا الاسم. وتنوعت أنشطة المنتدى بين المحاضرات والمؤتمرات، ولكننا هنا نقتصر على ذكر مشروع واحد من مشاريعها لأن فكرته بدت لنا جديدة وجيدة.
هذا المشروع يستهدف الوعاظ والدعاة في الكنائس والمساجد، يجمعهم معًا ليدرسوا قضية اجتماعية أو أسرية من وجهات نظر الأديان، ومن خلال ظروف الواقع الاجتماعي والثقافي والقانوني.. وتخرج نتائج هذه المدارسات في أوراق يشترك في مناقشتها جمع من المثقفين والأكاديميين والناشطين في مجال العمل الاجتماعي.
واللفتة الهامة في هذا المشروع أنه انتبه إلى دور الواعظ أو الداعية في المسجد أو الكنيسة بوصفه فاعلاً ثقافيًا مؤثرًا، وانتبه إلى أهمية تثقيفه وانفتاحه على روافد وميادين أوسع من مجرد معرفته بالنصوص والأحكام الدينية الخاصة بعقيدته ومجال عمله، ويجري هذا الانفتاح عبر القراءة والبحث، وعبر الاحتكاك المباشر أيضًا. وميزة أخرى لهذا المشروع أنه كسر احتكار العاصمة المزمن للأنشطة، ووصل إلى مختلف الأقاليم.. القريب منها والبعيد.
- تجربة الفريق العربي الإسلامي المسيحي للحوار:
وهي تجربة تركز على المنطقة العربية، والعلاقات بين المسلمين والمسيحيين فيها، وأبرز ما في خبرة هذا الفريق "حديث النشأة" أنه استند إلى خبرات أعضائه الثرية، فاجتنب الخوض في المسائل اللاهوتية، وتحاشى استهداف محاولات التقريب العقائدي، كما ابتعد عن التسييس، واعتمد أسلوبًا للتركيز وصل به إلى إنجاز ميثاق مكتوب لفلسفة وتوجهات الحوار من أجل العيش المشترك، ولكن من زاوية أخرى يعيب البعض على الفريق محدودية نطاق عمله جغرافيًا، ففي لحظة اختلطت فيها الأبعاد الإقليمية بالمحلية والدولية قد تكون محاولة إسقاط ما يحدث في العالم، والاقتصار على تجلياته على المستوى الإقليمي فقط نوعًا من الفصل المتعسف بين أمور هي متداخلة بطبيعتها، وطبيعة المرحلة.
ويحاول الفريق تنزيل أفكاره وتفعيلها على مستوى القواعد الشعبية عامة، والشبابية خاصة من خلال دوائر حوارية على مستوى الأقطار، أو تجمع عناصر من قطرين أو ثلاث، ونعتقد أن تقييم نجاح الفريق سيكون مرهونًا بقدرته على هذا التنزيل والتفعيل.
ويتبع >>>>>>: حوار الأديان.. أسئلة مشروعة وإجابات صعبة2
واقرأ أيضاً:
جحيم جنة رضوان / وصايا عشر في مواجهة الظلم والفقد