حوار الأديان.. أسئلة مشروعة وإجابات صعبة1
تجربة المنتدى العالمي للدين والسلام WCRP "تجربة الحوار من أعلى":
شارك الـWCRP بمجموعة من أبرز قياداته في ملتقى المنظمات غير الحكومية الذي انعقد بالتوازي مع مؤتمر الأمم المتحدة للسكان والتنمية ICPD في القاهرة – سبتمبر 1994، واستضاف وجوهاً مصرية على منصته، وفي أنشطته اليومية في الملتقى، كما شارك بعضهم في مؤتمره العام الذي ينعقد كل خمس سنوات، وانعقد في نفس العام 1994 في إيطاليا.
ويعد هذا المنتدى من أكبر الهيئات وأوسعها تمثيلاً للأديان، حيث يشمل تقريبًا كل الملل والنحل الشائعة، ويرأسه قيادة جماعية على شكل مجلس رئاسي أساسي وآخر مساعد، يراعى فيهما التمثيل المتوازن للديانات الكبرى "على الأقل" .. ويهتم المنتدى في عمله الميداني على مستوى الأقطار والأقاليم باستقطاب القيادات الرسمية والشعبية، الدينية والمدنية، وهنا تكمن قوته. ويعيب عليه البعض "النخبوية" في التوجه. ويهتم المنتدى بالشباب، ويقام لهم تمثيل خاص ضمن هياكله، وتنتشر فروع ومكاتب التمثيل في أكثر من سبعين دولة حول العالم، ليس من بينها أي دولة عربية – حتى الآن - رغم أن المؤتمر العام الأخير للمنتدى 1999 قد انعقد في عمان - الأردن، ورغم أن للمنتدى العديد من الأصدقاء، بل وأعضاء في المجلس الرئاسي من الشخصيات العربية والإسلامية المرموقة.
ويحاول المنتدى في السنوات الأخيرة تجاوز وضعه النخبوي بالتعاون في مشاريع أكثر شعبوية بتقديم الدعم المعنوي والبشري لها، ويحظى المجلس بعلاقات ممتازة مع الأمم المتحدة التي تحيل عليه العديد من القضايا ذات الطابع الديني للاطلاع والمشاركة، والتي تساهم في تشكيل قضاياه الحوارية، وبرامج مشاريعه.. ويحرص المنتدى على تمثيل كافة الأطياف المتنوعة في إطار الدين الواحد فضلاً عن الأديان المختلفة في القطر الواحد، ولذلك فهو يتمتع بمصداقية عالية لدى العديد من الهيئات العاملة في مجال الحوار.
- تجربة المجلس العالمي للمسيحيين واليهود ICCJ:
هذه مؤسسة أوروبية أمريكية بالأساس تعد نموذجًا لما ذكرناه من تصاعد الاهتمام بحوار الأديان عقب الحرب العالمية الثانية.
ومع بداية التسعينيات، ومع تزايد الاهتمام بظاهرة صعود الإسلام، وزيادة عدد أتباعه بالاعتناق أو بالهجرة – ذات المعدلات الكبرى - إلى أوروبا وأمريكا، بدأ المجلس في السعي قدمًا لإشراك المسلمين في حواراته على عدة مستويات:
أولاً: الحضور بصفة مراقبين ثم مشاركين – فيما بعد - في مؤتمره السنوي العام.
ثانيًا: تشكيل جناح من نفس المنظمة يتم فيه تمثيل الديانات الثلاث (الإسلام - المسيحية – اليهودية) تمثيلاً متساويًا في الهياكل وعدد المشاركين، واصطلح على تسميته بالمنتدى الإبراهيمي، وفكرته وتبلوره يكتسبان زخمًا متصاعدًا مع مرور الوقت وتوالي الأحداث.
ثالثًا: التفكير في عقد المؤتمر السنوي بالمنطقة العربية، وبحضور تمثيل كبير من العرب والمسلمين دفعًا لفكرة المنتدى الإبراهيمي، ولكن اشتعال المنطقة بأوضاع فلسطين المحتلة يبدو أنه سيظل حائلاً دون انعقاد المؤتمر السنوي في المنطقة إلا بترتيب يراعي الظروف القائمة على الأرض، ويمتلك الجسارة على أن يحدد منها موقفًا منصفًا.
وهناك انقسام كبير في صفوف وأروقة المجلس حول أهمية وحجم وسرعة إيقاع إشراك المسلمين في هياكله، وبخاصة في ظل توجسهم – أي المسلمين - من أعمال المجلس لأنه يضم يهودًا، أو لأنه فقط يطرح القضايا ذات الطابع الجغرافي الخاص بمشكلات الشمال، أو يعطيها اهتمامًا أكبر من قضايا بلدان ومجتمعات الجنوب.
- تجربة جمعية التسلح الخلقي:
وهذه الجمعية مثال حي آخر على الاهتمام بالحوار على أرضية الأديان والقيم في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وفي إطار جهود المصالحة والتقارب الاجتماعي والثقافي في أوروبا بعد الحرب نشأت فكرة التسلح الخلقي بأطروحة أساسية أن ما تحتاجه أوروبا من أسلحة ليس الجرثومي أو النووي، ولكن أسلحة الأخلاق والقيم.
وفي مبنى ضخم فوق قمة جبل من الجبال التي تطل على بحيرة جنيف، في منطقة أعلى بلدة "مونترو" ينعقد المؤتمر السنوي لهذه الجمعية كل صيف، ولمدة ستة أسابيع بحيث يكون لكل أسبوع قضية أو ملف يكون موضع تركيز، وفي هذا البيت الكبير يعيش المئات من شتى الأقطار والأعمار والمستويات الثقافية والاجتماعية في إطار ضوابط ذوقية، وقواعد وآداب تتسم بالمحافظة، ويتعارف الناس ويتكلمون عن قضاياهم الوطنية، وتجاربهم الذاتية، وحياتهم الروحية.
وتتناول النقاشات المختلفة كيفية تعظيم دور الأخلاق في السياسة كما في الإعلام، وفي عالم الأعمال كما في الحياة اليومية، ويتميز المناخ هناك بالتفاعل النشط بين الحاضرين الذين يخدم بعضهم بعضًا، وتتعاون وفود من أقطار مختلفة في إعداد الطعام وترتيب الغرف، ويدرسون مشاريع للتعاون المشترك في إطار الحوار المجتمعي أو الدبلوماسية الشعبية.. ويضم البرنامج قسمًا خاصًا للشباب يكون بمثابة دورة تدريبية تستمر شهرًا أو يزيد يتلقى فيها الحاضرون من الطلاب والطالبات دروسًا متخصصة تجمع بين علم النفس، والفنون، وبعض مهارات الاتصال والقيادة، وأساليب حل النزاعات والتفاوض. ورغم النشاط الملحوظ لهذه الجمعية في بلدان الشمال فما زال وجودها ضعيفًا في عالم الجنوب، ربما لما ينطلق بحقها من شائعات تربطها.. بالماسونية (!!) رغم أن موقفها الداعم للحق الفلسطيني وتقاريرها ونشاطها في هذا الصدد واضح ومتميز.
- تجربة الحوار العربي/الأوروبي الشعبي - " تجربة الحوار من أسفل":
في أعقاب غزو العراق للكويت، وحضور قوات التحالف إلى المنطقة ثم ما حدث من ضرب للعراق، وتداعيات هذه الأزمة، ارتفعت أصوات بضرورة اقتحام حقول الألغام الممتدة على الحدود الثقافية بين العرب والغرب، وتحمست للفكرة مجموعة من المؤسسات الكنسية الهولندية ليبدأ عمل حوارات عربية - أوروبية تتعامل مباشرة مع المهاجرين العرب في هولندا وغيرها، وبخاصة الأجيال الصغرى، ثم امتدت هذه الحوارات للمنطقة العربية فانعقدت بعض دوائرها في تونس، والمغرب، ومصر، وفلسطين.
ورغم أن التركيز الأكبر في تلك الحوارات يكون على العناصر الشبابية، فإن الكبار أيضًا يحضرون للقيام بدور المساندة والدعم، ونقل الخبرات. ولم تستطع هذه التجربة أن تتجاهل موقعها وسط أوروبا فتدخلت بأساليب متنوعة في أزمات البلقان سواء في حروب البوسنة أو كوسوفا بعد ذلك.
وتشجع هذه التجربة التعارف بين الثقافات والأديان، ومن أمثلة مشاريعها في هذا الصدد ما قامت به بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين من خلال زيارات متبادلة للأماكن المقدسة ودور العبادة، وشرح ميداني لأهمية وقيمة هذه الأماكن لدى أتباع كل دين، وتاريخ البقاع المقدسة المهمة لدى المسلمين والمسيحيين.
* نقلات لازمة:
هناك تردد شديد – وبخاصة في صفوف المسلمين - وتحفظات كثيرة بشأن الاهتمام بحوار الأديان، والدخول في أنشطته ودوائره، وأغلب التحفظات مبنية على أساس إدراك يحتاج إلى إعادة نظر في حد ذاته.. فهم ينظرون إلى الغربيين مثلاً بوصفهم "أهل الكتاب" الذين تحدث القرآن في مواضع عن عداوتهم للمسلمين، وبأن الحوار معهم لا طائل من ورائه، وأن الإسلام بوصفه الدين الحق لا يحتاج إلى الحوار مع أهل الباطل إلا إذا اعترفوا به، وسلموا له... إلخ، وهذا منطق خاطئ وإدراك معيب أصلاً يتجاهل آيات قرآنية تدعو للجدل بالحسنى، ويُسقط التاريخَ من حساباته فيتخبط في رؤية الواقع ويتسرع في إصدار أحكام على أسس خاطئة.
ففي التطور التاريخي الغربي تخلصت أوروبا من سلطان الكنيسة الدنيوي/ الزماني، وفصلت بين الكنيسة والدولة، وتدريجيًا تخلصت من سلطان الكنيسة الديني نفسه فذهبت تبحث عن عقيدة ودين خارج أسوار الكنيسة التي رأتها عالية، وخارج عباءة القساوسة التي رأتها ضيقة... أديان الكنائس التقليدية لا يعتنقها اليوم أغلب الناس، فضلاً عن انتشار الفرق والطوائف، والانقسامات التي تقيم كل واحدة لنفسها كنيستها الخاصة بها، أو لا تقيم كنيسة من الأساس، وهناك حركة هجرة وعزوف عن التيارات الكنسية الأساسية تاريخيًا إلى أفكار ومعتقدات بعضها يتضمن تركيبًا من عقائد تنتمي إلى أديان مختلفة، وقد تسمع عن جماعات دينية تبحث عن حنيفية إبراهيم، أو عقيدة نوح أو غير ذلك.
هناك حركة دائبة للبحث والمراجعة والتقليب والنقاش ترتكز على أهمية مبدئية للدين، ولكنها تضرب في كل اتجاه بحثًا عن الحق، وفي نفس الوقت يصرّ العديد من المسلمين على إدراك ناقص مشوه لكثير من أفكار ودوائر الحوار بوصفها وجها من وجوه المؤامرة التي تستهدف الإسلام.. ويتعاملون معها بكثير من القوالب اللفظية التي تعودنا على قراءتها وسماعها من قبيل "الاختراق" و"الدسائس".
الدين بالمفهوم الذي نعرفه ونعيشه ذهب من حياة ملايين البشر حول العالم، وهم اليوم يبحثون عن روحانية قد تتجلى في الفنون، أو علوم النفس، أو الغيبيات، ويبحثون عن طقوس عبادية تريحهم من عناء المادية القاسية التي تسحقهم سحقًا، ويبحثون عن اجتماع مع آخرين على حدود معقولة من القيم والمعالم الأخلاقية والسلوكية، والترابط الأسري والاجتماعي... وهذا كله يجد تعبيراته السياسية في المجتمعات التي تنتخب ممثليها، وتصنع فيها الناس برامج أحزابها، وكثير من المسلمين لا يرى الصورة بمجملها، ولكنه قد يرى موقفًا أخلاقيًا محافظًا – من قضية بعينها - يتبناه فريق أو تقول به جماعة ضغط معينة فيحسب أن هؤلاء أقرب لموقف الإسلام والمسلمين على طول الخط، والأمر أعقد من هذا بكثير، ولكن أغلبنا لا يعلم هذا ولا يستوعبه.
ويتبع >>>>>>: حوار الأديان.. أسئلة مشروعة وإجابات صعبة3
واقرأ أيضاً:
جحيم جنة رضوان ... / وصايا عشر في مواجهة الظلم والفقد