لماذا الوسواس القهري أسباب الوسوسة القهرية4
بعد ما يقارب العقدين من الزمن، أستكمل ما كنت بدأت الكتابة عنه في 4 مقالات عن الأسباب العلمية المفترضة لاضطراب الوسواس القهري كنت نشرتها على مجانين آخذا عن كتابي الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، والحقيقة أنني وكل جيلي وسابقيه من الأطباء النفسانيين عاصرنا على مر العقود الثلاثة الأخيرة (وسواء بالنسبة للوسواس القهري أو غيره) كيف تغيرت الإمراضية النفسانية النفس حركية Psychodynamic Psychopathology والتي كانت دائما نفسحركية تأملية Contemplative Psychodynamic لتصبح نفس/فسيولوجية حيوية مسندة Evidence Based Psychophysiological بتلال من دراسات العلوم العصب/نفسية والعصب/فسيولوجية والنفس/فسيولوجية ودراسات تصوير المخ الوظيفي، كل هذا التطور الذي عاصره الجميع ربما ساعد في فك كثير من الأسرار في الطب النفساني، لكن معرفة السبب المحدد لاضطراب الوسواس القهري ما تزال بعيدة، وذلك رغم وجود العديد من النظريات العلمية التي تبدو كل منها متسقة مع قطاع من مرضى الوسواس القهري لكنها لا تفسر كل شيء، وسأحاول في هذه المقالة أن أعرض بإيجازٍ بعضا من تلك النظريات.
نظرية العادة Habit Hypothesis: يرى أصحابها الوسواس القهري اضطرابا في السلوك الهادف مقابل السلوك المبني على العادة، بناء على خلل في وظيفة الجسم المخطط (Graybiel and Rauch, 2000) أو في المسار العصبي بين القشرة الجبهية والنوى القاعدية وهي الدوائر العصبية المسؤولة عن العادات والسلوكيات الآلية، فمحتمل في الوسواس القهري والاضطرابات ذات الصلة أن هذه الدوائر العصبية تصبح مفرطة النشاط أو لا تصلها إشارة التوقف . وتحتل النوى القاعدية والمسارات بينها وبين المهاد وقشرة المخ مكانا مركزيا في هذه النظرية، وربما تساعد المسارات بين القشرة المخية الحديثة (الجبهية) والنوى القاعدية ثم إلى المهاد والعودة إلى القشرة الجبهية في تأسيس عادات معرفية، تمامًا كما تساعد على تطور العادات الحركية (Graybiel ، 1997). وهو ما يعني أن الخلل الوظيفي في الحلقة من القشرة الجبهية والنوى القاعدية في الوسواس القهري يمكن أن يعكس كلا جانبي وظيفة النوى القاعدية، الحركية والمعرفية، لإحداث أفعال متكررة (قهور) وأفكار متكررة (وساوس).
نظرية اضطراب اتخاذ القرار، نظرا لتقاطع دائرة اتخاذ القرار العصبية مع حلقة الوسواس القهري ق.م.م.ق (Sachdev & Malhi, 2005) في كل من القشرة الحجاجية (المدارية) والقشرة الحزامية والنوى القاعدية ولذلك نجد في اضطراب الوسواس القهري وغيره من اضطرابات طيف الوسواس، أن اتخاذ بعض القرارات يمثل عبءً انفعاليا غير طبيعي، بسبب النشاط غير الطبيعي في القشرة الجبهية المدارية أو الحجاجية، والذي يؤدي إلى تنشيط غير طبيعي للقشرة الحزامية الأمامية ويمنع الفرد من اتخاذ قرار سريع أو آلي. وينتهي الأمر بالفرد في حلقة مفرغة حيث يزيد القلق بشأن اتخاذ القرار من تنشيط القشرة الحجاجية الجبهية بما يجعل اتخاذ القرار أصعب بشكل متزايد. وأما القشرة الجبهية الظهرية الوحشية "ق.ج.ظ.و" وهي جزء من حلقة اتخاذ القرار، فلها دور في الوظيفة التنفيذية التي تنهي القهور أو الأفعال القهرية وهي عملية تبدأ باتخاذ القرار وتستمر بالإصرار عليه (أي عدم التردد). كذلك فإن القشرة الحزامية الأمامية مهمة في إحداث الشعور بانغلاق الموضوع الفكري أو الفعلي لاتخاذ قرار الإغلاق في حالات الشك أو "ل.ت.ش" أو الصراع بين البدائل .
نظرية اضطراب الانتباه (Levy, 2018) ترى هذه النظرية أن اضطراب الوسواس القهري يتضمن بشكل مركزي انتباهًا متزايدًا ومركّزًا بشكل مختل وظيفيًا على التمثيلات الحسية والحركية التي لا يراقبها الإنسان عادة، ونظرًا لأن هذه التمثيلات تحتوي على محتويات تتنبأ بالنتائج الكارثية، فإن المرضى يميلون إلى الانخراط في السلوكيات والطقوس العقلية المصممة لإحباط هذه النتائج أو لإنتاج معلومات أكثر دقة. تؤدي نفس التمثيلات أيضًا إلى السمات المعرفية المميزة للمصابين، إذ يؤدي الوعي المتزايد بمحتويات التمثيلات الحسية والحركية إلى حدوث الاضطراب وإلى تطور الخصائص المعرفية ووراء المعرفية التي تعتبرها النظرية المعرفية سببا لحدوث الوسواس القهري. وأخيرا هناك ما يشير إلى تتالي أو تواكب اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة واضطراب الوسواس القهري.
نظرية اضطراب التكامل الحسي الحركي (Russo, et al., 2014)
يمكن اعتبار الوسواس القهري بمثابة اضطراب حسي حركي حيث يفترض أن خللا في التكامل الحسي الحركي يلعب دورًا مهمًا في إحداث الأعراض المرضية للوسواس، يتمثل في نقص التحكم القشري المثبط للناتج الحركي القادم من الهياكل تحت القشرية مثل النوى القاعدية والمهاد، والتي توصف بأنها "مفرطة النشاط" في مرضى الوسواس القهري وجدت دراسات الحث المغناطيسي عبر الدماغ شذوذًا في تعسير (أو تثبيط) وفي تيسير عمل الخلايا العصبية داخل المنطقة الحركية الأولية في القشرة المخية، في حالات متلازمة توريت، وحالات الوسواس القهري مثلما مثلا في خلل التوتر العضلي البؤري Focal Dystonia وكان ذلك الشذوذ أشد ما يكون في حالات تواكب الوسواس مع اضطراب العرات (توريت) لكنه يبقى موجودا كذلك في حالات الوسواس القهري غير المواكبة بالعرّات، وتبقى هذه النظرية محاولة لتفسير آلية حدوث القهور أكثر مما تشرح غيرها من أعراض الوسواس.
اضطراب الوظائف التنفيذية:
لا يمكن اعتبار مثل هذه النظرية خاصة بالوسواس القهري لأن اضطراب الوظائف التنفيذية يحدث أيضًا في اضطرابات القلق واضطراب الاكتئاب، والفصام، وثنائي القطب، والاضطراب الذاتوي، واضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة ا.ن.ا.ف.ح واضطراب توريت...إلخ ولم تفلح الدراسات حتى الآن في العثور على نمط معين متفق عليه لأداء الوظائف التنفيذية في مرضى الوسواس القهري فهناك دراسات أظهرت خللا لدى المرضى في ضبط التحول والتحكم المثبط وذاكرة العمل وقدرة التخطيط. (Youssef et al., 2020) في حين أظهر مرضى الوسواس القهري ضعف ذاكرة العمل المكانية، وسرعة بدء وتنفيذ الحركة، والتعرف المكاني (Purcell et al., 1998) ثم اتضح بعد ذلك أن الأفراد الذين يعانون من الوسواس القهري يعانون من ضعف في المهام التي تقيس معظم جوانب الوظائف التنفيذية، بما يتفق مع ضعف واسع في الوظائف التنفيذية، ويكون ذلك الضعف أوضح في ضعيفي أو عديمي الاستبصار من مرضى الوسواس القهري (Manarte et al., 2021) لكن اضطراب الوظائف التنفيذية ليس فقط عاملا مشتركا في اضطرابات مختلفة وإنما لا يكفي لتفسير كل أعراض الوسواس القهري.
اضطراب الحس الداخلي:
يُعرَّف الإدراك أو الحس الداخلي بأنه استقبال ومعالجة الإشارات الجسدية الداخلية وتكاملها وتفسيرها، وقد أجريت أبحاث كثيرة عبر ما يزيد عن القرن الآن، في كيفية معالجة الدماغ للإشارات القادمة من الجسد .(الحس الداخلي) وكيف يمكن أن تتعطل هذه المعالجة في مرضى الاضطرابات النفسانية. وتظهر الأدبيات التي تدرس العلاقة بين الإدراك الداخلي والعمليات العاطفية والمعرفية، كثيرا من الأدلة التي تشير إلى أن مرضى اضطرابات القلق واضطرابات طيف الوسواس القهري يتسمون بإدراك داخلي غير طبيعي. واتضحت كذلك معالم شبكة من مناطق الدماغ القشرية وتحت القشرية المتمركزة في منطقة الجزيرة تعتبر هي المسؤولة عن الحس الداخلي وتعمل بشكل غير طبيعي في هؤلاء المرضى. بما يدعم أدلة النظرية القائلة بأن خلل الوعي أو الحساسية للأحاسيس من الجسد (أي الحس الداخلي) هي سمة أساسية لاضطرابات القلق والوسواس القهري... وتشير نتائج سلسلة من الدراسات إلى أن أداء مرضى الوسواس القهري ضعيف في المهام التي تتطلب التركيز على المشاعر أو الحالات الذاتية الداخلية، مقارنةً بالأصحاء وبغيرهم من مرضى القلق، وسوف نفرد مقالا خاصا لعلاقة مريض الوسواس القهري بحسه الداخلي نظرا لأهميته وكونه يجيب على أسئلة مهمة ظلت كثيرا بلا إجابات مقنعة.
وأخيرا تبين دراسات استثارة أعراض الوسواس القهري مع تصوير الدماغ الوظيفي تداخلا لا لبس فيه بين الدوائر العصبية المتهمة في الوسواس القهري ودوائر تمثيل كل من: عاطفة التقزز (القرف، الاشمئزاز) Disgust، وعاطفة أو حالة الشعور بالذنب الأخلاقي. Deontological Guilt، والظواهر الحسية Sensory Phenomena في مرضى الطيف الوسواسي، وكذلك حواث الفعل Urges for Action في مرضى الاضطرابات القهرية (Jaspers-Fayer, et al. 2019)، ودائرة اتخاذ القرار يشترك معها في (القشرة الحجاجية والقشرة الحزامية والنوى القاعدية) كما أشرنا أعلاه.
وبقيت ما تزال أسئلة بلا إجابات نهائية مثل، هل ما يعاني منه مريض الوسواس هو لا تحمل الشك ل.ت.ش أم أنه يشك بالفعل أكثر من الإنسان الطبيعي؟ ولماذا يشك أكثر من الإنسان الطبيعي؟ ومثل لماذا يسأل مريض الوسواس أسئلة هو الأعرف بردها منطقيا من المسؤول؟!! ولماذا تحتل الأمور الدينية حيزا كبيرا من الأعراض؟ هل لأنها طقوس بطبيعتها؟ أم لأهمية الدين على المستوى الشخصي؟ وأيضًا لماذا يفرط المريض في شعور الذنب/الخوف من الذنب؟ ولماذا يعتنق المريض معايير دينية أو أخلاقية صارمة؟ هل بسبب المعايير الدينية المتشددة؟ أم بسبب تميزه بفرط الحساسية للشعور بالذنب/ الخطأ/ السوء؟؟
المراجع:
1- Graybiel, A.M., and Rauch, S.L. (2000). Toward a neurobiology of OCD. Neuron 28, 343–347.
2- Graybiel, A.M. (1997). The basal ganglia and cognitive pattern generators. Schizophr. Bull. 23, 459–469.
3- Sachdev PS. and Malhi GS (2005). Obsessive–compulsive behavior: a disorder of decision-making. Australian and New Zealand Journal of Psychiatry 2005; 39:757–763
4- Levy N (2018). Obsessive-compulsive disorder as a disorder of attention. Mind & Language. 2018;33:3–16.
5- Russo M, Naro A, Mastroeni C, Morgante F, Terranova C, Muscatello M.R., Zoccali R, Calabrò R.S. & Quartarone A. (2014). Obsessive-compulsive disorder: A “sensory-motor” problem?. International Journal of Psychophysiology 92 (2014) 74–78
6- Graybiel, A.M., and Rauch, S.L. (2000). Toward a neurobiology of obsessive-compulsive disorder. Neuron 28, 343–347.
7- Youssef, AM, Abouhendy w., Elshabrawy A. & Amin SI (2020). Executive function in obsessive compulsive disorder at Zagazig University Hospitals: a case-control study Middle East Current Psychiatry volume 27, Article number: 27 (2020)
8- Purcell R, Maruff P, Kyrios M, Pantelis C. Neuropsychological Deficits in Obsessive-compulsive Disorder: A Comparison with Unipolar Depression, Panic Disorder, and Normal Controls. Arch Gen Psychiatry. 1998;55(5):415–423. doi:10.1001/archpsyc.55.5.415
9- Manarte, L., Andrade, A.R., do Rosário, L. et al. Executive functions and insight in OCD: a comparative study. BMC Psychiatry 21, 216 (2021).
10- Schultchen D, Zaudii M, Krausenec. T, Berberich G,Pollatou Q (2019). Interoceptive deficits in patients with OCD in the time course of CBT. PLoS ONG 14(5)e02172370 https://doi.org/10.1371/journal.pone.0217239
11- Jaspers-Fayer F., Lina SY., Chana E., Ellwyn R., Lima R. et al. (2019). Neural correlates of symptom provocation in pediatric obsessive-compulsive disorder. NeuroImage: Clinical 24 (2019) 102034
12- Radomsky, A. S., Gilchrist, P. T., & Dussault, D. (2006). Repeated checking really does cause memory distrust. Behavior Research and Therapy, 44, 305-316.
اقرأ أيضاً:
التواكب المرضي بين الوسواس القهري والاكتئاب2 / مجانين والعلاج بالتواصل النصي