نقدم في هذه المقالة شرحا لواحدة من طرق الفهم الحديثة للآلية الشعورية المعرفية التي تصف ما يحدث لمريض الوسواس القهري، وهي نظرية عمه الدواخل ويمكننا تلخيصها بوجود صعوبة خاصة لدى مريض الوسواس القهري تحول بينه وبين الوصول السهل الواثق لمعطياته الداخلية، لمشاعره ذكرياته نواياه وبالأحرى لأي هدفٍ في دواخله، (وكأن لدى الحاسوب صعوبة في قراءة بعض أجزاء القرص الصلب)، وهذه النظرية تفسر برأينا كثيرا من الخبرات التي وصفها واحتار في تفسيرها المهتمون باضطراب الوسواس القهري، وأول تلك الخبرات هو الشك الوسواسي (أي شك الشخص في خبراته أو قراراته الشخصية، ومنه التردد الوسواسي) وهي الخبرة الأقدم ارتباطا بالوسواس في الأدبيات والأكثر شهرة، وثانيها هو خبرة عدم الاكتمال Incompleteness أو لا اكتمال الفعل أو الخبرة وهي الأحدث ارتباطا بالوسواس في الأدبيات البحثية والأكثر إلغازا والأقل شهرة ما تزال لدى الأطباء رغم أهميتها وشراكتها بين اضطرابات طيف الوسواس القهري، وأما الخبرة الثالثة فتتعلق بالخلل في إدراك الفاعلية الشخصية Personal Agency أو وكالة الفعل والقابلية العالية للانخداع، وهذه ملاحظة سريرية في بعض مرضى الوسواس ربما ذوي القابلية العالية للانفصال ما تزال بمثابة نقطة بحثية جديدة، هذه الخبرات أو الظواهر الثلاث تفسرها نظرية عمه الدواخل في مريض الوسواس القهري، ولعل التأمل في تلك الخبرات يقود إلى فهم "نظرية عمه الدواخل" في مريض الوسواس القهري، وهي النظرية الأولى التي أمكنها تفسير الخبرات الثلاث ببساطة، وإن كان تفسيرا جزئيا كما سنوضح في الجزء الثالث من المقالة.
الشك الوسواسي:
الشك أو عدم الثقة يمكن أن يكون شعورا إنسانيا طبيعيا في كثير من المواقف في حياة الإنسان، لكن الشك في المريض النفساني يمكن أن يأخذ شكل الشك الوسواسي أو الشك الزوراني (أي شك الشخص في آخرين) والذي تتعلق الشكوك فيه بعلاقة الشخص بآخر أو آخرين بمدى حبهم أو كرههم له مدى إخلاصهم وولائهم مقابل مدى تآمرهم عليه ..إلخ فهذا النوع الزوراني تبدو أفكاره معتادة الورود على وعي غالب الناس في ظروف معينة لكنهم لا يصدقونها ولا تصبح أفكارا وهامية، بينما يتميز بعض الشك الوسواسي بغرابته عن خبرة الشك الطبيعية إذ يتعلق الشك بأفعال أو أقوال الإنسان نفسه أو خبراته هو الشخصية، والواقع أن خبرة شك الشخص في معرفته بما في داخله بالضرورة ليست معتادة في غير الموسوسين، وتعتبر الشكوك الوسواسية المستمرة إحدى أهم السمات الأساسية لاضطراب الوسواس القهري، ونجدها ضمن الاستعمالات المختلفة لكلمة وسواس في الناطقين بالعربية تستخدم بمعنى الشك (سواءً الشك الزوراني أو الشك الوسواسي)، كما تشيع تسمية اضطراب الوسواس القهري بـ"مرض الشك" في الإنجليزية Doubting Disease بما يشير إلى كون الشك المفرط في مريض الوسواس القهري واضحا منبئًا عن نفسه.
بوضوح وسهولة تستطيع الشكوك الوسواسية أن تؤدي بالمريض إلى مجموعة متنوعة من السلوكيات المرضية المتعلقة بالوسواس القهري مثل التحقق أو الفحص المتكرر وغسل اليدين المفرط وإعادة البناء الذهني المستمر (سيناريوهات) للأحداث، وفرط المراقبة الذاتية والتحقق المرهق في أمور الصحة البدنية أو الأمور الدينية و/أو غيرها إضافة إلى فرط طلب الطمأنة من البيئة المباشرة للفرد.... في كل هذه الأحوال نجد الشك بمثابة الوقود المستمر الضامن لاستمرار الأعراض المرضية، وقد تم بالدراسة العلمية إثبات دور الشك (فقدان الثقة) في مرضى الوسواس القهري فيما يتعلق بالعديد من الوظائف المعرفية التي تتراوح من الذاكرة إلى الانتباه والإدراك، أي أن هناك اعترافا بدور الشك المركزي في الوسواس القهري في كل من النظريات المبكرة والحديثة.
ورغم كون الشك قاسما مشتركا في كل عروض الوسواس إلا أنه أوضح ما يكون في عرض و.ش.ت.ق أي وسواس الشك التحقق القهري، ولذا اهتمت المحاولات العلمية المبكرة لدراسة الشك في مرضى الوسواس القهري خاصة بمرضى التحقق القهري، وركزت الأبحاث طويلا على فحص العجز في الذاكرة باعتباره سببا للشك. وأجريت دراسات عديدة للذاكرة اللفظية وغير اللفظية وللوظائف التنفيذية العليا وحاولت الدراسات العثور على حالات خلل الذاكرة المرتبطة بالوسواس القهري مثل التمييز بين الأعمال التي تم تنفيذها (أو الكلمات التي تمت رؤيتها) والأحداث المتخيلة (أو الكلمات) واستخدمت الاختبارات العصبنفسية لتقييم العجز في الذاكرة العامة في اضطراب الوسواس القهري وأدى كل ذلك إلى نتائج متفاوتة بعيدة عن التناسق (Geisberg & McKay, 2003) كما أخفقت دراسات عديدة في العثور على عجز معرفي مرتبط بمرضى الوسواس القهري في التمييز بين الأعمال المنفذة (أو الكلمات المرئية) والأحداث المتخيلة (أو الكلمات) (Constans et al., 1995) ... ثم بعد عقود من البحث انتهى الأمر إلى عدم وجود خلل في ذاكرة مريض الوسواس القهري، كذلك لم يكن مرضى الوسواس القهري
ظاهرة اللا اكتمال وإ.ل.ص.ت: الحائل الوسواسي:
من ناحية أخرى ارتبطت أعراض الوسواس القهري بظاهرة اللا اكتمال أو عدم الشعور بالاكتمال فيما نصف المرضى، وكانت هناك محاولات عديدة لتفسير الظاهرة على المستوى الشعوري والمعرفي وقدم المهتمون تفسيرات أو بالأدق تسميات عديدة يظهرها الجدول أدناه لعل أشهرها إ.ل.ص.ت (إدراكات ليس صحيح تماما)، وكنت أراه شعورا شخصيا بأن شيئا ما يفصل المريض عن الشعور بالوصول لما يريد داخله (انفصال Dissociation) هذه كانت رؤيتي الشخصية بناء على خبرتي وأول ما لاحظت ذلك كان في مرضى اختلال الإنية. ثم بدأت ألاحظ وجوده في أغلب مرضى الوسواس، وكنت لهذا قد اعتدت أن أقول لمن أعالج من مرضى الوسواس (من 2004 فصاعدا) عندما تريد استبطان شعور أنت تريده لتطمئن نفسك كإحساسك بالإيمان أو بتذكر أنك لم تطلق زوجتك، فإن الوسواس يحول بينك وبين ما تود الوصول إليه، تخيل الوسواس حائلا أو يضع حائلا بينك وبين ما تسأل عقلك عنه... كذلك كنت في التصور الأول لهذا الفهم أرى أن الحائل الوسواسي متغير الثقوب فهو أحيانا مغلق تماما فلا تجد ما تحاول استبطانه وأحيانا مثقوب تجد ما تطلبه لكن شيئا ما يجعلك تشك فيه، وأحيانا تفاجئ بمرة تجد الشعور موجودا كأن لم يتغير... والنصيحة هي التوقف قدر الإمكان عن محاولة الاستبطان في كل ما يخص موضوع الوسواس لأنه لا يؤتي إلا شكا من بعد شك، وعدم التمادي فيه بمجرد انتباه المريض إلى أن الوسواس يحاول أخذه إلى فخ تفتيش الدواخل، وكنت أعتبر الحائل الوسواسي نوعا من الانفصال خاصا بالموسوسين ومختلي الإنية وسميته آنذاك الحائل الوسواسي والانفصال الوسواسي وكنت أنهى مريضي عن التفتيش في أحاسيسه الداخلية أو نيته أو ذاكرته قائلا كأنك قعدت في حُجر الوسواس أو أصبحت في مرمى الوسواس لأن محاولات التفتيش تلك لن تكن تزيده إلا شكا وارتباكا، وكانت تلك الملاحظة سببا في استلهام استعارة القطار لعلاج وساوس الصلاة والوضوء.
الباحثون | التفسير أو التسمية |
(Pitman, 1989) | العجز عن الشعور باكتمال المهمة Lack of Task Completion |
(Leckman, et al 1994) | إدراكات أو خبرات ليس صحيحا تماما أو أن الأداء "فقط ليس كما يجب” أو ”ليس كافيا” «إ.ل.ص.ت» NJREs |
(Mangan, 2001) | العجز عن الشعور بالصواب Lack of Rightness |
(Coles et al, 2003) | شعور شخصي بأن شيئا ما ليس كما يجب أن يكون |
(Szechtman & Woody, 2004) | خلل الشعور بالمعرفة Feeling of Knowing بإتمام المهمة وصولا للأمان |
وكنت في البداية أظن أن صعوبة الوصول لما يريده المريض داخله قاصرة على موضوع وسواسه وأن السبب هو حالة الوسوسة، ثم اتضح أن الأمر ربما أعم من ذلك، أي ليس فقط مقتصرا على موضوع الوسوسة، ويلاحظ سريريا في كثير من الأحيان أن مرضى الوسواس القهري وذوي اضطراب الشخصية القسرية، بل وذوي السمات الوسواسية المرتفعة يعانون من صعوبة في قراءة دواخلهم أو حالاتهم الداخلية بشكل عام، إذ تتسم إدراكاتهم لها دائما بعدم الاقتناع، أو عدم الثقة، أو عدم صحة، أو اكتمال الخبرة، أو الفعل، بشكل أو بآخر وهو مما يوقعهم في فخ طلب الطمأنة أو تكرار الفعل أو السؤال، أي أن صعوبة الوصول إلى الدواخل ليس حالة عابرة في مريض الوسواس القهري بقدر ما هو سمة دائمة ومشتركة بين مرضى اضطرابات الطيف الوسواسي.
وأخيرا فقد بينت دراسات الفسيولوجيا العصبية أن ما يسمى بموجات السلبية للخطأ Error Related N egativity الكثيفة في رسم المخ تكاد تكون ميزةً أو نمطا داخليا للوسواس القهري (Schmidt et al., 2021)، وهذه الموجات ربما تؤدي إلى حدوث إشارات خطأ متكررة قد تكون سببا في إشعار المريض بالشك أو اللا اكتمال وإ.ل.ص.ت وسببا في التردد الوسواسي والتكرار وربما الحساسية المفرطة للأخطاء ...إلخ، وتنتج هذه الموجات عن الفعالية غير المنضبطة للوصلات العصبية الجبهية المخططية Frontostraiatal Connections وهي الدائرة العصبية المتورطة في الوسواس القهري، وربما يعكس ذلك نشاط القشرة الحزامية الأمامية Anterior Cingulate Cortex والتي تنشط خاصة عند العجز عن الوصول إلى اليقين بشأن أمر ما أو قرار ما أو عندما يتعلق الأمر بصراع ما فإن القشرة الحزامية تراقب وتسمح أو لا تسمح باتخاذ القرار فتصدر إشارات خطأ (Sachdev & Malhi, 2005)، وهي لذلك مهمة في إحداث الشعور بانغلاق الموضوع الفكري أو الفعلي، وأحاسيس عدم الاكتمال وإ.ل.ص.ت يمكن أن تفهم كلها في إطار عدم الشعور بالانغلاق إما لعدم الصحة أو عدم الاكتمال، فهل تكفي هذه الموجات لتفسير الشك والحائل الوسواسي؟.
المراجع:
1- Geisberg, S., & McKay, D. (2003). Neuropsychology of obsessive-compulsive disorder: a review and treatment implications. Clinical Psychology Review, 23, 95-117.
2- Constans, J.I., Foa, E.B., Franklin, M.E., & Mathews, A. (1995). Memory for actual and imagined events in OC checkers. Behaviour Research and Therapy, 33, 665-671.
3- Pitman, R.K. (1987). Pierre Janet on OCD (1903). Archives of General Psychiatry, 44, 226–232.
4- Leckman, J.F., Walker, D.E. Goodman, W.K., Pauls, D.L., & Cohen, D.J. (1994). “Just right” perceptions associated with compulsive behavior in Tourette’s syndrome. American JP, 151, 675– 680.
5- Mangan, B. (2001). Sensation's ghost: The non-sensory "fringe" of consciousness. PSYCHE, 7(181- ).http://psyche.cs.monash.edu.au/v7/psyche-7-18-mangan.html.
6- Coles, M.E., Frost, R.O., Heimberg, R.G., & Rhéaume, J. (2003). “Not just right experiences”: Perfectionism, obsessive–compulsive features and general psychopathology. Behavior Research and Therapy, 41, 681–700.
7- Szechtman H, Woody E. (2004). OCD as a disturbance of security motivation. Psychological Review, 111 (1), 111-27.
8- Schmidt S, Wagner G, Walter M, Stenner MP. (2021).A Psychophysical Window onto the Subjective Experience of Compulsion. Brain Sci. 2021 Feb 2;11(2):182. doi: 10.3390/brainsci11020182. PMID: 33540916; PMCID: PMC7913241.
9- Sachdev PS. and Malhi GS (2005). Obsessive–compulsive behaviour: a disorder of decision-making. Australian and New Zealand Journal of Psychiatry 2005; 39:757–763.
ويتبع>>>>>>: الوسواس القهري: الشك وعمه الدواخل2
اقرأ أيضاً:
التواكب المرضي بين الوسواس القهري والاكتئاب2 / لماذا الوسواس القهري أسباب الوسوسة القهرية5