يعتبر اضطراب الوسواس القهري من أكثر الاضطرابات النفسانية تميزا بطيف شاسع من الأعراض السريرية المختلفة وغير المتجانسة، فرغم ثبات محكات التشخيص الأساسية وهي الوساوس Obsessions والقهور Compulsions إلا أن المحتوى السريري للأعراض يختلف اختلافات كبيرة كما يختلف معنى ودوافع نفس الأعراض من مريض لآخر، ويختلف بشكل واسع كذلك تفاعل الأعراض مع حياة المريض وذويه، وربما كان هذا أحد أسباب محاولات تقسيمه القديمة الحديثة كما قدمنا لذلك في مقالنا: هل هناك أنواع من اضطراب الوسواس القهري؟، ولعل العالم المسلم أبو زيد البَلْخِي (235 - 322 هـ / 849 - 934 م) هو أول من أشار في مصالح الأبدان والأنفس، إلى وجود أنواع من مرضى الوسواس القهري، وقد عرضنا جزءً من ذلك في مقالَي: طيف الوسواس القهري: وساوس الخوف والريبة وطيف الوسواس القهري: وساوسُ الحب والرغبة.. ومنذ القرن التاسع حتى يومنا هذا لم يتم التوصل لإجابة تقنع الجميع.
الغرض من هذه المقالة القصيرة ليس أن نقسم اضطراب الوسواس القهري إلى أنواع وإنما الغرض هو أن أضع البنى الرئيسية للعروض السريرية للوسواس، ورغم أن التقسيم على أساس نوعية الأعراض الموجودة هو واحد من طرق تصنيف الوسواس القهري إلى أنواع، إلا أن الواقع السريري يشير إلى أن هذه العروض السريرية ليست متنافية مع بعضها البعض أي أن وجود أحد العروض في المريض لا ينفي وجود عرْض آخر وربما أكثر، في نفس الوقت أو في أوقات مختلفة في نفس المريض، وهي بالتالي ليست أنواعا من الاضطراب وإنما طرق عرْض مختلفة لنفس الاضطراب، ويمكن بالضغط على العناوين أدناه الحصول على شرح مفصل لكل عرض من العروض، وتسمية العروض الأربعة المدرجة هنا هي تسمية وصفية تتكون من إشارة للوسواس وإشارة للقهر الأشهر ارتباطا به كما سنرى، فأما الأول و.ت.غ.ق والثاني و.ش.ت.ق فيقابلان اثنين من أربعة أنواع وصفها ليكمان (Leckman et al,1997) باستخدام التحليل العاملي لأعراض عينتين من مرضى الوسواس القهري (1-شك وسواسي فتحقق، 2-تلوث فغسل، 3-تماثل تناظر فترتيب وتنسيق، 4-اكتناز أو تكديس) وأما العرْضان الثالث والرابع فهما طبقا لرؤيتنا الشخصية بعد ما جاوز ثلاثة عقود من العمل المركز مع مرضى الوسواس القهري، وإن اقترب ما تشير إليه وساوس التماثل والتناظر وقهور الترتيب في رؤية ليكمان من عرْض و.ل.ت.ق كما نصفه هنا، إلا أن التسمية التي نقترحها تشير إلى العامل الشعوري المعرفي الجامع بين نوعية الوساوس المقصودة هنا وهو شعور اللا اكتمال، كما أن التكرار أشمل من الترتيب أو التنسيق لوصف صنوف القهور التي عادة ما تصاحبه، فسميناه عرْض وسواس اللا اكتمال التكرار القهري، في حين لم يسبقنا أحد إلى ربط الخوف الشديد من الذنب بالتعمق في وسواس الذنب التعمق القهري و.ذ.ت.ق كعرْض جدير بالاهتمام من قبل الباحثين والأطباء والمعالجين النفسانيين الذين ما يزال أغلبهم على مستوى العالم في بداية تعامله مع المعطيات الدينية في الأعراض بسماحة المستعد للتفهم والحديث مع المريض، ونتوقع أن يتم ذلك الربط قريبا... ولعل أحدهم يجري دراسة لأعراض عينة كبيرة من مرضى اضطراب الوسواس القهري ليختبر صحة هذا التصور.
(1) وسواس التلوث الغسل القهري "و.ت.غ.ق":
هنا نجد الوساوس تتعلق بالتلوث أيا كان مصدره وسواء كان ماديا أو معنويا، بينما تتعلق أغلب القهور بالغسل أو التطهير سواء بالماء أو غيره، لعل هذا العرْض من عروض اضطراب الوسواس القهري هو الأكثر حضورا في أماكن مقدمي الرعاية النفسانية في بلادنا، وربما لاستحواذ وساوس التنجيس وطقوس التطهير على قطاع كبير من المرضى لدينا دور في ذلك، خاصة وأن مرضى الوسواس القهري دائما أميل إلى التدين والخوف من الذنب والخطأ كما سنشرح أكثر في العرض الرابع أدناه، حيث تتمحور الأعراض الوسواسية أو الوساوس حول الخوف من التلوث سواء بالتلامس مع ملوث Contact Contamination أو دون تلامس كما في التلوث العقلي Mental Contamination ويشيع التفكير الخرافي أو السحري في هذه الفئة من المرضى مثل "قاعدة الانتشار اللامحدود Infinite Contagion للملوث أو التلوث اللامحدود"، ومثل أن "أثر التلامس مع الملوث يستمر بلا نهاية"، و"الجزء = الكل"، ويمكننا تخيل ما يمكن أن ينتج عن هكذا أفكار من مشاعر لا تقتصر على الخوف (من التلوث، الذنب أو الخطأ) وإنما على مشاعر التقزز وعدم الراحة وربما الغضب، وتسيطر هذه الأفكار وما صاحبها من مشاعر على المريض فيلجأ إلى محاولة التنظف أو التطهر بالغسل، وعلاقة الغسل بالماء بالتطهر من الذنوب والتنظف من الأذى ثابتة في الأديان السماوية الثلاثة، رغم ذلك فإن قهور مرضى وسواس التلوث لا تقتصر على قهور الغسل (غسل اليدين بإفراط، أو تطهير/تعقيم الأشياء، الاستنجاء و/أو الاغتسال و/أو الوضوء المتكرر أو التنظيف المفرط للحوائط أو الأرضية أو قطع معينة من الأثاث أو كله) وإنما تشمل أيضًا -وبشكل معيق ربما أكثر من تكرار الغسل- قهور التحاشي أو التجنب، أي تجنب أماكن معينة أو لمس أشياء معينة، والأماكن ووسائل النقل العامة، أو لمس الحيوانات خاصة الكلب، أو التعرض للسعال أو العطس من قبل الآخرين، وكذا فرط تغيير الملابس أو رميها بعيدا ...إلخ، مثلما يمكن أن توجد قهور أخرى: العد وتكرار العد، الفحص المزدوج، طلبات الطمأنة، الازدواج الإقصائي، طقوس التدوين.. إلخ.
(2) وسواس الشك التحقق القهري "و.ش.ت.ق":
وهنا نجد الوساوس تتعلق بالشك في -أو في نتيجة - فعلٍ أو خبرة أو قول.. إلخ بينما تتعلق القهور بالتحقق للتأكد، وقهور التحقق/التفحص هي من أكثر أعراض الوسواس القهري شيوعا إن لم تكن الأكثر، وتتمثل في شكل أفعال فحص وإعادة فحص أو سؤال وتكرار السؤال، يقصد منها التأكد من تمام فعل معين أو الاطمئنان إلى وضع أو أوضاع معينة تتسم عادة بالتأمين من الخطر أو الخطأ أو الحرام سواء تعلق ذلك بالذات أو الآخرين الذين يتحمل الشخص مسؤوليتهم من وجهة نظره، ورغم أن الصورة الشائعة لو.ش.ت.ق هي أن يشك الشخص في إغلاق باب البيت، أو السيارة، أو موقد الغاز، أو وجود الرقم القومي، أو جواز السفر ...إلخ وكلها قهور حركية ظاهرة.. إلا أننا نجد أمثلة كثيرة لأعراض مرضى وسواس قهري تظهر قهور التحقق فيهم ضمن أعراض ومواضيع مختلفة نوعا ما عن أعلاه لأنها مثلا تتعلق بالتحقق الباطني (الاستبطاني) Introspective Checking والذي يسمى في الأدبيات الغربية بالتحقق النفسي أو العقلي Mental Checking أي التفحص والتحقق من محتوى عقلي كالذاكرة، أو النية مثلا لحدث، أو قول، أو فعل قديم، أو بالتحقق من إحسان العمل لأهداف دينية أو خلقية... وبهذا التوضيح لشكلي قهور التحقق -الظاهر والباطن- تتسع مظلة عرض و.ش.ت.ق لتشمل كثيرا من أشكال الوسواس القهري التي عادة ما يشار إليها بالموضوع الذي يتعلق به الشك مثلا وسواس النية، وسواس البكارة، وسواس الاستفتاء...إلخ ولا يشار إلى أن الشك ثابت كوسواس وإن تغير الموضوع والتحقق وتكرار التحقق ثابت كقهر وإن اختلف شكله ونوعه حسب الموضوع.... وهناك ما تجب الإشارة إليه فيما يتعلق بفرادة الشك الوسواسي بأنه عادة ما يتعلق بأفعال أو أقوال أو خبرات الشخص نفسه أي المريض سواء في حدوثها من عدمه أو جزء من ذلك الحدوث أو نتائج الحدوث، فهو هنا شخص يشك في حدوث و/أو إتمام أفعاله أو خبراته بما لا يبتعد كثيرا عن الدافع المفترض في عرْض وسواس اللا اكتمال التكرار القهري كما سنرى.
(3) وسواس اللا اكتمال التكرار القهري "و.ل.ت.ق":
وهنا نجد الوساوس أو دوافع القهور تتعلق بمشاعر اللا اكتمال (ومفهومها يشمل عدم الانسجام وعدم التساوي، وعدم الصحة أو الدقة) أو عدم الراحة أو إدراكات ليس صحيح تماما "إ.ل.ص.ت NJREs "، بينما تتعلق القهور غالبا بالتكرار أو العد أو الترتيب أو التنسيق، ونجد سريريا أن الوساوس والقهور المتعلقة بالتناظر/التماثل و/أو الترتيب/التنسيق شائعة في مرضى الوسواس القهري وتوجد في حوالي 57٪ منهم (Pinto et al., 2008). وفي هذا النوع من الوسواس يجد المريض نفسه مرغما على محاذاة وترتيب الأشياء سواء فيما حوله أو في حالة وأداء جسده. وتختلف درجة ضيقه من الفوضى أو الاعوجاج أو عدم التساوي...إلخ عن درجة ضيق الشخص الطبيعي الذي يمكنه التحمل والتأجيل بينما مريض وسواس قهري التناظر دائما لا يستطيع تحمل ذلك، وإنما سيجد نفسه مضطرا للقيام بالترتيب والتنسيق ولو احتاج ساعات من العمل.
بالتالي فإن الدوافع الانفعالية الكامنة وراء سلوكيات الترتيب والتنسيق مميزة تمامًا عن تلك المرتبطة بعروض الوسواس القهري الأخرى. فالعاطفة المصاحبة تكون الضيق من هذا الشعور (وليس الخوف ولا القلق من عاقبة ما) والرغبة في التخلص منه لشدة إزعاجه وغالبا يكون ذلك بالتكرار، فالطقوس والقهور تهدف إلى تقليل مشاعر عدم الرضا أو عدم الارتياح (بدلاً من القلق) التي تنشأ من الشعور الذاتي بأحاسيس "خبرة ليس صحيح تمامًا" ويمكن أن يسبب الانزعاج المرتبط بأحاسيس إ.ل.ص.ت ضيقا كبيرا للمريض، وغالبًا ما يبذل الأفراد جهودًا كبيرة لحل شعور لا اكتمال التوازن أو عدم التماثل المدرك أو مجرد عدم الاكتمال المدرك، وسواء تمثل الحدث العقلي التسلطي في الرغبة في الحصول على الاكتمال للتخلص من شعور اللا اكتمال، أو أحاسيس إ.ل.ص.ت أو كليهما فإنه يدفع الشخص للتكرار سواء تكرار ما فعل لتوه حركيا أو ذهنيا أو تكرار استبطان الخبرة الحسية الداخلية أو العد لرقم معين ليتوقف عن التكرار وهكذا.
(4) وسواس الذنب التعمق القهري "و.ذ.ت.ق":
هنا تتعلق الوساوس بالذنب أو الإثم والخوف منه وتتعلق القهور إما بالشك في وقوع الذنب من عدمه، أو بسلوكيات التكفير المفرطة أو بتحاشي كل ما يمكن أن يسبب ذنبا، ويتميز هذا العرض للوسواس القهري أي و.ذ.ت.ق بأعراض وساوس وقهور دينية، أو أخلاقية عقدية، أو جنسية، أو عدوانية مع تطرف في تقييمها.... وفي غمار شعور مرهف بالخوف من الذنب أو الخطأ أو التقصير يلجأ المريض إلى التعمق بفعل واجبات أو نوافل دينية بإفراط أو أفعال خيرية ويفرط في ذلك، أو يستفتي ويكرر الاستفتاء في حكم التوافه من الأحداث غالبا عن الماضي أو الطفولة، أو يتحاشى أنشطة مهمة ...إلخ ليناجز مشاعر الذنب الديني أو الأخلاقي التي تستفزها الوساوس المستمرة)... وهي حالة مرضية يعرفها الأطباء النفسانيون ويصنفونها وسواس قهري ويحاولون علاجها كأي حالة وسواس قهري أو يصنفونها اضطراب شخصية وسواسية وغالبا ما يخفقون إلا في إعطاء المريض بعض التثبيط الانفعالي الذي تنجزه عقاقير الم.ا.س.ا...
وفيما يخص سلامة الاستبصار فهي الخصائص المعرفية الجوهرية في تشخيص اضطراب الوسواس القهري التي لا يمكن تطبيقها على الوساوس الدينية بنفس الطريقة المعتادة في عروض الوسواس القهري المختلفة حيث يقيم الاستبصار بثلاثة درجات: ١- استبصار جيد. ٢- استبصار ضعيف. ٣- انعدام الاستبصار ..... وقد يتأرجح الاستبصار في مختلف عروض الوسواس، بمعنى أنه عادة يستطيع مرضى الوسواس القهري في مرحلة ما إدراك أن تركيز وساوسهم يتعارض تمامًا مع من هم أي مع قيمهم ومعتقداتهم الحقيقية. لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لمرضى و.ذ.ت.ق (وسواس الذنب التعمق)، لأنهم أولا يرون بأنه لا يوجد شيء أكثر مركزية بالنسبة لهم، ولا شيء يحدد بوضوح الهدف الرئيسي من حياتهم، إلا معتقداتهم الروحية وممارساتهم الدينية.... والأفكار التي تتمحور معاناتهم حولها هي جزء مهم من عقيدتهم، فلا تمكنهم رؤيتها ولا رؤية سلوكياتهم التعمقية خطأ أو حتى مبالغا فيها ليقيم الطبيب النفساني الاستبصار بأنه سليم... وفي نفس الوقت فإن عدم استبصارهم ينتج في الأساس عن تشوهات معرفية في فهمهم للعقيدة و/أو للعبادات وهو قابل للإصلاح بامتياز من خلال الع.س.م، وإعادة الهيكلة المعرفية، في إطار عقيدة المريض.
المراجع:
1- Leckman J, Grice D, Boardman J, et al (1997). Symptoms of OCD. Am J Psychiatry 154:911-917.
2- Pinto, A., Greenberg, B. D., Grados, M. A., Bienvenu, O. J., Samuels, J. F., Murphy, D. L., … Nestadt, G. (2008). Further development of YBOCS dimensions in the OCD Collaborative Genetics Study: Symptoms vs. cat- egories. Psychiatry Research, 160(1), 83–93.
اقرأ أيضاً:
التواكب المرضي بين الوسواس القهري والاكتئاب2 / لماذا الوسواس القهري أسباب الوسوسة القهرية5