خلل الحس الداخلي في الاضطرابات النفسية
الحس أو الإدراك Perception هو العملية التي يستشعر بها الجهاز العصبي الإشارات التي يستقبلها ويفسرها ويدمجها، مما يوفر رسم خرائط لحظة بلحظة للحالة الخارجية (أي البيئية) والحالة الداخلية (أي الجسدية) وذلك عبر المستويات الواعية وغير الواعية، وينقسم الحس أو الإدراك إلى قسمين كبيرين هما الحس أو الإدراك الخارجي Exteroception وهو استقبال ومعالجة الإشارات الحسية البيئية وتكاملها وتفسيرها، والحس أو الإدراك الداخلي Interoception وهو استقبال ومعالجة الإشارات الجسدية الداخلية وتكاملها وتفسيرها، ويوفر الحس الداخلي بمعناه الواسع، لنا المعلومات الآنية عن كل من الحالة الجسدية (الجوع، العطش، الإخراج، الوجع، التعب، التوتر) والحالة العاطفية (القلق، الغضب، الفرح، الحزن، القبول، الرفض)، وليس الحس الداخلي عملية أحادية البعد وإنما مركبة من عدة أبعاد مثل الانتباه الداخلي (مراقبة أحاسيس الجسم الداخلية) والاكتشاف (تقرير واعي بوجود أو عدم وجود) والدقة (الحساسية والمراقبة الصحيحة والدقيقة) والتمييز (توطين الإحساس في قناة أو نظام عضو معين وتمييزه عن الأحاسيس الأخرى) والبصيرة، أو المعنى وراء المعرفي للخبرة أو الأداء (Vaitl, 1996). كذلك فإن سلامة الحس الداخلي عامل مهم في القدرة على تنظيم المشاعر ومناجزة الذات (القدرة على مناجزة ردود الفعل تجاه ما تشعر به بما يناسب البيئة)، بما يجعل الحس الداخلي بمثابة الحاسة الثامنة التي تساعدنا على معرفة ما يجري داخلنا. وبينما اقتصر استخدام مصطلح الحس الداخلي قديما على وصف الحس الحشوي فقط، إلا أنه الآن أصبح يشمل كل إشارات الجسد سواء الحس الحشوي أو الحس العميق أو مختلف الأحاسيس الصادرة عن الجسد، وأخيرا تحدث معظم عمليات الحس الداخلي خارج نطاق الإدراك الواعي. ويتم قياس العناصر الواعية من الخبرة سريريًا من خلال التقرير الشخصي، وواقعيا هناك عدد قليل من علامات الحس الداخلي الموضوعية التي يمكن ملاحظتها مثلا: معدل ضربات القلب، ومعدل التنفس، واتساع حدقة العين، والاحمرار، والعرق.. إلخ.
يتزايد في الآونة الأخيرة الاعتراف بخلل الحس الداخلي كعنصر مهم في حالات الصحة العقلية المختلفة بما في ذلك اضطرابات القلق واضطرابات المزاج واضطرابات طيف الوسواس القهري، واضطرابات الأكل واضطرابات الإدمان واضطرابات الأعراض الجسدية وغيرها (Khalsa et al., 2018) وفي الطب النفساني يبدو أننا في ممارساتنا السريرية والبحثية والتنظيرية قد انحزنا دون وعي كافٍ للمخ أي لما هو عقلاني عاطفي معرفي حتى فسرنا أغلب إشارات الجسد ضمن النماذج العقلانية واعتبرناها مجرد انعكاس للأفكار والمشاعر. أي أننا أفرطنا في اهتمامنا بما هو من العقل إلى الجسد (من الأعلى للأدنى) مقابل اهتمامنا وبالأحرى احترامنا لما هو من الجسد إلى العقل أي (من الأدنى للأعلى)، بمعنى أنك كطبيب نفساني إذا سمعت من المريض ما يناسب نموذجك المعرفي التفسيري لما يحدث له أو لحالته فإنك تفسر كل شكاواه الجسدية المبهمة ضمن إطار رد الفعل لما هو أعلى أي للعقل الواعي، باعتبار أن الجسد يحس ويعطي التقارير لكنه لا يدرك بينما العقل يدرك ويوجه الأوامر ، هذا هو الفهم السائد حاليا لكنه أصبح ثابت القصور والاختزال، وكما يثبت الجدول التالي فإن الصادر من الجسد أو الأعراض الجسدية (أي معطيات الحس الداخلي) يحتل حجما بارزا في شكاوى وعلامات العروض السريرية لأغلب الاضطرابات النفسية.
الأعراض التشخيصية والعلامات السريرية لخلل الحس الداخلي في بعض الاضطرابات النفسية | ||
العلامات | الأعراض | الاضطراب |
ارتفاع معدل ضربات القلب و/ أو ضغط الدم، والهروب من المكان، والإجفال.. إلخ. | خفقان، ألم في الصدر، ضيق في التنفس، اختناق، غثيان، دوار، احمرار، اختلال الإنية / تبدل الواقع | اضطراب الهلع |
زيادة أو فقدان الوزن، تباطؤ حركي نفسي | زيادة أو نقص الشهية تعب إعياء | اضطراب الاكتئاب |
رجفة، رعشة، تعرق، غثيان، فرط إجفال Startle Reaction | شد عضلي، صداع، تعب، شكاوى هضمية، آلام | اضطراب القلق المعمم |
الملاحظات الطبية لا تتوافق مع الأعراض | أعراض جسدية متعددة مؤلمة أو مزعجة | اضطرابات العرض الجسدي |
تقييد شديد للطعام، فقدان شديد للوزن، نوبات دقر، مسهلات، تريض قهري | فقد الحساسية للجوع، الخوف من الطعام، شكاوى الجهاز الهضمي | اضطرابات الأكل |
زيادة / نقص: ضربات القلب، معدل التنفس، و/أو ضغط الدم، اتساع/ انقباض الحدقة، (خاصة) | الأعراض الجسدية المرتبطة بالتوق والاستخدام و/أو الانسحاب (خاصة بالعقار) | اضطرابات تعاطي المخدرات |
فرط الاستجابات المفاجئة، الإجفال، و/أو الهروب، زيادة ضربات القلب و/أو الضغط | فرط تيقظ لا إرادي، اختلال الإنية / تبدل الواقع | اضطراب الكرب الرضحي |
قلة النشاط الفسيولوجي للمنبهات العاطفية | انفصال عن الجسد، ثقل أو خفة الرأس، الوخز | اختلال الإنية / تبدل الواقع |
تفضيلات انتقائية في الملابس | فرط الحساسية الجلدية | اضطرابات الطيف الذاتوي |
التمثيل الدماغي القشري للحس الداخلي
تمر الأحاسيس الصاعدة من الجسد بمستويات متعددة من المعالجة والتكامل في العقد المستقلية والحبل الشوكي، ثم بالعديد من بنى جذع الدماغ (نواة السبيل الوحيدي أو الانفرادي ، والنواة شبه القصبية، والرمادي حول القناة)، والبنى تحت القشرية (المهاد، والوطاء، والحصين، واللوزة)، والباحات القشرية (الجزيرة والقشرة الحسية الجسدية) وهي مناطق المعالجة الرئيسية للحس الداخلي. كما تشارك مجموعة تكميلية من البنى القشرية بما في ذلك الجزيرة الأمامية، والحزامية الأمامية، والحزامية تحت الجينية، والقشرة الجبهية الحجاجية، وقبل الجبهية البطنية الإنسية، والقشرة الحركية التكميلية، وقبل الحركية. من الجدير بالذكر أن هذه المناطق العصبية تتطابق بشكل وثيق مع أنظمة المعالجة الحسية الأخرى، وخاصة نظام معالجة الألم والعاطفة. وإن كان مدى التداخل بين الأنظمة المختلفة غير واضح حاليًا(Khalsa et al., 2018).
فيما يخص التمثيل القشري للحس الداخلي تبرز بنية قشرية هي الجزيرة Insula (وهي منطقة مثلثة من القشرة المخية مدمجة تحت تقاطع الفص الجبهي والصدغي والجداري) كمنطقة محورية (Stern, 2014)، حيث تشارك قشرة الجزيرة في الشعور بالقلق والألم والإدراك والمزاج والتعرف على التهديدات وحواث الفعل الواعية وغيرها من المشاعر والسلوكيات. ورغم ذلك نادرًا ما تمت دراسة قشرة الجزيرة بعمق، وفي البداية كان يُعتقد أنها "قشرة التذوق الأولية" وظلت كذلك لعقود. منذ ذلك الحين، أظهرت العديد من الدراسات الدور الأساسي للجزيرة في الإحساس الجسدي عامة وليس فقط التذوق، وفي العواطف مثل التقزز أو الاشمئزاز ومثل الشعور بالذنب وغيره، إضافة لدورها في تكامل مجموعة متنوعة من الأحاسيس الحشوية من الشعب الهوائية والأمعاء وأنظمة القلب والأوعية الدموية، بما يشير إلى أن الجزيرة تشارك بشكل كبير في التكامل الداخلي والخارجي. بما في ذلك تقييم المحفزات لتوجيه السلوك نحو أو الابتعاد عن المحفزات المعينة لأغراض الحفاظ على التوازن.
ورغم عدم الوصول إلى اتفاق علمي بشأن التقسيم الوظيفي للجزيرة فإن لدينا ما يؤيد تقسميها وظيفيا إلى جزء خلفي وجزئين أماميين بطني وظهري، حيث يشارك الجزء الخلفي في المعالجة الحسية وله وصلات وظيفية بالمناطق الحسية الحركية بما في ذلك القشرة الحسية الجسدية (التلفيف اللاحق المركزي) والمناطق الحركية الأولية والثانوية، وأما التقسيمات البطنية والظهرية للجزيرة الأمامية فلها اتصالات وظيفية مختلفة. إذ ترتبط الجزيرة الأمامية البطنية وظيفيًا بالمنطقة الحوفية وشبه الحوفية وتشارك في معالجة المشاعر، في حين ترتبط الجزيرة الأمامية الظهرية وظيفيًا بالمناطق المشاركة في التحكم المعرفي واكتشاف البروز في المحفزات بما في ذلك الجزء الظهري من القشرة الحزامية الأمامية وقشرة الفص الجبهي الجانبية كما تبين الصورة التالية.
طرق قياس الحس (الإدراك) الداخلي:
ما تزال الدراسة العلمية للحس الداخلي تعترضها صعوبة الاتفاق على المصطلحات بين الدراسات المختلفة، فمثلا تم استخدام مصطلح "الوعي بالحس الداخلي" أو "الوعي بالدواخل (الحالات الداخلية)" Interoceptive Awareness وأحيانا حساسية الحس الداخلي Interoceptive Sensibility كمصطلح قابل للتبادل مع دقة الحس الداخلي Interoceptive Accuracy ، ومع التقييم وراء المعرفي للحس الداخلي Metacognitive Interoception والتقييم الذاتي للحس الداخلي (Khalsa et al., 2018)... إلخ فرغم كون الحس الداخلي عملية مركبة الأبعاد إلا أن الاتفاق على طرق القياس مهم للبحث العلمي الصحيح، ومما يزيد الغموض أن المقاييس الموضوعية للإثارة الفسيولوجية والتي تقيس دقة وتمييز الحس الداخلي لا تتطابق باستمرار مع التقارير الذاتية للأشخاص والتي تقيس حساسية الحس الداخلي، فمثلا تظهر بعض الدراسات زيادة في الاستثارة الفسيولوجية لدى مرضى اضطرابات القلق، في حين لا تجد دراسات أخرى أي اختلافات عن مجموعات الضبط. ويثير غياب الاختلاف هذا احتمال أن القلق إنما يرتبط بحساسية متزايدة أو تحيز تجاه المعلومات الداخلية في غياب الاختلافات الفسيولوجية الرئيسية، أي على غرار النماذج المقترحة لـ "الأعراض غير المبررة طبياً"، وفي مقالين تاليين نستعرض نتاج الأبحاث في خلل الحس الداخلي في اضطرابات القلق، ثم اضطرابات طيف الوسواس القهري.
المراجع:
1- Vaitl D. (1996).Interoception. Biol Psychol. 1996; 42:1–27.
2- Khalsa SS, Adolphs R, Cameron OG, Critchley HD, Davenport PW et al. (2018) Interoception and Mental Health: A Roadmap. Biol Psychiatry Cogn Neurosci Neuroimaging. 2018 June ; 3(6): 501–513. doi:10.1016/j.bpsc. 2017.12.004.
3- Stern ER (2014). Neural Circuitry of Interoception: New Insights into Anxiety and Obsessive-Compulsive Disorders. Current Treatment Options in Psychiatry (2014) 1:235–247 DOI 10.1007/s40501-014-0019-0
4- Uddin L (2015). Salience processing and insular cortical function and dysfunctionNature Reviews Neuroscience volume 16, pages55–61 (2015)
ويتبع>>>>>>>: خلل الحس الداخلي في اضطرابات القلق
اقرأ أيضاً:
لماذا الوسواس القهري أسباب الوسوسة القهرية5/ العروض السريرية الأربعة للوسواس القهري