"لا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلاَّ تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى" المائدة ٨
آداب الطب موضوع في غاية الأهمية يتم تلقينه في المرحلة الجامعية لدراسة الطب وجميع الاختصاصات الطبية سواء في التمريض أو غيره. الممارسة مشحونة بالمشاكل والمعضلة الأخلاقية تواجه الطبيب بصورة منتظمة وأحياناً ترسله صوب الشعور بالقلق وعدم الارتياح وكثيراً ما تسبب إجهاد مزمن. الممارسة الطبية كذلك تخضع لتحديات قانونية بين الحين والآخر وهناك قوانين يتم استحداثها لتنظيم السلوك الأخلاقي واتخاذ القرارت المصيرية بحق من يستعمل الخدمات. كذلك نرى لجانا خاصة في كل مؤسسة تراجع المعضلات الأخلاقية بصورة منتظمة ويتم التشاور معها من قبل ممارسي المهنة. ولكن ليس من المبالغة القول بأن هذا الموضوع أكثر تعقيداً في ممارسة الطب النفساني مقارنة بجميع الاختصاصات الطبية.
الطب النفساني منذ أكثر من قرن من الزمان وإلى يومنا هذا يواجه الانتقاد من قبل الدولة والجمهور بصورة منتظمة. كذلك تأثرت سمعة الطب النفساني بتاريخ مستشفيات أو مصحات الصحة العقلية القديمة التي كانت أشبه بمستودعات احتجاز البشر لفترة طويلة أو حتى طوال العمر قبل حصول ثورة استعمال العقاقير لعلاج الفصام1. لم يقتصر الانتقاد فقط على الاضطرابات الذهانية واحتجاز المرضى وإنما تجاوزه إلى العلاج النفساني وبالذات ظاهرة اتنقال أو طَرْح Transference المشاعر بين المراجع والمعالج النفساني2. هناك أيضاً علاجات قديمة لا تزال إلى اليوم تتعرض للانتقاد مثل بضع الفص الجبهي Leucotomy وإرسال المريض إلى غيبوبة مع استعمال الإنسولين. بالطبع الآن هناك انتقادات يتم توجيهها بصورة منتظمة حول استعمال العقاقير المضادة للاكتئاب والمهدئات. وبالطبع هناك استغلال الطب النفساني من قبل رجال السياسة في القرن العشرين في الاتحاد السوفيتي لتجريم المعارضين. هذا التاريخ لا يزال في ذاكرة العديد وتتناوله الصحافة بصورة منتظمة مع كل جريمة يتم ارتكابها من قبل مواطن له تاريخ طبنفساني.
تاريخ فلسفة الأخلاق
حرصت المجموعات البشرية على إصدار قوانين وتشريعات تتطرق إلى السلوكيات والآداب منذ القدم ربما أولها في مسلة حمورابي عام ١٧٥٠ قبل الميلاد. تتطرق جميع الأديان إلى الآداب وفي الأديان السماوية هناك الوصايا العشر لموسى (ع). لكن في عالم الطب والطب النفساني تكثر الإشارة أولاً إلى نظريات الأخلاق وأولها نظرية الفضيلة Virtue Theory لأرسطو (٣٨٤-٣٢٢ ق.م.)3 والتي يمكن إيجازها بأن شخصية الإنسان هي محور المداولات والتحديات الأخلاقية التي تواجهه، ولكي يعم الخير العام وتعيش البشرية بسلام لابد من تطوير شخصية الإنسان نفسه. بعبارة أخرى يمكن القول بأن تركيز أرسطو أن مصدر الخير والشر هو الإنسان ذاته وسلوكه.
النظرية الثانية4 التي يُكثر الإشارة إليها هي نظرية الفيلسوف الألماني عمانويل كانت Immanuel Kant (١٧٢٤ – ١٨٠٤ م) والتي تعرف بالكانتانية أو الديونتولجية Kantiainism (Deontological Theory)، والتي يمكن إيجازها بأن العمل الأخلاقي الصحيح لا يمكن تبريره إلا من خلال القيم الجوهرية في داخل الإنسان نفسه وليس بسبب دافع خارجي. بعبارة أخرى يعمل الإنسان العمل الصحيح لأن لديه التزاماً أخلاقيا للقيام بذلك.
الفلسفة الثالثة5 التي يكثر الإشارة إليها هي ما تسمى بمذهب المنفعة Utilitarianism التي ذاع صيتها في القرن التاسع عشر ومفادها بأن الفعل يعتبر هو الصحيح أخلاقيا إذا كانت نتائجه هي الأفضل مع أقل عواقب مقارنة بالأفعال البديلة.
ومع نهايات القرن العشرين ذاع صيت رباعية مبادئ التفكير الأخلاقي6 والتي يشار إليها بالمبادئية Principlism. في عالم الطب هذه الرباعية هي:
١- احترام استقلال الإنسان (حكمه الذاتي)
٢- تعظيم الرفاهية له (الإحسان)
٣- عدم الإيذاء (تقليل الأذى)
٤- معاملة البشر بإنصاف (العدالة).
هذه الرباعية يتم الرجوع إليها من قبل الطبيب النفساني أو غيره حين اتخاذ قرار أو وصف العلاج.
الطب النفساني الحديث والآداب:
يتخرج الطبيب من كلية الطب ويقسم قسم أبقراط: "سأستخدم قوتي لمساعدة المريض بأفضل ما لدي من قدرة وحكمة ممتنعاً عن إيذاء أو ظلم أي إنسان بهذه القدرة". مدونة الأخلاقيات الطبية لتوماس بيرسيفال7 هي التي يستند عليها لتعريف السلوك المهني لجميع الأطباء وتم إصدارها عام ١٨٠٣ م، وفي المملكة المتحدة أصدرت الكلية الملكية للأطباء النفسانيين دستور الاخلاقيات الذي يتضمن ١٢ بنداً كالآتي8:
١- احترام كرامة وإنسانية كل مراجع.
٢- عدم استغلال المراجع.
٣- تقديم أفضل رعاية ممكنة.
٤- الحفاظ على سرية المريض وذويه.
٥- الحصول على موافقة المريض قبل إجراء أي علاج أو فحص.
٦- التأكد أن المريض أو من يرعاه لديه الإمكانية لاتخاذ أفضل قرار حول العلاج.
٧- عدم استخدام معرفتهم ومهاراتهم المهنية لتحقيق مكاسب شخصية أو إلحاق الأذى بالمرضى.
٨- الالتزام باللوائح الأخلاقية القانونية المحلية والدولية.
٩- الحرص على تطوير المعرفة والمهارات ومشاركة الزملاء والمتدربين والطلاب بخبرتهم ومعرفتهم، وكذلك مع جميع المهنيين العاملين في الطب النفساني.
١٠- الاهتمام بصحة، ورفاهية الزملاء، والمتدربين، والطلاب.
١١- الحفاظ على استقامة مهنة الطب.
١٢- العمل على تحسين الخدمات الصحية النفسانية وتعزيز الوعي الجماهيري حول المهنة والحد من آثار الوصمة والتمييز.
رغم وضوح هذه المبادئ التي تكاد تبدو بديهية للكثير، إلا أن الأزمات في الطب النفساني لا حدود لها. هناك أولا الحفاظ على سرية المريض والمعلومات في حوزة الطبيب النفساني أو كل عامل في الصحة العقلية. هناك بعض القضايا التي تفرض نفسها على الطبيب النفساني ويتم اختراق الحدود المهنية في قضايا انتهاك الأطفال جسديا ونفساني، البوح بأفكار القتل والحديث عن التخطيط للانتحار. لا يمكن للطبيب النفساني الحفاظ على سرية المعلومات حين يعلم بأن من يراجعه يلحق الأذى بالطفل ولا يمكن أن يقف متفرجاً ومراجعه يخطط لقتل إنسان آخر آو قتل نفسه.
الطب النفساني والقانون
يتميز الطب النفساني عن بقية الاختصاصات الطبية بتفاعله المستمر مع قانون الدولة، ولكل دولة قانونها الخاص الذي يتعلق بالصحة العقلية. في المملكة المتحدة9 هناك قانون الصحة العقلية لعام ١٩٨٣ والذي تم تعديله عام ٢٠٠٧ ومع هذا التعديل ولد استعمال مصطلح الاضطراب العقلي بدلاً من المرض العقلي، وبسبب ذلك تغيرت الممارسة الطب النفساني والضغط على الخدمات الصحية بالتعامل مع مستعملين الخدمات. تزامن ذلك كذلك مع التركيز على تقديم الخدمات في المجتمع بدلاً من المصحات العقلية. الحقيقة أن ما حدث في المملكة المتحدة يتوازى مع بقية أنحاء المعمورة في الممارسة الطب نفسانية من استحداث تشخيصات ومفاهيم جديدة أو بالأحرى صياغة القديمة في إطار جديد. القوانين بحاجة دوماً إلى تفسير جديد يتوازى مع الممارسة المهنية وتفسير القانون هو دوماً من صلاحية السلطة القضائية فقط وعلى الطبيب النفساني مراجعة هذه التفسيرات بصورة منتظمة.
التعامل مع قانون الصحة العقلية يتطلب الإلمام بقانون الممارسة10 Code of Practice الذي هو الآخر يتغير بصورة منتظمة ويجبر العاملين في الصحة العقلية على مراقبة تفسيرهم وتعاملهم مع قانون الصحة العقلية.
أما القانون الآخر الأكثر تعقيداً فهو قانون المقدرة العقلية Mental Capacity Act 2005 الذي يعني بقدرة الإنسان على اتخاذ قرار ما في وقت ما11. هذا القانون لا يقتصر على الطب النفساني فحسب وإنما جميع الفروع الطبية وهو أكثر تعقيداً مما يتصور الكثير.
القدرة العقلية
تقييم القدرة العقلية باختصار يتطلب ما يلي:
أولاً: هل يعاني المريض من مرض عقلي قد يؤدي إلى اختلال المقدرة العقلية.
ثانياً: إن كان المريض يعاني من اضطراب عقلي فهل لديه القدرة على ما يلي
١- فهم المعلومات ذات الصلة بالقرار المعني.
٢- الاحتفاظ بهذه المعلومات ذهنياً.
٣- استخدام المعلومات لاتخاذ القرار.
٤- القدرة على توصيل هذا القرار للآخرين.
وجود المرض العقلي بحد ذاته لا يعني أبدا عدم وجود قدرة عقلية، ولكن إذا كانت الإجابة كلا لأي من الأربعة أسئلة أعلاه فذلك يعني أن المريض لا يملك القدرة العقلية على اتخاذ القرار ويتولى القضاء أو المكلف رسمياً برعايته اتخاذ القرار حول قدرته.
تقديم العلاج بصورة سرية
رغم أن العلاج يتم تقديمه بصورة خفية للمرضى في المجتمع، ولكن الطبيب النفساني لا يحق له تشجيع ذوي المريض على ذلك. عملية تقديم الدواء بصورة سرية يتطلب تدوينه أولا والحصول على الموافقة من إدارة المستشفى وإعلام الجناح القانوني لها بذلك12. التقديم السري للعلاج يكون مناسباً فقط إذا:
١- كان المريض يرفض العلاج بصورة واضحة
٢- ولا يملك القدرة العقلية على فهم عواقب هذا الرفض
٣- ويعتبر العلاج ضرورياً لصحة المريض ورفاهيته.
المصادر
1- Carpenter W & Davis J. Another view of the history of antipsychotic drug discovery and development 2012. Molecular Psychiatry ;17:1168-1173.
2- The Fundamentals of Psychoanalytic Technique, Karnac Books ed., New Ed, 2005.
3- Adams, Robert Merrihew, 1999, Finite and Infinite Goods, New York: Oxford University Press. 2006, A Theory of Virtue, New York: Oxford University Press
4- German Idealism in "History of Aesthetics" Encyclopedia of Philosophy. Vol 1. Macmillan, 1973
5- History of Utilitarianism. 2014. Stanford Encyclopaedia of Philosophy.
6- Beauchamp, TL, Childress, JF .Principles of Biomedical Ethics 1979. Oxford University Press.
7- Percival T, Percival E. The Works, Literary, Moral and Medical: To which are Prefixed Memoirs of his Life and Writings
8- Good Psychiatric Practice, Code of Ethics CR186. Royal College of Psychiatrists 2014. London.
9- Mental Health Act 1983.legislation.gov.uk.
10- Mental Capacity Act 2005. Social Care Institute of Excellence.
11- Codes for Practice Mental Health Act 1983. Gov.uk.
12- Covert Administration of Medication. Care Quality Commission 2022.
واقرأ أيضاً:
اليقظة العقلية Mindfulness / تعامل الدماغ مع التعلق و الصدمات