الحكمة مازالت مشروع بحث واعد خاصة في المجالات التطبيقية النوعية، فالحكمة في سياق العلاج النفسي مثلا تحتاج إلى المزيد من الجهود البحثية والتطبيقية لرؤية جوانب تطبيقها ودمجها كمعرفة نموذجية ذات صلة بالخبرة والممارسة المهنية، وفي هذا الإطار نحاول تلمس بعض الجهود البحثية لتطبيقات الحكمة في السياق الكلينيكي والتي تناولها الباحثون تحت مسمى الحكم الكلينيكي، والبعض أطلق على ذلك الحكمة السريرية، والبعض أخذ منحى استهداف الحكمة في المرضى بمسمى العلاج بالحكمة، ولذا من الممكن أن نطرح عدة تساؤلات: هل هناك حكمة سريرية في الأساس؟ وما المقصود بها؟ وهل تتعارض مع بروتكولات العلاج المعيارية أو العلاجات المبنية على الأدلة والبراهين والكفاءة والتأثير في النتائج؟ أم يمكن أن تتكامل مع تلك العلاجات؟ وهل الحكمة هنا تعد نوعًا خاصًا من المعرفة أم هي مصدر من المعرفة؟ وهل تختلف عن المعرفة العلمية التجريبية؟ وكيف يمكن دمجها في برامج التعليم والتدريب للمختصين النفسيين ليكون لدينا مخرجات تأهيل مهني يتميز بخصائص الحكمة المبكرة إن جاز التعبير؟ وكيف يمكن توظيفها وتفعيلها في خطط التدخل بمعنى هل من الممكن استهداف الحكمة لدى كل من المعالج في تكوينه والمريض في رحلة تعافيه؟ هذا ما سنحاول تناوله في تلك السطور.
هل هناك حكمة سريرية؟
إذا كان هناك حكماء في الحياة، فإن الحياة المهنية أيا كانت تلك المهنة تنتمي إلى العلوم الإنسانية أو التجريبية سيكون فيها من الحكماء كما أن فيها من الحمقى والعاديين، فهناك حكماء يمكن أن نصفهم بالبراعة والقدرة على حل المشكلات بطريقة تختلف عن غيرهم وهو ليس اختلاف إبداع بقدر ما هو اختلاف رؤية واستبصار، وقدرة على الخوض في موقف غامض أو معقد ومتعدد الأبعاد سواء باتخاذ قرار أو تحمل الغموض، فالحكمة المهنية هي التي تظهر في الممارسة المهنية، في مجال الهندسة أو الطب والعلاج النفسي، فمثلا تناول باوم بايكر وسيستي Baum-Baicker and Sisti (2012) مفهوم الحكمة السريرية في سياق التحليل النفسي والعلاج النفسي الدينامي، وذلك لرصد المعرفة المرتبطة بالحكمة التي تكونت لدى قدامى المختصين النفسيين وتحديد عناصرها بغرض استهدافها في تعليم وتدريب المختصين كخبرة نموذجية يمكن الوصول إليها، وتناول دي فريتاس وزملاؤهDe Freitas, Haque, Gopal and Bursztajn (2012) إشكالية التقسيم الثنائي: بين الحكمة السريرية والتدخلات الطبية المسندة، هل هما متعارضان أم مكملان؟ وهل المعرفة المرتبطة بالحكمة معرفة نوعية جديدة أم هي مصدر من مصادر المعرفة؟ وغيرها من البحوث خلال العقدين الماضيين.
هذا يشير لوجود شيء نموذجي مدرك في عقول الباحثين يمكن التعبير عنه بالحكمة ويلاحظه الممارسون ويمكن أن يعمل في السياق الكلينيكي أي يكون له دور في إحداث فروق في النتائج والفعالية، ربما يرتبط بشخصية المختص النفسي وسماته وقدراته، أو تدريبه وتعليمه، أو خبراته، أو المنحى العلاجي الذي يتبعه أو كل ذلك.
من ناحية أخرى في العقود الأخيرة ازدهرت صيغ العلاج المحددة ببروتوكولات والمستندة إلى أدلة وبراهين، وصار يتم الاعتماد عليها وفق تقديرات نسب التعافي ومدته وبحساب صدق وثبات التدخل في ضوء معايير الكفاءة والتأثير والعالمية أو تجاوز الثقافات، وهذا التطور العلمي صار حاكمًا للممارسات المهنية والتوظيف ومحل تقدير لدى الأطباء والمختصين والمنظمات المشاركة كالتأمين والتشريعات القانونية على حساب الطرق التقليدية غير محددة الخطوات أو التي تتبع دليل نجاح الحالة الفردية وتتميز بالذاتية وسلطة المختص الفوقية بما يعرفه من خبرة وحكمة وما يمتلكه من فن قبل العلم، كأنها أسرار مهنية لا يجوز تنظيمها وتعلمها أو اعتبارها إلهامات ومواهب فنية.
في مقابل هذا الانتقادات التي توجه للممارسات العلاجية غير المستندة للدليل وغير المعتمدة على البحث التجريبي، بدأت انتقادات أخرى تتناول خطورة الاكتفاء بالمعرفة المستندة إلى الدليل والمناحي المعيارية بزعم أنها غير كافية أو غير متوازنة وتفقد المهنة والمهني الاهتمام بتفاصيل غير فنية رغم أهميتها مثل الجوانب الشخصية في العلاج والتعامل بمرونة في مراعاة السياق الاجتماعي وثقافة المريض الفردية واهتماماته وأمور أخرى يمكن اعتبارها شخصية ونسبية تتداخل في العلاج النفسي، وربطوا هذه الانتقادات بما يمكن تسميته الحكمة السريرية المفقودة. أي أننا تحولنا من المعرفة غير المستندة إلى دليل إلى المعرفة المستندة للدليل، وصار لدينا أنصار لكل توجه، يدافع وينتقد، وهناك من يدعو للتوفيق بين الأمرين.
ما الجهود البحثية التي تناولت الحكمة السريرية؟
نتناول بعض تلك الجهود التي أتيحت لنا عبر شبكة المعلومات في تناول الحكمة السريرية:
1. حدد حنا وأوتينز Hanna and Ottens (1995).قائمة بالخصائص الرئيسة للحكمة في سياق العلاج النفسي مستنبطة من الأدب النفسي المتعلق بالحكمة وتتمثل في: التعاطف، والتفكير الجدلي، وتحمل الغموض، وموقف فوق معرفي أو ما وراء معرفي، والدهاء أو الفطنة، واللا آلية أو عدم الأتمتة، والبصيرة، ورصد المشكلات وحلها.
2. وكتب مالكولم باركر Parker (2002) حول إشكالية كون الطب فنا يتميز بالحكمة السريرية وبين التدخل القائم على الأدلة أو الطب المسند بالأدلة evidence-based medicine وأن العلاقة بين التدخل القائم على الأدلة والحكم السريري هو موضوع نزاع نظري وتطبيقي. ودعا إلى ضرورة إزالة الغموض عن المقصود بالحكمة السريرية وأن هذا لا يعني التقليل من قيمتها. ولا ينبغي تصور التدخل المستند للدليل سيكون متوازنا بالحكمة السريرية، وأن فشل تقدير هذه العلاقة التأسيسية سيساعد في إدامة نموذج الأبوة الطبية ويؤخر تبني الممارسة القائمة على الأدلة بشكل صحيح، والتي ستكون غير أخلاقية وغير حكيمة. (Parker, 2002. P.273)
3. قدم باوم بايكر وسيستي Baum-Baicker and Sisti (2012) بعض الرؤى لتدعيم أهمية الحكمة السريرية وفق منحى التحليل النفسي والعلاج النفسي الديناميكي من خلال دراسة تحليلية حول استجابات محللين نفسيين من مجالات علم النفس السريري والطب النفسي. أي كانوا معالجين ذي المنحى الدينامي تم ترشيحهم من أقرانهم وعددهم 18 مشاركا وأعمارهم تتراوح بين (73-101) سنة وبمقابلات امتدت حوالي خمسين ساعة. ومن الأسئلة التي تضمنها المقابلات: ما الذي تعرفه الآن ولم تكن تعرفه عندما بدأت التدريب لأول مرة؟ وما الذي تريد أن تنقله إلى أولئك الأقل خبرة؟/ هل هناك حالة (أو حالات) معينة ساهمت بشكل كبير في معرفتك السريرية و / أو فهمك للحالة الإنسانية؟/ هل هناك تجربة إشرافية معينة، إما تلقيك للإشراف الشخصي أو إشرافك على الآخرين الذين ساهموا معرفتك السريرية و / أو فهمك للحالة الإنسانية؟/ هل هناك أي عبارات تجد نفسك تقولها مرارًا وتكرارًا على مر السنين لمرضاك للمساعدة في شرح "ظروفهم" و / أو علاجهم النفسي و / أو تحليلهم النفسي؟ أو العبارات التي تهدئ ، وتواجه، وتحفز، وتحد ، وما إلى ذلك./ هل هناك أي عبارات تجد نفسك تقولها مرارًا وتكرارًا على مر السنين لمشرفيك حول العمل الكلينيكي؟ ما صفات المعالج "الجيد"؟ محلل نفسي جيد؟ "كيف" تستمع إلى مرضاك؟ ما الذي أدهشك، إن وجد، خلال مسيرتك المهنية: أ- عن نفسك في دورك؛ ب- عن مرضاك؟ / في كل هذه السنوات، ما الذي تعلمته عن الطبيعة الإنسانية؟ / عندما تنظر إلى الوراء، هل كان هناك تحول شخصي تعتقد أنه ساهم بشكل كبير في قدرتك السريرية؟ من كانوا قدوة جديرة بالملاحظة لديك؛ ماذا يعلمك عن الممارسة و/ أو الحياة؟ كيف ساهمت تجربتك الشخصية مع الخسارة في نظرتك إلى الحياة؟ هل لديك ما تقوله عن مفهوم "التوازن" والعمل الكلينيكي؟ ونتج عن ذلك تحديد للحكمة في سياق العلاج النفسي بأنها مجموعة مهارات خبراتية عملية مثل قبول التناقض والتحلي باللطف والتواضع (Baum-Baicker, 2017, 76-77).
4. وأمام الطرح السابق لباوم بايكر وسيستي قدم دي فريتاس وزملاؤه De Freitas, Haque, Gopal and Bursztajn, (2012) انتقادات على المنهجية البحثية وأخرى فلسفية في منطق التناول، وفي اعتبار الحكمة مجرد خبرة، والخبرة هنا مفهوم غامض وذاتي وغير محدد سوى بترشيح الأقران والعمر الزمني، لأن ليست الخبرة فقط هي التي تبني الحكمة، وأكدوا على خطورة ترك المعرفة المرتبطة بالمنهج والمعرفة المستندة للنتائج والدليل إلى المعرفة المرتبطة بالحالة الفردية. وأن الحكمة السريرية والعلاج المرتكز على الدليل - بحكم الضرورة - مكملان، وليسا متعارضين.
5. ووفقا لمنهج النظريات الضمنية implicit theories قام رونالد سيجل Siegel (2013) بإجراء مسح طلب فيه من 30 معالجًا نفسيًا مخضرمًا من مناحي علاجية مختلفة الإجابة على أربعة أسئلة: (1) ماذا يعني أن تكون حكيمًا؟ (2) ما هي صفات المعالج النفسي الحكيم؟ (3) ما الذي يقف في طريقك (عوائق) لتكون معالجًا حكيمًا؟ و(4) هل تعتبر غرس الحكمة هدفا علاجيا في عملك؟ واستخلص من الإجابات عن هذه الأسئلة بعض خصائص الحكمة التي حددها الباحثون والمعالجون: الاهتمام بالآخرين، والتوجه نحو والتأمل أو التدبر، والبصيرة، والذكاء الوجداني، والذكاء، وتجاوز المفاهيم التقليدية.
6. قام كل من هايدي ليفيت وإليزابيث بونين Levitt and Piazza-Bonin (2014). بدراسة الحكمة والعلاج النفسي: لتفسير العمليات المشتركة وهدفت تلك الدراسة إلى استكشاف مفهوم الحكمة السريرية بمنهج نظرية التجذير أو التأسيس grounded-theory، حيث شارك سبعة عشر عالمًا نفسيًا تم ترشيحهم عدة مرات من خلال أقرانهم باعتبارهم معالجين حكماء ليشاركوا في مقابلة حول الحكمة السريرية، وتم تحليل المقابلات باستخدام طرق وفنيات نظرية التجذير بالترميز وتحيد المفاهيم وكان ملخص النتائج يتمثل في وصف المشاركين للحكمة السريرية بأنها قدرة المعالجين على تقبل أن أفضل الإجابات التي تقدم لمشكلات العملاء غالبًا ما لا يمكن الوصول إليها على الفور، ولكن يكون باستخدام كلا من: إحساسهم بعملائهم، والتوجه النظري الخاص بهم في العلاج النفسي، وخبراتهم الخاصة في الشدائد، وإدراك التنوع والاختلافات، واستخدام العلاقات العلاجية الوطيدة لمساعدتهم على استكشاف الغموض ونقاط الضعف التي واجهوها من أجل صياغة إجابات خاصة.
المراجع:
- Baum-Baicker, C., & Sisti, D. A. (2012). Clinical wisdom in psychoanalysis and psychodynamic psychotherapy: A philosophical and qualitative analysis. The Journal of Clinical Ethics, 23(1), 13-27.
- De Freitas, J., Haque, O. S., Gopal, A. A., & Bursztajn, H. J. (2012). Response: Clinical wisdom and evidence-based medicine are complementary. The Journal of Clinical Ethics, 23(1), 28-36.
- Hanna, F. J., & Ottens, A. J. (1995). The role of wisdom in psychotherapy. Journal of Psychotherapy Integration, 5(3), 195–219. https://doi.org/10.1037/h0101273.
- Levitt, H. M., & Piazza-Bonin, E. (2014). Wisdom and psychotherapy: Studying expert therapists' clinical wisdom to explicate common processes. Psychotherapy Research, 26(1), 31-47.
- Parker, M. (2002). Whither our art? Clinical wisdom and evidence-based medicine. Medicine, Health Care and Philosophy, 5, 273-280.
- Siegel, R. (2013). Wisdom in psychotherapy: Can we afford it. Psychotherapy Networker. Retrieved from http://www. psychotherapynetworker.org/magazine/currentissue/item/2093-wisdom-in-psychotherapy
ويتبع: الحكمة السريرية: تصورات حول الحكمة السريرية-2
واقرأ أيضاً:
رسائل الله الغامضة / الأبعاد السيكولوجية لأسرة الطفل الذاتوي (التوحدي)