اتسم عصر الحداثة بسمتين أساسيتين وهما:
الأول القطيعة عن كل شيء لاهوتي ومتعالي عن حقيقة الإنسان المادية والثاني القطيعة بالعلاقة بين كل شيء أخلاقي وديني
ولكنه لا يمكن الفصل بين التعالق والتشاكل بين مفهوم الحداثة وماهية الإنسان فكلاهما يتعكز على الآخر ويستمد أبجدياته من الآخر
فالإنسان الحديث حسب مفهوم علم النفس المعاصر عبارة مجموعة غرائز مادية يجب إشباعها حتى يحقق سعادته وهو يتربع بنهاية سلم التطور الحيواني! ولا نعلم لماذا توقف تطوره إلى كائن ما بعد الإنسان! حسب الداروينية وأن نهاية هذا الإنسان هو الفناء والزوال الأبدي حسب غريزة الموت المزعومة!
والسؤال الذي يطرح نفسه على علم النفس المعاصر ما هو الدافع الذي يجعل الإنسان المادي المحدود العمر بحدين هما حد الولادة المادية والموت المادي أن يضحي بنفسه ويعجل بموته ولا يستمر بإشباع غرائزه المادية لتحقيق السعادة! فمن أجل من يضحي بنفسه!؟ وخاصة عندما تكون التضحية والموت أمر محتوم كحال من يدافع عن أرضه ووطنه وأهله أمام قوة جبارة ومع ذلك لا يستسلم كما نلاحظه بكثير من المناطق المشتعلة بالحروب!؟
لا شك الجواب من الناحية الدينية والفطرية معروف لمن يؤمن بالله واليوم الآخر وخاصة الفترة التي سبقت عصر الحداثة هو الطمع بمرضاة الخالق وجنته والهروب من ناره
ولكن مع علم النفس المعاصر ومفهوم الحداثة فما هو الدافع الذي يجعل الإنسان يضحي بحياته لأجل الوطن أوالدولة باعتباره لا حياة غير هذه الحياة الدنيا! فالبعض يقول أن الدولة والوطن يؤمن له حياة سعيدة ضد الأخطار ويدير حياته اجتماعيا واقتصاديا وصحيا ربما يكون ذلك صحيحا ولكنه ليس دافع أساسي للانتحار باسم التضحية لأنه سيفنى بالموت وخاصة عندما تصبح الدولة تستخدم العنف المشرع بين قوسين الشرطة والجيش إضافة للإعلام والمدرسة والفن والتثقيف القسري والتجنيد الإجباري وغيره لتنميط المواطن بالقوة باسم المواطنة وتفكيك جميع روابطه العضوية الأسرية والدينية والعشائرية لتبقى هذه الدولة قبلته الوحيدة ليسهل التحكم فيه والدولة هنا عبارة عن مجموعة أشخاص وأحزاب تربعوا على مؤسسات السلطة بقوة الشرعية أو شرعية القوة! فكيف لهذا المواطن يضحي بحياته من أجل ثلة أشخاص يسعون لسعادتهم وترفهم على حساب المواطن الذي يتم تنميطه بالقوة ومعاقبة من يقف بطريق هؤلاء باسم المواطنة وذلك بحرمانه من امتيازات وحقوق مدنية!
الحقيقة أن الدولة الحديثة ألهت نفسها وأخذت دور الإله بالتشريع واعتبرت نفسها الخالق والرازق والحافظ لهذا الإنسان باسم مركزية الإنسان بدل مركزية الله والديمقراطية والمدنية بدل الضمير والدين والأخلاق وخرجت عن وظيفتها الأساسية بإدارة الأمن والمؤسسات وشؤون الناس إلى تنميطهم بالقوة ليصبخوا عبيد للدولة
هذا الأمر جعل الإنسان المعاصر يفقد معنى لحياته ويتقاعس عن التضحية كما عبر عن هذه الحقيقة الرئيس الأمريكي السابق بأن الجيش الأمريكي لا يملك دافعية أو معنى للتضحية وكذلك حكومة السويد عندما صرحت أنه لا معنى ولا مكان للشرف والعرض والمروءة بدستورهم ومجتمعهم وأنها أفكار بالية ومدمرة
بينما الشعوب التي لاتزال تؤمن بالله واليوم الآخر فروح التضحية والشهامة والمروءة عندها عالية جدا ولا تزال حاضرة بكل منعطفات ومواقف الحياة
ولمقاربة ذلك نفسيا لا بد من إعادة تعريف الإنسان الصحيح فلا يمكن تفسير التضحية حسب غريزة الموت كما يرى جماعة فينا بأن الإنسان يسعى لموته المحتم بحسب هذه الغريزة فالواقع يثبت عكس ذلك فالخوف وقلق الموت وبحث الإنسان عن معنى لحياته وموته هو المهيمن على الإنسان الحديث ولايمكن باختزال الإنسان بغرائزه المادية أن يفسر سيكولوحية التضحية وللخروج من هذا المأزق شرعنوا الموت الرحيم والإجهاض للتخلص من الحياة وهو تناقض فج عند هؤلاء
وتبقى العودة لحقيقة الإنسان وأنه ليس مجرد وجود مادي ذو بعد أحادي أو أنه لامعنى لحياته ومماته إلا إشباع غرائزه الحيوانية الترابية!
بل هناك غرائز فطرية سابقة على تلك الغرائز ولا بد من إشباعها ليعيش الإنسان سوي نفسيا ومكتمل السعادة فهذه الغرائز الفطرية تعطي معنى لحياته ومماته وتجيب على الإسئلة النهائية للحياة و لمعنى وجوده في هذه الحياة ومن خلقه وما مصيره بعد موته وأهمها غرائز الغائية والسببية وهذه تطرح أسئلة ملحة على النفس البشرية منذ نهاية الطفولة لإعطاء معنى لحياته وإنه لا يمكن أن يكون وجوده صدفة ونهايته عدم لأنه يخالف كل قواتين العلم والمنطق فالوجود ليس ذو بعد واحد بل متعدد الأبعاد دنيوي وأخروي.. وأن هناك خالق له ونهاية معروفة له وإذا أشبعت النفس البشرية بهذه الحقائق فإنها تعتبر الشهادة أو التضحية بالنفس أعظم قربان تقدمه لخالقها طمعا بجنته وخوفا من ناره فمن قُتِلَ دون مظلمته فهو شهيد ومن قتل دونَ مالِهِ فهو شهيدٌ ومن قتلَ دون أهلِهِ فهو شهيدٌ ومن قتلَ دون دينِهِ فهو شهيدٌ ومن قتلَ دونَ دمِهِ فهو شهيد
فهذه الشهادة والتضحية تشبع غرائز الإنسان الفطرية النفسية لإنها تصافح وتحاكي حقيقته الإنسانية الفطرية وتعطي معنى لحياته الأبدية وأن الوجود متعدد الأبعاد دنيوي وأخروي ومعنوي وليس الشهادة والتضحية في سبيل أشخاص باسم الحداثة والمواطنة أفقدوا قيمة التضحية زخمها النفسي فأصبحت مناقضة لفطرته النفسية وكل قوانين المنطق والعقل
و\قرأ أيضًا:
السيكولوجية الفطرية للجندرة النيو- أنثويات1 / من سبت الغفران إلى سبت الطوفان1