سيكلوجية الإيمان والكفر1
الشك واليقين
لكننا أحياناً نقع في المرض النفسي فنركز على الاحتمال الضئيل جداً الذي لا وجود له إلا في رؤوسنا وعقولنا، فنتصرف على أنه واقع أو نعيش القلق والخوف من أن يكون وقع بالفعل.
• في مرض الوسواس القهري يعاني الكثير من المرضى من الشكوك الوسواسية التي تجعلهم يتأكدون مما شكوا فيه مرات لا تحصى. لو كان التأكد مرة واحدة يريحهم فهم ليسوا مرضى، لكن المرضى يتأكدون المرة تلو الأخرى ويبقى لديهم الشك. على سبيل المثال يتوضأ المريض، وفي نهاية وضوئه يشك: هل هو فعلاً قد غسل كل الأعضاء اللازم غسلها لصحة الوضوء، ولا يرتاح حتى يعيد الوضوء، لكنه بعد الإعادة يأتيه الشك ذاته فيعيد الوضوء، لحد أن الوضوء لصلاة الظهر مثلاً يستغرق ساعة كاملة.
• سيدة مثقفة تعاني الوسواس القهري قالت: إن صلاة الظهر تحتاج إلى ساعة وربما ساعتين قبل أن تطمئن أنها قد أدتها بالشكل الصحيح، فهي كلما قرأت الفاتحة وبدأت بقراءة آيات من القرآن بعدها، أتاها شك أنها قد تكون أخطأت دون أن تنتبه في قراءة الفاتحة، أو أن تكون أخطأت ونسيت أنها أخطأت، وبما أنه لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب، ولا اعتبار لهذه القراءة ما لم تكن صحيحة مئة بالمئة طالما أن المصلي شخص متعلم، فإن أسلم شيء تعمله هو أن تعيد قراءة الفاتحة، لكن المشكلة أنها تكرر الشك نفسه بعد كل إعادة.
• ليست مجنونة لأنها بالفعل سيدة عاقلة وتعمل صيدلانية وتجيد عملها، ومع أن شكوكها يمكن أن تضحكنا، فإنه لا أحد منا يقول إنها تشك في شيء مستحيل، هنالك حالات نفسية أخرى يعتبر فيها المريض شكاً معيناً شيئاً يقينياً لا يمكن إقناعه بخطئه، رغم كل الأدلة المقدمة له، لأن عقله ومثله عقولنا كلنا تقول: إن ما يعتقده هذا المريض من أوهام نسميها (ضلالات delusions) ليس مستحيلاً من الناحية العقلية، أي العقل قادر على تخيل إمكانية حدوثها مع أنه مقتنع أنها غير صحيحة.
• أذكر مريضاً أصيب بالاكتئاب الشديد عندما سافرت أسرته في الصيف وتركته لأنه لا يستطيع دخول الأرض المحتلة بسبب تعقيدات إسرائيل لعودة الفلسطينيين، ومع أنه رجل وزوج وموظف حكومي، كان من الواضح أنه ضعيف ومعتمد على زوجته كما يعتمد الطفل على أمه. وحتى نسرع شفاءه طلب شقيق زوجته منها أن تعود على أول رحلة، وبالفعل عادت، لكن مريضنا رغم تحسنه عندما رآها، قال: إنها ليست زوجتي، إنها نسخة عنها، ولم يسمح لها أن تقترب منه، وبقي على ذلك الحال عدة أيام ثم تحسن، وقد أخبرني بعد تحسنه أنه عندما رأى زوجته صار يسمع صوتاً في عقله يردد كلمة دبلجة.
• مع أن شكه في أن زوجته هي زوجته نفسها يبدو لنا مضحكاً وسخيفاً، لكن عقولنا لا تقول إن وهمه أن هذه التي أمامه نسخة مزيفة عنها شيء مستحيل.
• كلنا يرجع من عمله إلى بيته لتستقبله زوجته ولا يخطر في باله أنها ليست زوجته، وإذا سألناه ما الذي يجعلك متأكداً أنها زوجتك وليست امرأة أخرى؟ فإنه يبدأ بتعداد الأدلة على أنها هي زوجته التي تركها بالبيت في الصباح، سيحدثنا عن ملامحها وصوتها وعن كل صغيرة تساعد في التأكد من أنها هي المرأة نفسها، لكننا نتحداه أكثر ونقول له ما المانع أن يكون لزوجتك توأم حقيقي، والتوائم الحقيقية متماثلة في الخلقة والصوت وغير ذلك إلى حد يجعل التمييز بين أختين توأمين حقيقيين، أي تخلقتا من بييضة ملقحة واحدة، أمراً صعباً والخطأ فيه وارد.
• في الواقع ما نجادله به أمر مستبعد جداً جداً، لكن يبقى ممكناً في العقل، والعقل قادر على تخيله وتصور إمكان حدوثه مجرد تصور لا يأخذه على محمل الجد عادة.
• كل يوم تقع حوادث سير يموت فيها أناس ويصاب فيها آخرون ولا شيء يقنع عقولنا أنه من المستحيل أن يقع لنا حادث سير ونحن ذاهبون إلى أعمالنا، فالاحتمال قائم، لكنه احتمال ضئيل نتغافل عنه ونتصرف على أنه غير موجود، طالما أننا سنقود بحذر وانتباه، وإلا لما تجرأ أحد على الخروج من بيته إلى عمله.
• حياتنا ملأى بالأمور المحتملة التي لا نأخذها بالاعتبار، وكلها في أمور اعتمدنا فيها على الاستقراء؛ لأننا غير قادرين على اعتماد طريقة الاستنتاج التي تعطينا اليقين عادة، كما لا تفيدنا حواسنا في ذلك لأنها لا ترى أو تسمع ما لم يحدث بعد.
• عملياً نحن نتعامل مع أكثر الأمور التي نصل إليها بالاستقراء بحسب احتماليتها، فكلما اقترب احتمال أمر ما من مئة بالمئة اعتبرناه يقينياً، كما لو كنا وصلنا إليه عن طريق الاستنتاج أو عن طريق الحواس.
• لكن المشكلة هي عندما لا يكون الأمر على هوانا، بل نرغب بعكسه وضده، فإننا مهما ارتفع احتمال صحته بحسب الاستقراء ولو يكاد يكون مئة بالمئة، فإن الذين يتبعون أهواءهم منا، يتمسكون بذرة الشك التي لا يستطيع الاستقراء محوها من خيالنا، ويعتبرون هذا الاحتمال الذي تميل نفوسهم إليه هو الحق حتى وإن كان احتماله يقترب من الصفر.
• وهذا تماماً ما يحدث في الإيمان والكفر والخلاف
الإيمان أيضاً علمي
• يجادل الملحدون ويعيبون علينا أننا نؤمن بما لم تدركه حواسنا بينما هم علميون لا يؤمنون بشيء إلا بناء على مدركات الحواس ثم يأتي الاستقراء والاستنتاج، ويقولون أرونا الله لنؤمن به.
• إنهم يوم القيامة يدعون أنهم تيقنوا أن لهم خالقاً أرسل الرسل وأمر ونهى، ويطلبون العودة إلى الدنيا:
• "وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [12]" السجدة.
• إنه باستثناء الرياضيات فإن أغلب العلوم تقوم على الاستقراء، وبالتالي نحن لسنا أقل منهم تفكيراً علمياً عندما نؤمن بخالقنا دون أن نراه، بعد ان استقرأ آياته في آفاق الطبيعة التي خلقها الله وفي أنفسنا، أما الكافرون فسيأتي اليوم الذي ينكسون فيه رؤوسهم وقد أبصروا وسمعوا ما كانوا يكابرون وينكرونه.
• "وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [12]" السجدة.
• وأوضح مثال على ذلك أنه لا أحد يجرؤ على الادعاء أن ساعة جدار دقيقة وجدت هكذا ولم يصنعها صانع. وفي هذا قال ربنا:
• "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [35]" الطور.
• إننا نحن البشر كائنات عجيبة في دقتها وروعتها، فهل يقول عاقل إننا أتينا إلى الوجود هكذا من غير شيء، أي من غير خالق خلقنا، أي صانع صنعنا، كما صنع الساعاتي الساعة الدقيقة؟ أم هل خلقنا أنفسنا بأنفسنا؟
• "وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [12]" السجدة.
• وبما أن الجواب على هذين الاحتمالين بحسب البداهة الإنسانية والعقل الإنساني المشترك والمنطق الذي يحكمه، لا يكون إلا بالنفي فإنه لا يبقى إلا الاحتمال الثالث، وهو أنه لنا خالق خلقنا اسمه الله.
• إنه من السفاهة الادعاء أننا خلقنا من غير شيء، لكن من اختاروا الكفر لم يتعذر عليهم الالتفاف حول الفكرة فأبدع الخيال الإنساني حكاية نشوء الحياة بمحض الصدفة ثم تطورها على مدى ملايين السنين، إلى أن وصلت لأرقى مستوياتها في الإنسان الكائن المخلوق في أحسن تقويم.
• إنه تحايل وتمويه للقول إننا خلقنا بلا خالق، حيث البديل الذي خلقنا بادعائهم هو الصدفة والعشوائية، إنه خالق لا يشعرون نحوه بأي امتنان ولا يستحق منهم أي عبادة، وهؤلاء المستكبرون على طاعة الله يخرجون الله من الحسبان نهائياً.
• أنا طبيب وأعرف الكثير عن النفس البشرية من الناحيتين البدنية والنفسية، لذا أقول وأنا على يقين: إن نشوء الحياة وتطورها حتى بلغت ما بلغته في عالم النبات والحيوان والإنسان بلا منشئ، بل بفعل المصادفات هو المستحيل بعينه، لكنهم طالما العقل البشري قادر على تخيل هذا الاحتمال المستحيل، أي الذي قيمته الحقيقية صفر، فإنهم يتمسكون به، ويفسرون الحياة على أساسه، ويشرحون صدورهم بالخرافة التي اخترعوها، وهم يحسبون أنهم هم العلميون بينما نحن الذين نؤمن بالخالق الخرافيون.
• الاستقراء للكون وللأنفس يرينا من الآيات أي العلامات والدلائل على الخالق ما لا يحصى، ومهما كانت النتيجة العقلية احتمالية وعلى مستوى العقل المجرد غير يقينية، فإن هذا الاحتمال هو في الحقيقة مئة بالمئة أما احتمال عكسه فهو صفر بالمئة بالتأكيد وإن كان العقل قادراً على تخيله.
قابل للتخيل لكنه مستحيل
• من البديهي أن مجرد قدرتنا على تخيل شيء على نحو معين، لا يعني بشكل من الأشكال أنه حق أو أنه موجود، كما إن عَجْزنا عن تخيل شيء ما، لا يعني أنه مستحيل.
• من منا قادر على أن يتخيل اللانهاية في الأعداد أو الأبعاد أو الأزمان؟ عقولنا لا يمكنها أن تتخيل إلا ما هو محدود له بداية وله نهاية، ومع ذلك لم يظهر سفيه واحد ينكر اللانهاية في الرياضيات مثلاً.
• وهكذا الإيمان أن الله ليس له خالق، شيء من الناحية العقلية غير ممكن، لكنه حق، لأن عقولنا مثل الكومبيوتر، لها برامج تعمل بها، وهي مبرمجة على أنه لا بد لكل مخلوق من خالق. إن عقولنا آلات حية عجيبة لكن لها حدود، لذا لن تفهم شيئاً عن الروح مثلاً لأنه (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً).
• عن طريق الآيات المختلفة نصل إلى أنه لنا خالق خلقنا، لكنه أخفى نفسه عنا، فلا تدرك حواسنا شيئاً يجعلها تتيقن من وجوده، ولا يظهر لنا من أفعاله ما يجعلنا عقلياً نصل إلى اليقين بوجوده.
• إن له حكمة في ذلك بحيث مهما كانت الآيات كثيرة وترفع احتمال وجوده إلى مئة بالمئة، فإن قدرة عقولنا على تخيل احتمال آخر، حتى لو كان مستحيلاً في الواقع، تجعلنا أحراراً في أن نؤمن به أو أن نكفر، أي لا شيء يجبر عقولنا على الإيمان به والاعتراف بوجوده، ما لم نكن راغبين في ذلك، وما لم نكن خالصين من الأهواء التي تجعلنا نكابر ونتمسك بمستحيل قابل للتخيل ونبني عليه نظريات علمية نقنع بها أنفسنا أننا على الحق، أي نخدع أنفسنا ونوهمها أننا على الحق.
ويتبع>>>>>>: سيكلوجية الإيمان والكفر3
واقرأ أيضا:
أسس النظرية النفسية الإسلامية الأولى(1-4) / الاستشفاء بالقرآن في الطب النفسي المعاصر