سيكلوجية الإيمان والكفر2
الإيمان بالغيب
ربنا أخفى نفسه وترك لنا الآيات التي تهدينا إليه لكنها لا تلزمنا بالاعتراف بوجوده وبفضله علينا وبرسله وكتبه، وذلك من أجل أن يكون إيماننا به إيماناً بالغيب لا بالمشاهدة التي يطلبها المعاندون كي يؤمنوا قال تعالى: "الٓمٓ (1) ذَٰلِكَ ٱلكِتَٰبُ لَا رَيبَ فِيهِ هُدى لِّلمُتَّقِينَ (2) ٱلَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِٱلغَيبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقنَٰهُم يُنفِقُونَ (3)" البقرة.
وقال تعالى عن بني إسرائيل: "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(56)" البقرة.
وقال في سورة الإسراء: "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً (94) قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً (95) قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)" الإسراء.
أخفى ربنا نفسه ليكون إيماننا به بمحض إرادتنا ومشيئتنا، لأننا بذلك نبقى قادرين على أن نقنع أنفسنا أنه غير موجود، أو أن رسولاً معيناً لا يعجبنا، ليس مرسلاً منه، أو حتى مذهب لا نحبه، مع أنه الحق المبين. لذلك قلت ليس الإيمان تأثراً وانفعالاً، أي ليس هو خضوع العقل للبراهين والأدلة بحيث لا مجال بعدها للعقل أن يقنع نفسه بغير ما أثبتته الأدلة، بل هو فعل إرادي مئة بالمئة، منسجم مع العقل السليم، لأنه قائم على آيات الله في الأنفس والآفاق.
إيمان المسلم يختلف عن إيمان الهندوسي بآلهته، مع أن إيمان الهندوسي إرادي أيضاً، وليس خضوعاً عقلياً لأية أدلة أو براهين أو آيات، إذ ليس هنالك شيء منها يدل على صحة ما يؤمن به.
إنه يؤمن بآلهته إيماناً غيبياً وإرادياً لكن شتان بين إيمانه وإيماننا.
نحن نصل إلى القناعة بصحة ديننا بالعقل الذي يقول لنا إن الاحتمال الأكبر الذي يكاد يكون يقيناً، أي مئة بالمئة، أن الله خالق كل شيء، وأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب.
نحن بإرادتنا نتيقن أنه الحق، مع أن الاستقراء لا يُلزم عقولنا بالإيمان إلزاماً، إنما نحن الذين نلتزم بالحق من تلقاء أنفسنا، بينما غيرنا يجادل ويكابر ويتمسك باحتمال، هو في الحقيقة غير موجود إلا في رأسه، لأنه عنده من الدوافع النفسية والأهواء ما يدفعه لذلك.
يقول أبو ذر رضي لله عنه فيما رواه البخاري في صحيحه: (سألتُ النبيَّ صلَّى للهُ عليه وسلَّم: أيُّ العملِ أفضلُ؟ قال: إيمانٌ باللهِ، وجهادٌ في سبيلِه. قلتُ: فأيُّ الرقابِ أفضلُ؟ قال: أغلاها ثمنًا، وأنفسُها عِندَ أهلِها، قلت: فإن لم أفعَلْ؟ قال: تُعينُ صانعاً، أو تصنَعُ لأخرق، قال: فإن لم أفعَلْ؟ قال: تدَعُ الناسَ من الشرِّ، فإنها صدقةٌ تصدَّقُ بها على نفسِك). إذن الإيمان عمل بحد ذاته، لكنه عمل قلبي وعقلي، فنحن أحرار في الكثير مما نختاره في عقولنا، وإرادتنا هي التي تختار ما تشاء، وليس مجرد اقتناع لا إرادة لنا فيه.
الإيمان والدوافع
صحيح أن المعاند قد لا يشعر بالحق في قلبه ابداً، لكن ليس ذلك لقلة المعروض أمامه من الأدلة والآيات، إنما لأنه يكره هذا الحق، وإذا حاول استشعاره، أصبح صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء، بينما ينشرح صدره وتطمئن نفسه بالكفر والعلم الزائف الذي يخدع به نفسه. ليس معذوراً أن صدره يضيق بالحق، لأن ذلك ناتج عن اختياره للاستكبار على الله وعلى خلقه، وهو الذي أورد نفسه هذا المورد بحمقه، مع أنه لا يقل ذكاء ولا علماً عن الذين آمنوا وانشرحت صدورهم بالإيمان.
قال تعالى في سورة الأنعام: "فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (125) وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)" الأنعام. إذن يضيق صدره بالحق، ويشرحه هو بالكفر.
وتبدأ القضية عادة برفض واعٍ للإيمان بالله أو برسول معين، لكن حتى يريح نفسه مما يسمى التناقض المعرفي cognitive dissonance حيث تنزعج نفسه من اجتماع المتناقضات فيها، أي اجتماع معرفته أن هذا هو الحق مع رفضه له، فيقوم بخداع نفسه وتغيير المنظور، ويأخذ بالاحتمال الضئيل جداً وهو أن ما يُدعى إليه ليس هو الحق، بل نقيضه، وينظر للقضية من خلال هذا المنظور وهذا الاحتمال، فإذا بالأمور تبدو كما يحب ويهوى، ويبدو في عين نفسه منسجماً مع العقل والعلم ومتحرراً من الخرافة، فيفرح، أي يتعالى ويختال ويفتخر بموقفه، ويزدري ويحتقر المؤمنين ويراهم السفهاء، وهكذا يزيغ في البداية وهو واع لذلك، فيُزيغ الله قلبه جزاء له، فيقنع نفسه بالباطل مع أن الحق كان واضحاً له، وقد تكون نفسه وصلت لحد التيقن من أن ذلك هو الحق لكنه يجحد عن سابق إصرار وتصميم، فيتركه الله يخدع نفسه ويحتال عليها ويريها الباطل حقاً، فينشرح صدره ويرتاح، ويمعن في الضلال والجحود.
قال تعالى عن قوم فرعون: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)" النمل.
أما الذي لم يستكبر، بل اعترف لصاحب الفضل بفضله وشكر له ذلك، فإن الله ييسره لليسرى، فينشرح صدره للحق، ويسعد بنعمة الهداية ولا يضل ولا يشقى، ويدخل في علاقة حب متبادل مع خالقه، ويسلم القياد ويطيع هذا الخالق العظيم، ليقابله الله بأن يكون وليَّه في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويعطيه في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ويقيه عذاب النار.
قال تعالى: "إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)" الليل.
وهكذا من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، نعم نحن في الدنيا أحرار لكننا محاسبون، يكافئنا ربنا إن شكرنا نعمه، ويعاقبنا إن كفرنا وأنكرناها أو حتى أنكرنا وجوده من أصله.
ربنا يقول لنا: لا إكراه في الدين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، لا ليعطينا الخيار دون أن تكون هنالك عاقبة لاختيارنا، بل لأنه خلقنا لنكون خلفاء له في الأرض نحقق في أنفسنا صفاته وأسماءه الحسنى، وهو "حُرّ" يفعل ما يشاء فهو على كل شيء قدير، أما نحن فلنا أن نفعل ما نشاء ضمن اختيارات محدودة، إما شاكراً وإما كفوراً، فنمارس حريتنا ونلتزم بالحق إن أحببنا، أو نجحد ونكفر إن شئنا، لكننا محاسبون على كل شيء في النهاية. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، نحن في الدنيا أحرار لكننا محاسبون، يكافئنا ربنا إن شكرنا نعمه، ويعاقبنا إن كفرنا وأنكرناها أو حتى أنكرنا وجوده من أصله.
ربنا يقول لنا: لا إكراه في الدين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، لا ليعطينا الخيار دون أن تكون هنالك عاقبة لاختيارنا، بل لأنه خلقنا لنكون خلفاء له في الأرض نفعل كما يفعل، وهو "حُرّ" يفعل ما يشاء لأنه قادر على كل شيء، أما نحن فلنا أن نفعل ما نشاء ضمن اختيارات محدودة، إما شاكراً وإما كفوراً، فنمارس حريتنا ونلتزم بالحق إن أحببنا، أو نجحد ونكفر إن شئنا، لكننا محاسبون على كل شيء في النهاية.
قال تعالى: "إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5)" الإنسان. ربنا يريد منا التزامنا بالحق ولا يريد إلزامنا بشيء إلزاماً فيه الإكراه والإجبار، لأنه لا قيمة عنده لأية عبادة يقوم بها الإنسان مكرهاً، إنه لا يقدر لحوم ولا دماء الهدي والأضاحي التي يقدمها الحجاج، إنما يقدر ويقيم ويثمّن التقوى التي تصدر عنها تلك الطاعات، صحيح أن لكل طاعة نفعاً يعود على الفرد أو المجتمع أو كليهما، لكن الطاعة تتجلى فيها أيضاً تقوانا لله وبالتالي تكون نافعة لنا يوم القيامة. قال تعالى عن البُدُن التي تُذبح في الحج: "لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)" الحج.
ويتبع>>>>>>: سيكلوجية الإيمان والكفر4
واقرأ أيضا:
توصيات مؤتمر العلاج بالقرآن بين الدين والطب/ العلاج بالقرآن.. شبهات وردود(4)