سيكلوجية الإيمان والكفر8
حــرية رغــم المعجــزات
• ويبقى السؤال: أليس في المعجزات التي يأتي بها الرسل إكراه لعقول الناس على الإيمان، إذ كيف يكفرون بعد أن يروا معجزة رسولهم؟ هذا صحيح والإيمان بعد رؤية معجزة لا يكون إيماناً بالغيب حقيقة، لأنه لا يشترط أن نرى الله بأعيننا، المهم أن نرى أفعاله التي تدل عليه متجاوزة طبائع الأشياء ومستعلية على القوانين الطبيعية. وهنا تتجلى حكمة ربنا في إنزال ملائكة يعلمون الناس السحر الذي يتم فيه تجاوز القوانين الطبيعية تجاوزاً ظاهرياً، حيث يستطيع السحر أن يخلق صورة تراها عقولنا وتصورها آلات التصوير لأشياء لا وجود حقيقياً لها.
• وبانتشار السحر في الأرض لم تعد معجزات الرسل قاهرة للعقول، بل يبقى للعقول حريتها، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فالذي لا يريد أن يؤمن يقول عن المعجزة إنها سحر لا أكثر، وإنها لا تثبت شيئاً مما يدعيه الرسول صلى الله عليه وسلم. لكن سحرة فرعون الذين كانوا منيعين على السحر، ولا يستطيع ساحر أن يوهمهم بشيء، ما كانت لهم حرية عقلية، وما كان لهم بد من أن يؤمنوا بالله عندما رأوا عصا موسى تتحول إلى أفعى حية حقيقية تلقف وتأكل ما صنعوا من السحر، بينما انطلى سحرهم على موسى وأوجس خيفة عندما رأى حبالهم وعصيهم تنقلب حيات وأفاعي تسعى أمامه.
• لذلك قال ربنا عن السحرة عندما رأوا معجزة موسى وتيقنوا أنها معجزة حقيقية (وألقي السحرة سجداً) أي كأنهم ما كان لهم أن يفعلوا غير ذلك، أي السجود لله. وكان إيمان السحرة وثباتهم عليه رغم العذاب والموت الذي توعدهم به فرعون دليلاً للناس الذين يشاهدون المباراة بين موسى والسحرة، كانت تلك هي المعجزة التي تُطمئن من يريد الإيمان، أن موسى رسول الله حقاً، ويبقى للمكابر أن يقول ويقنع نفسه أن الأمر كان مؤامرة، اتفق فيها موسى كبير السحرة مع السحرة، كي يُخرجوا الناس من دين آبائهم.
• وهكذا يبقى المجال لخداع النفس مفتوحاً ويبقى الإيمان اختيارياً مئة بالمئة، اي كانت معجزة موسى مُلْزمة لعقول السحرة دون باقي الناس الذين شاهدوها.
• قال تعالى: "قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71)" طه.
• وقال عن السحر ومن أين جاء: "وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102)" البقرة.
• ويخبرنا ربنا أن الكفار المعاندين لن يؤمنوا، حتى لو فتح الله لهم باباً من السماء يصعدون فيه، فسيقولون ما هذا إلا سحر أو سُكْر. "لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15)" الحجر.
• حرص ما بعده حرص على بقاء الناس أحراراً في أن يؤمنوا أو أن يكفروا وعلى أن يبقى إيمانهم بالغيب. وإن كان سبحانه قد قبل إيمان بعض من فقدوا كثيراً من قدرتهم العقلية على الكفر، مثل قوم يونس وسحرة فرعون، أو مثلهم المشركين العرب الذين بقوا على الكفر إلى أواخر حياة محمد صلى الله عليه وسلم فأمر الله بقتالهم وقتلهم ما لم يؤمنوا، وبالمقابل هو لن يحتسب الكفر على أي مكره طالما كان قلبه مطمئناً بالإيمان مهما صدر منه من أقوال أو أفعال كفرية.
مــن شــاء فليؤمـــن
• الإنسان خلق للخلافة في الأرض وهو أهل لها من جميع النواحي وبخاصة الناحية العقلية والنفسية، وأساس هذه الأهلية حريته العقلية في أن يؤمن أو أن يكفر، وفي أن يطيع الله أو أن يعصيه، لكنه محاسب يوم القيامة عن ذلك: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
• الإنسان مأمور بالإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر، لكن له الحرية أن يؤمن أو ألا يؤمن، وهو الذي يختار متى يؤمن إن كان ما يزال حياً، وله الحرية أن يلتزم بما يشاء من أوامر رب العالمين، إلا الأمور التي إن لم يلتزم بها تسببت بالضرر للمجتمع، فيجبره المجتمع على التقيد بها إن كان يريد البقاء في هذا المجتمع واحداً منه، وإلا فليخرج منه وليفعل بعيداً عنه ما يشاء، وفي يوم القامة يحاسبه الله عن كل شيء طالما فعله بحرية ودون إكراه.
• يقول تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)" البقرة.
• وقال في سورة الكهف: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)" الكهف.
• ولنتأمل كيف توعد الله من يكفر عندما أعطاه الخيار، وكيف أكثر في وصف ما أعد من الخير لمن يؤمن يوم القيامة.
• إنها حرية لا تنفك عن المسؤولية، كما لا ينفك وجها عملة واحدة عن بعضهما.
واقرأ أيضا:
القرآن يتحدى / توصيات مؤتمر العلاج بالقرآن بين الدين والطب