القاعدة العامة التي يقبل بها معظم البشر تتطابق مع ما نطق به الفيلسوف الإسباني رينيه ديكارت حين قال "مهما كانت شكوكنا حول عالمنا الخارجي فإننا نعرف بوضوح تام محتويات عقولنا" هذه القاعدة لا تزال واضحة ونحن في عصر التكنولوجيا وطوفان المعلومات والإعلام عبر عالم الفضاء. لكن هذه القاعدة تختلف تماماً عن تفكير مؤسس التحليل النفساني سيغموند فرويد الذي يشير إلى وجود مستوى آخر للعقل البشري لا يدركه الإنسان ومحتوياته ليست غامضة فحسب وإنما ترافقه قوى غير واعية ولا عقلانية تتحكم في تفكيره وسلوكه. هذه هي قاعدة علاج الاضطرابات النفسانية عن طريق استعمال التحليل النفساني بمختلف أنواعه.
يتم علاج الاضطرابات النفسانية بالتحليل النفساني في لقاء بين المعالج ومراجعه في غرفة مريحة لا تشبه العيادات الطبية الكلاسيكية. يقوم المعالج بإنشاء علاقة مع مراجعه ويجعله يتحدث ويشارك بمشاعره بصورة عفوية وتدريجياً تجد المشاعر والعواطف المدفونة منفذاً وذلك بدوره يساعد المعالج على إدراك أسباب اعتلال مراجعه وبالتالي شفائه.
النفس البشرية Human Psych استناداً إلى المدرسة التحليلية تتكون من طابقين. هناك الطابق العلوي الذي نسميه الوعي فوق السطح الذي يدركه الإنسان وهناك الطابق السفلي المدفون تحت السطح وهو أشبه بالأساس الذي لا تراه العين ولا تدركه الأحاسيس ونسميه لا وعي. يتم إرسال الصراعات والصدمات وجميع المشاعر التي تتعارض مع البيئة التي نعيش فيها إلى الطابق السفلي عن طريق عملية نفسانية لا يدركها الإنسان ونسميها الكظم أو الكبت Repression. تتحول هذه المشاعر والعواطف المكبوتة إلى طاقة نفسانية تتحكم بسلوك الإنسان اليومي وقد تتحول إلى سلوك مثالي ونبيل وأحيانا ترسل الإنسان صوب القلق والاكتئاب.
بعد ذلك قسم فرويد النفس البشرية من خلال نموذج ثلاثي إلى ثلاثة أجزاء وهي الهو أو الهي (هوية) وهي الطابق السفلي وفوق ذلك الأنا وفي الأعلى الأنا العليا. الهوية هي في لاوعي أما الأنا فهي تتفاعل مع الضمير في حين الأنا العليا تتطابق مع الروح. الهوية هي مصدر الطاقة النفسانية مما يجعلها المكون الأساسي للشخصية ومدفوعة بمبدأ المتعة والإشباع الفوري لجميع الرغبات والاحتياجات الغريزية. عدم الوفاء بهذه الرغبات بصورة أو بأخرى نتيجته التوتر والدمار النفساني. ولذلك لابد من ترويض الهوية من قبل الأنا العليا التي تحتوي على المعايير الأخلاقية والمثل العليا التي يكتسبها الإنسان من البيئة التي يعيش فيها ومن خلالها يدرك ما هو الصواب والخطأ. أما الأنا فهي عامل التوازن بين الهوية والأنا العليا ويعمل استناداً إلى الواقع الذي يسعى إلى إشباع الرغبات بطرق واقعية ومقبولة اجتماعياً.
رغم أن الجنس والعنف يتصدران قائمة الغرائز المدفونة في الطابق السفلي، ولكن غالبية أدبيات فرويد تتعلق بالجنس. تبدأ الحياة الجنسية استناداً إلى المدرسة التحليلية منذ عمر مبكر وتعود جذورها إلى علاقة الرضيع بالأم المرضعة وهذه العلاقة بدورها هي مصدر عقدة أوديب حيث يتصور الرضيع الرغبة في القضاء على الأب لينفرد بالأم.
من العمليات النفسانية المثيرة للجدل هي ما تسمى بذاكرة الشاشة Screen Memory وهي عملية ذاكرة تافهة إلى حد ما يستعملها الإنسان لطمس ذكريات أكثر أهمية. هناك عملية التحويل أو الطرح Transference التي يكثر الحديث عنها في مختلف أنواع العلاج النفساني حيث يتم وبدون وعي نقل مشاعر من كائن أو موقف في الماضي إلى كائن وموقف في الحاضر. عملية الإسقاط Projection تحدث حين لا يتعرف الإنسان على جانب سلبي من ذاته ويتم تنسيبه إلى شخص آخر في محيطه. رغم أن التحويل كثيراً ما يتم الحديث عنه في العلاج النفساني، ولكنه قد يحدث في العلاقات الشخصية أيضاً ويعرفه البعض بعملية دفاعية حاله حال الإسقاط والكظم والتسامي. هناك أيضاً ما يسمى الزلة Parapraxis وهنا تجد المادة المكبوتة في الأعماق منفذاً لها عبر الظواهر اليومية في الكلام (زلات اللسان) والكتابة والسلوكيات العفوية.
يحتل تحليل الأحلام موقعاً مهما في العلاج النفساني التحليلي حيث يتم تحويل الأحداث والرغبات الحقيقية إلى صور في الأحلام من خلال عملية النزوح عندما يتم تمثيل شخص أو حدث من قبل شخص اخر بسبب تشابه في الكلمات أو الرمز، والتكثيف عندما يتم دمج العديد من الأشخاص والأحداث وتمثيلها بصورة واحدة في الحلم. يمكن وضع الإزاحة والتكثيف كعمليات قمع أفكار وتحويلها إلى مواد يتم تمثيلها بصورة رمزية في الحلم.
التحليل النفساني أم النقد النفساني؟
ما هو معروف لكل من يقرأ الأدبيات الثقافية المختلفة أن نقاد الأدب يتحدثون دوماً عن المعنى الظاهر والمعنى الخفي في الرواية، وهذا هو بالضبط ما يفعله كتاب الرواية. هناك العديد من روايات نجيب محفوظ رحمه الله ذات معنى ظاهر ومعنى خفي وهناك العديد من الرموز والعلامات والصور والأحداث التي بحاجة إلى الانتباه والتركيز عليها وتفسيرها. كذلك هناك مسرحيات شكسبير المختلفة التي لا تزال تثير فضول الكثير حتى يومنا هذا. الشعر بمختلف اللغات ومنها الشعر العربي لا يخلو من رموز واستعمال الإزاحة والتكثيف للتعبير عمن ما هو خفي. يتم الإشارة الى عملية البحث عن المعنى الحقيقي بمصطلح تأويل الشك Hermeneutics of Suspicion وهذا ما يحدث بالضبط في عملية التحليل النفساني حيث يكون المعالج هو الناقد والمراجع هو الكاتب.
رغم أن التحليل النفساني تعرض لانتقادات عدة بسبب مخالفاته المنهجية ولا مكان له في الممارسة اليومية في الطب النفساني، ولكنه قوة ثقافية لها موقعها في عالم الأدب العالمي.
مصادر
1- Shawn L Shawn L Psychoanalytic Criticism. Academia education.
2- Zhang W & Guo B. Freud’s dream interpretation: a different perspective based on self- organisation theory of dreaming. Front. Psychol 2018.
3- Naguib Mahfouz. On Literature and Philosophy. Translated by Aran Bryne. 2016. Gingko.
واقرأ أيضا:
الاستياء الداكن والقضية الفلسطينية / المستحضرات الطبيعية وعلاج الاضطرابات الطبنفسانية