الثقة.. وصناعة الحياة2
تأثير الثقة في الأمن المجتمعي في عصر الرقمنة:
اهتم علماء النفس والاجتماع بالتحولات العالمية ومظاهر العولمة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها على زعزعة الثقـة في حياة الناس، ونظرا لضعف الثقة بين أفراد المجتمع، وبين الأفراد والمؤسسات فقد نشأ ماسمي "عالم الفوضى" أو "مجتمع المخاطر" أو "عالم منفلت". وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة جبارة للتنمر ونشر الشائعات والتشكيك، والتمييز العنصري، ونشر التفاهات، ولم يعد المحتوى الصادق الجاد والموضوعي يحظى بقبول مرتادي وسائل التواصل الاجتماعي، بل طغت المواد المحركة للغرائز والضغائن والمليئة بالغثاءات والتفاهات والرداءات، ولذلك أطلق على هذا العالم المعاصر "عالم الرداءات". وقد أدى هذا إلى حالة من الشك واللايقين تجاه ما يقرأه الناس وما يسمعونه وما يشاهدونه سواء في الإعلام التقليدي أو الإلكتروني أو حتى من بعضهم البعض، وسادت حالة من الشك والشائعات والتوجس العام، وأثر هذا كثيرا على الأمن المجتمعي والترابط المجتمعي.
تأثير الثقة في المجال الديني:
كان المجال الديني يحظ بقدر كبير من الثقة، فالدين يمثل المقدس لدى الناس، وعلماء الدين اكتسبوا ثقة كبيرة من حملهم للرسالة المقدسة للناس، وكل من تظهر عليه مظاهر التدين كان يلقى ثقة وتقديرا من الناس، ولكن حين ظهر دعاة للدين تأكد الناس من سلوكهم أنهم مدّعين أو باحثين عن المال أو الشهرة أو النفوذ أو تابعين لأصحاب السلطة، اهتزت ثقة الناس بالدعاة، وأيضا من تبدو عليهم مظاهر التدين صدرت منهم أو من بعضهم تصرفات تعكس تناقضا شديدا بين المظهر المتدين والسلوك السيكوباتي الانتهازي، فاهتزت ثقة الناس بمظاهر التدين. وقد أدى هذا لتعميم نظرة سلبية تجاه علماء الدين والمتدينين وحتى الدين نفسه من قبل أفراد ومجموعات من العلمانيين أو الملحدين لكي يضربوا الدين في مقتل وهم يستغلون سلوكيات بعض الدعاة وبعض المتدينين لإثبات أن كل الدعاة وعلماء الدين وكل من تبدو عليهم مظاهر التدين مخادعين للناس ويستغلون اللافتات الدينية من أجل تحقيق مصالح خاصة.
الثقة والحالة الاقتصادية:
كتب فرانسيس فوكوياما كتاب "الثقة: الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي"، إذ بات من المؤكد أن سمعة الدول ومؤسساتها وشركاتها تكمن في ثقة المواطن أو المستهلك في منتجها أو خدماتها، وقد برز مؤخراً سوق اقتصادية جديدة تعتمد على "الثقة أونلاين"، وتتمثل في التجارة الإلكترونية والبيع عبر القارات بضمانة الثقـة، كما هو الحال مع مبيعات شركة أمازون التي اعتمدت على نظام أخلاقي مبني على الثقة في الجودة والشفافية وإتاحة فرصة إبداء الرأي والتساهل في نظام الاسترداد.
ويعد الاقتصاد من أهم المؤسسات التي تتطلب الثقـة في جميع مراحلها وعلى كافة مستوياتها، وقوة عملات الدول أو انهيارها غالباً ما تكون مرتبطة بالثقة في اقتصاد الدولة وأداء مؤسساتها المالية. وعلى مستوى الشركات الاقتصادية فإن سمعتها تساهم كثيرا في نجاحها فتزيد أسعار أسهمها في البورصة ويزيد الإقبال على التعامل معها وشراء منتجاتها. والناس حين يشترون منتجا لشركة مشهورة "براند" فإنهم يدفعون مبالغ أكبر من قيمتها الحقيقية والسبب في ذلك يرجع إلى الثقة في المنتج نتيجة لتجارب الثقة في الشركة. وهذا ينطبق على المشروعات الصغيرة مثل محل بقالة أو سوبرماركت أو أي صاحب صناعة، فكلما زادت الثقة زاد الإقبال وزاد الدخل وعمّ الرخاء.
ويلاحظ أن مستوى الثقة في الدول الفقيرة متدني سواء بين أفرادها أو في مؤسساتها، وتتأثر أيضا عملتها وتتدهور بسبب ضعف الثقة فيها. ومن هنا يبدو أهمية استعادة القيم الأخلاقية في المجتمع وبالتالي استعادة الثقة، ويكون هذا مدخلا من مداخل تحقيق الرخاء الاقتصادي في الدول الفقيرة.
ضعف الثقة في المؤسسات الدولية:
لقد تم إنشاء الأمم المتحدة وفروعها من المنظمات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية لتكون صمام أمان على المستوى الدولي، وتكون حكما في الصراعات الدولية وتنزع فتيل الحروب، وترد المعتدين حتى لا يتكرر سيناريو الحرب العالمية مرة أخرى. وقد لعبت الأمم المتحدة دورا في وقف بعض الحروب والصراعات دون شك، ولكن في العقود الأخيرة وبسبب هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الكبرى على قرارات الأمم المتحدة فقد رأينا اذدواجية في المعايير، والتحكم في كثير من قرارات الأمم المتحدة لصالح القوى الكبرى وحلفائها، وقد بدأ هذا واضحا في عدوان إسرائيل على فلسطين على مدى 75 عاما تصدر قرارات تدين إسرائيل ولكنها لا تفعّل، وفي أوقات كثيرة قد لا تصدر قرارات أصلا على الرغم من انتهاكات إسرائيل الفاضحة لحقوق الإنسان واحتلالها لأرض فلسطين والفتك بأهلها. وقد زاد الطين بله ما حدث أخيرا في غزة بعد السابع من أكتوبر 2023، حيث قامت إسرائيل بتدمير 80% من المباني والمنشآت في غزة وقتلت أكثر من ثلاثين ألف شخص وأصابت أكثر من مائة ألف شخص بإعاقات بالغة (حتى كتابة هذه السطور، ومازال العدوان الوحشي مستمرا)، وقامت بتهجير مليونين من أهل غزة من مساكنهم، وارتكبت جريمة إبادة جماعية وتطهير عرقي بكل ماتعنيه تلك الكلمات في القانون الدولي، ومع ذلك عجزت المؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة عن وقف تلك الإبادة الجماعية والتهجير القسري والتطهير العرقي، وكل ذلك بسبب هيمنة أمريكا والقوى العظمى في العالم. وهذا السقوط والانهيار في الثقة تجاه تلك المؤسسات الدولية يضع العالم على حافة خطر الدخول في صراعات دامية لايستطيع أحد أن يوقفها.
الثقة ورأس المال الاجتماعي:
يربط كثير من العلماء بين الثقة ورأس المال الاجتماعي Social Capital، حيث يؤكد عالم الاجتماع جيمس كولمان، وهو من المنظرين الأساسيين لرأس المال الاجتماعي، أن جزءاً مهماً من رأس المال الاجتماعي موجود في شبكة العلاقات الاجتماعية ومرتبط بقدرة الناس على التواصل فيما بينهم، وهو عنده أمر حاسم وبالغ الأهمية لكل جانب من جوانب الوجود الاجتماعي، وليس للحياة الاقتصادية فقط، ولذلك تعتمد قدرة الأفراد على التواصل في مدى اشتراكهم واتفاقهم على القيم والمعايير الأخلاقية ومقدرتها على إخضاع المنافع الشخصية الضيقة للمصالح الجماعية الأشمل، وهذه القيم المشتركة لا تتم إلا بوجود عنصر الثقة.
كيف تبني الثقة مع شريك الحياة:
1 – تحرى الصدق في كل ماتقوله حتى في الأمور البسيطة.
2 – كن واثقا مما تقوله، فأحيانا تهتز وتضطرب فتبدو وكأنك تخفي شيئا فيزرع ذلك بذرة الشك.
3 – لا تحلف.
4 – احترم عقل وتقدير الطرف الآخر ولا تستهين أو تستخف به.
5 – كن مستعدا للمساءلة والمحاسبة.
6 – كن مستعدا للعطاء والأخذ.
7 – كن صادقا في التعبير عن مشاعرك.
8 – سارع بالاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه وتصحيحه فورا.
9 – لا تعطي وعودا تعجز عن الوفاء بها.
10 – صارح الطرف الآخر بما تقدر وبما لا تقدر عليه.
قياس الثقة:
تمتاز الثقة بأنها قابلة للقياس على جميع مستوياتها سواء الفردية أو الجماعية، وهذا من الأهمية بمكان لمعرفة رأس المال الاجتماعي للفرد، ولمعرفة مدى الثقة بين شركاء الحياة، ولمعرفة مدى الثقة في الهيئات والشركات والوزارات والحكومات.
ويجري المنتدى الاقتصادي العالمي دراسات سنوية لقياس ثقة الناس في الحكومات والمؤسسات والشركات العالمية والشركات المحلية الكبيرة، وكان يأتي في مقدمة من يحوز على ثقة الناس سنوياً منذ بدأ المسح "المؤسسات غير الحكومية"، وتحديداً: المؤسسات الخاصة الوطنية والدولية غير الهادفة للربح، والتي تعالج القضايا الاجتماعية مثل: الصحة وحقوق الإنسان والفقر والبيئة.
ويعد مقياس إدلمان Edelman من أهم وأشهر المقاييس المعنية بقياس الثقة في الحكومات، إذ يقوم برصد ثقة المواطنين في المؤسسات من خلال أربعة مجالات هي: الحكومة، والمنظمات غير الحكومية، والأعمال، والإعلام. بحيث يسأل المواطنين عن مدى ثقتهم في كل مؤسسة عن طريق تقييمها من 1- 9، ورقم واحد يعني لا أثق أبداً، ورقم تسعة يعني الثقة الكاملة. ويحسب المقياس متوسط الثقة في المجالات الأربعة، ويقسم الدول من 1- 100، والدول التي تقع في المستوى من 60- 100 فهي تتمتع بثقة مواطنيها، والمستوى من 50- 59 يعد ثقة محايدة، والمستوى من 1- 49 يعد ثقة منخفضة. وقد بدأ إصدار مقياس إدلمان عام 2001م، ووصل عدد الدول التي نفذ فيها المقياس في دورة 2018م إلى 28 دولة، كانت الإمارات هي الدولة العربية الوحيدة من بينها.
ختاما:
إن موضوع الثقة يشكل عاملا مهما في سعادة الفرد وطمأنينته وسلامه النفسي وشعوره بالانتماء للأسرة وللمجتمع وللإنسانية، ويفيده في التعامل والتعاون مع الآخرين في إنجاز المهام الكبرى، كما تمكن الثقة في المؤسسات من تقييم هذه المؤسسات وتحسين أدائها. والثقة تكمن وراء نجاح الأفراد والمجموعات والمؤسسات وتكمن وراء الرخاء الاقتصادي وتحقيق الرفاه وتحسين جودة الحياة.
واقرأ أيضا:
جائحة خطاب الكراهية / الدعم النفسي للأشخاص في زمن الأوبئة والحروب3