الدماغ النفسي الديناميكي The Psychodynamic Brain
حين نتحدث عن بنية الإنسان النفسية فالحديث يدور دوماً حول مفاهيم المدرسة التحليلية النفسانية التي قسمت عقل الإنسان فرضياً إلى ثلاثة أجزاء:
الجزء الغريزي والذي يدعى بالهو هي ID
الجزء الواعي الذي يتعامل مع الواقع يومياً ويدير وظائف الإنسان التنفيذية والذي نسميه أنا Ego
وأخيراً هناك الأنا العليا أو بالأدق الضمير الذي يستند على مفاهيم اجتماعية وروحية تم ترسخيها في داخل الإنسان في حيز وعيه أو دون وعيه ونسميه الأنا العليا أو الفائقة Superego.
من الأفضل تصور هذا التقسيم لعقل الإنسان1 أو دماغه على أنها مجموعات ثلاث من الوظائف التي لديها ارتباطات عصبية بيولوجية. موقع الهو/هي في الدماغ في المنطقة التحت قشرية في الدماغ Subcortical المعروفة بالجهاز الحوفي Limbic ، جذع الدماغ Brain Stem، تحت المهاد Hypothalamus، جزء من الفص الصدغي Temporal Lobe ، جهاز الشم، التلفيف المجاور للحصين Parahippocampal ، القشرة الجبهية الحجاجية، Orbitofrontal Cortex والقشرة الحزامية الأمامية Anterior Cingulate.
الأنا Ego يسعى إلى السيطرة على الهو/هي ID وارتباط الأنا هو بالقشرة المخية، وبالذات الفص الجبهي الأمامي، والهو/هي بالجهاز الحوفي Limbic System فإن الدائرة الدماغية المعروفة بالقشرية الحوفية Cortico-limbic في نشاط مستمر لضمان تعديل عاطفي يسد احتياجات ناقصة أو منع الإفراط بها. هذه الفعالية للدائرة القشرية-الحوفية هو ما نسميه بالدفاعات النفسانية للأنا Ego Defence Mechanisms.
أما الأنا العليا فهي مرتبطة بمناطق واعية في القشرة المخية الجبهية الأمامية، القشرة الحزامية Cingulate Cortex، اللوزة Amygdala والفص الصدغي حيث يتم تخزين ذكريات الإنسان وتعليمه.
يمكن تصور الجزء الثاني الواعي المعروف بالأنا بجزء وظيفي يدير به الإنسان حياته العقلية الداخلية ويدير أيضاً علاقته بالعالم الخارجي. حين يصدر الحكم على إنسان بالقوة فذلك يعني قوة الأنا فيه وحين نصفه بالضعيف فالضعف يكمن في هذا الجزء منه الذي يتفاعل مع العالم الخارجي. من هنا يأتي الحديث عن وظائف الأنا Ego Function. تشمل وظائف الأنا اختبار الواقع، إصدار الحكم، القدرة على إقامة علاقات مع الآخرين، المقدرة على تنظيم المحفزات المختلفة، السيطرة على الاندفاع، السيطرة الوجدانية، المقدرة على التمتع بفعاليات مختلفة، الوعي الذاتي وضمان احترام الذات، واستخدام دفاعات نفسانية لحماية الذات Ego Defence Mechanisms. الدفاعات النفسانية هي عمليات نفسانية غير واعية يلتجأ إليها الإنسان لحماية نفسه من أفكار ومشاعر قد تطغى عليه وتسبب قلقاً لا يطاق. في نفس الوقت هناك ما نسميه الأنا العليا أو الأدق الأنا الفائقة التي مهمتها توليد الشعور بالذنب.
لكي نستوعب ما هو اللاوعي وما هو لا وعي وعلاقة ذلك بأعراض القلق يجب الانتباه إلى أن فعالية جذع الدماغ المستمدة من الجهاز العصبي اللاإرادي هي مصدر الوعي الوجداني Affective Consciousness للإنسان حين نراه منعزلا أو هادئا أو غاضباً، أما الوعي المعرفي Cognitive consciousness فمصدره القشرة المخية التي هي المركز الحسي الحركي للإنسان.
قوة الأنا/قوة الإنسان
ليس من الصعوبة الحفاظ على التوازن إذا كانت حياة الإنسان هادئة بدون تحديات ومشاكل، وهذا من الصعب ملاحظته في مختلف قطاعات الحياة. لكن تقييم قوة الأنا Ego Strength هو المحافظة على السيطرة والتوازن عندما يتعرض لتحفيز داخلي أو خارجي. الإنسان القوي قادر على ذلك وأما الإنسان الضعيف فلا يقوى عليه، وحين نتحدث عن وظائف الأنا فالحديث هو عن أدوات الأداء العقلي التي يستخدمها الإنسان لتحقيق ذلك.
يكتسب الإنسان قوة الأنا من خلال عوامل بيولوجية تكوينية وعوامل بيئية منذ الطفولة إلى البلوغ وربما ما بعد البلوغ أيضاً مع تحارب الحياة. وظائف الأنا يمكن تقسيمها إلى قسمين: القسم الأول الذي يعني بالتعامل مع المحفزات الخارجية ووظيفة الأنا هو حماية الإنسان من تأثيرها سلبيا عليه وتشمل اختبار الواقع والإحساس به، وتنظيم التحفيز الذي يتم استقباله، والعلاقات مع الآخرين. أما الجزء الثاني من وظائف الأنا فهي تلك التي تواجه محفزات داخلية وتحاول منعها السيطرة على الإنسان عن طريق منع الشعور بالقلق، التحكم في الانفعالات، استخدام الدفاعات المناسبة واستخدام الوظائف الإدارية المعرفية.
فشل الإنسان في السيطرة على التحفيز الذي يواجهه سببه واحد من اثنين:
١- إفراط في التحفيز الخارجي من جراء الصدمات والعزلة وغياب من يحتوي الإنسان ويحميه، أو إفراط التحفيز الداخلي ومصدره دوماً اضطراب القلق أو اضطرابات المزاج المختلفة.
٢- صعوبة التعامل مع التحفيز وسببه انخفاض عتبة الإنسان للشعور بالقلق، ضعف التحكم في الانفعالات، وضعف المقدرة المعرفية.
تفصيل الوظائف النفسانية الواعية
الوظائف النفسانية الواعية2 هي ما نسميها أحيانا وظائف الأنا هي:
١- الإحساس بالواقع واختباره: هي القدرة على التمييز بين التصورات الحقيقية وغير الحقيقية والمخالف لذلك هو الهلاوس، والوهامات وتصورات مشوهة بشكل صارخ لأحداث الواقع. في ضمن هذا الإطار يدرك الإنسان بإحساس سليم في جسده وما يحدث حوله ويعلم أنها أحاسيس حقيقية على عكس الإنسان الذي يلتجأ إلى التفارق عن الواقع والتفارق عن جسده والتي يتم وصفها بتبدد الواقع واختلال الانية.
٢- الحكم السليم ويعني ذلك إدراك توافق سلوكه مع الظروف والبيئة والعواقب اجتماعية أو قانونية لسلوكياته.
٣- العلاقة مع الآخرين التي يتم حصرها في إطار علاقات الكائنات أو الأشياء Object Relations والمقصود بذلك توقعات وتصورات الإنسان من الآخرين وعلى نطاق أوسع جودة نمط علاقة الإنسان مع الآخرين مدى الحياة. يمكن القول بأن هذه الوظيفة لا تعني مجرد القدرة على تكوين علاقات والحفاظ عليها وإنما الحفاظ على علاقات مستقرة وحميمية إطارها الحب والمشاركة والتعاطف. عدم القدرة على ذلك ترسل الإنسان صوب العزلة أو الدخول في علاقات يسعى من خلالها استغلال الآخرين أو ذلك الإنسان الذي في خوف مستمر من فراق الآخرين.
٤- تنظيم التحفيز الحسي: يستقبل الإنسان بصورة مستمرة تحفيز حسي خارجي مثل الضوضاء ومحفزات داخلية جسدية مثل الألم. مع تنظيم حسي سليم يتم يتم ضبط المحفزات التي لا أهمية لها مثل الضوضاء بصورة تلقائية وينتبه الإنسان فقط إلى التحفيز المهم. على سبيل المثال حين يستمع الفرد إلى محاضرة يكون التركيز على ما يتحدث به المحاضر بدلا من الضوضاء الخارجية. حين يتحدث الزوج مع زوجه يكون التركيز على مضمون الحديث بدلاً من الصوت الصادر من المذياع في الغرفة.
٥- التحميل الوجداني والعاطفي هو القدرة على تحمل وتنظيم القلق ومختلف العواطف الإيجابية والسلبية التي تهاجم الفرد بين الحين والآخر مثل الغضب، والحسد، واليأس، والحب. لكل إنسان عتبته قبل أن تراه يستسلم لهذا العواطف وينتقل إلى موقع تقلبات المزاج.
٦- تحكم الانفعال Impulse Control: التحكم الجيد بالانفعالات يؤدي إلى توجيه المشاعر والتصرف بطريقة خاضعة لرقابة الإنسان نفسه في حين ضعف التحكم في الانفعالات يؤدي إلى سلوكيات غير مقبولة تؤثر سلبياً على الفرد وطالما ما يصاحب ذلك الإفراط في استعمال مواد كيمائية والنهم العصبي ونشاط جنسي متهور.
٧- القدرة على اللهو أو الانحدار في خدمة الأنا وتعني المقدرة على الاسترخاء والانجراف صوب أحلام اليقظة وتجربة المشاعر والحوافز اللاواعية دون الشعور بالقلق أو الإفراط في التحفيز. هذه الفعالية النفسانية طالما تكون أحد مصادر إبداع الإنسان وكذلك التواصل مع مشاعر عميقة قد لا يدركها الآخرون. الإنسان الذي لديه القدرة على هذا الانحدار يميز ما هو حقيقة وما هو خيال أما الإنسان المعتل نفسانيا فالتوجه صوب الخيال يرسله إلى موقع متقهقر يشعر فيه بالارتباك وعدم الارتياح.
٨- الوعي الذاتي والتعقل النفساني ويعني ذلك إدراك الإنسان لمشاعره الداخلية وكذلك إدراك مشاعر الآخرين ودوافعهم. الإنسان الذي يفتقر إلى الوعي الذاتي لا يعير أهمية لسلوكياته ولا يفسر أسباب أفعاله وطالما يكون جوابه لسؤال لماذا تفعل ذلك هو لا أعلم.
٩- تنظيم احترام الذات والتقييم الذاتي ويعني ذلك مقدرة الإنسان على تنظيم نفسه في مواجهة التحديات وكذلك تقييم مقدراته الحقيقية على أرض الواقع.
١٠- الوظائف المعرفية وهو ما يحمله الإنسان في داخله من ذكاء فطري وتركيز وذاكرة وغير ذلك وربط جميع هذه المعدات الفطرية التكوينية لربط تجاربه السابقة وحل المشاكل الحاضرة والتفكير المجرد.
١١- الدفاعات النفسانية للأنا Ego Defence Mechanisms
هذه آليات نفسانية لا واعية وتلقائية يستجيب العقل من خلالها للإجهاد الداخلي والخارجي والصراع العاطفي، وبالتالي فهي تحد من وعي الإنسان بالتأثير المؤلم مثل القلق والاكتئاب وتحل النزاعات العاطفية الداخلية. هذه الدفاعات عموما تتفاوت في درجة تكيفها فهناك التي تساعد الإنسان على التكيف بصورة جيدة وهناك ما لا تساعده على التكيف إطلاقاً.
يمكن تقسيمها بصورة عامة إلى مجموعتين الأولى تستند على القمع أو الكبت Repression وهي أكثر تكيفاً والمجموعة الثانية تستند على الانشطار Splitting وهي أقل نضجاً وتكيفاً.
يرتبط استعمال الدفاعات النفسانية بنظرية علاقات الكائن والشيء Object Relations. ثبات الكائن Object Constancy هو القبول بالصفات الإيجابية والسلبية الموجودة في الآخرين في حين ديمومة الكائن Object Permanency هو معرفة وجود هذا الكائن حتى وإن كان بعيداً عن الأنظار. الانشطار هو عدم تحمل وجود شيء سيء في شخص جيد فهو بالتالي يستعمل الانشطار بين الحين والآخر لفصل الإنسان القريب منه إلى إنسان مثالي تماما أو سيء تماما. الانشطار عملية دفاعية يستخدمها الأطفال ويتخلصون منها مع النضج المعرفي والعاطفي واستمراراها بعد البلوغ وتفاقمها في مرحلة المراهقة هو أساس اضطراب الشخصية الحدية 3.
المصادر:
1- Rege S. Unlocking the neurobiology of Freud’s psychoanalytic theories .Psych scene Hub. Online 24 November 2024.
2- Lake B. Concept of Ego Strength in psychotherapy. BJPsych 19 January 2018. Online Publication.
3- Leichsenring F. Splitting: an empirical study. Bull Menninger Clin. 1999; 63: 520-537.
واقرأ أيضا:
الاستياء الداكن والقضية الفلسطينية / المستحضرات الطبيعية وعلاج الاضطرابات الطبنفسانية