أثر الصوم في نفس المؤمن 4
10. الصّيام تهذيب نفسيّ
يتفاوت الناس في فضل الله عليهم، ففيهم القوي وفيهم الضعيف، وفيهم الغني وفيهم الفقير، وفيهم صاحب الجاه والسلطان، وفيهم الشخص العادي الذي لا سلطان له؛ وعندما يعطي الله من فضله أحداً أكثر من غيره، قد ينسى هذا الإنسان أن قدرته وقوته، أو غناه أو سلطانه، إنما هو فضل من الله وامتحان واختبار له، أيشكر أم يكفر هذا الفضل، فإذا ما نسي ذلك غرته قدرته، وغره ماله، ودعاه ذلك إلى أن يتكبّر ويتجبّر على الآخرين، ناسياً قدرة الله عليه، وأن الله هو الجبار، وهو القاهر فوق عباده.
وفي رمضان، يصوم المؤمن، ويمضي الساعات الطويلة بلا طعام ولا شراب، فيشعر بشيء من الضعف في قوته، ويشعر بالحاجة إلى الطعام والشراب، ويسره أن تغيب الشمس، حتى يتمكن من أن يأكل ويشرب من جديد.. إن الصائم يستشعر بهذا ضعفه البشري، فيقل اغتراره بقوّته، وتتطهر نفسه من نزعة التجبر والعلو في الأرض، إذ كيف يتجبر وهو لم يصبر دون طعام وشراب أكثر من ساعات؟ ولعل هذا من الفوائد النفسية الهامة للصيام، لأنه يُرجع المغرور إلى الواقع، ويخلصه من عقدة التفوق والعلو التي أفسدت عليه نفسه.
كما أن الصوم، بما يترك في نفس الصائم من إحساس بالضعف، والحاجة إلى لقمة طعام، وإلى جرعة ماء، هذا الصوم يجعل للآيات الكريمة، التي وعدت المؤمنين في الجنة: الطعام والشراب، ضمن ما وعدتهم به من نعيم، يجعل لها أثراً كبيراً في النفس، أكبر مما يكون لو أن الإنسان الذي أنعم الله عليه، قد أمضى عمره كله دون أن يجوع أو يعطش، فكما أن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء، لا يراه إلا المرضى، فإن الطعام والشراب نعمة من الله، لا يعرف قدرها إلا من جاع وعطش.
11. الفِطْر على التَّمْر
روى أبو داود والترمذي والدارقطني والبيهقي والحاكم في مستدركه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "كانَ رَسولُ اللّهِ ﷺ يُفطِرُ على رُطَباتٍ قَبْلَ أنْ يُصَلِّيَ، فإنْ لم يَكُنْ رُطَباتٌ، فتَمَراتٌ، فإنْ لم يكن تَمَراتٌ حَسَا حَسَواتٍ من ماءٍ".
كما روى الترمذي والبيهقي والحاكم في مستدركه وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه وله شاهد صحيح على شرط مسلم" عن سلمان بن عامر الضبي عن النبي ﷺ قال: "إذا أفطَرَ أحدُكم فليُفطِرْ على تَمرٍ، فإنْ لم يَجِدْ فليُفطِرْ على ماءٍ؛ فإنَّهُ طَهورٌ".
والرُّطَب هو التَّمْر الناضج الطازج، والرسول ﷺ كان إذا صام في موسم الرُّطَب في الصيف أفطر على رُطبات وفي غير موسمه أفطر على تمرات، فإن لم يجد الرُّطَب أو التمر أفطر على الماء. وفي حرصه ﷺ على الفطر على التمر مع تفضيل الرُّطَب، وإلا على الماء، ما يشير إلى أن في التمر خاصية لا توجد في غيره، وهي في التمر الناضج في موسمه أي الرُّطَب أقوى وأنفع، وقد شاركت عندما كنت أدرس الطب البشري في جامعة دمشق عامي 1976 و1977 في بحث علمي أجراه أستاذنا الدكتور محمد هيثم الخياط رحمه الله لمعرفة أثر الفطر على التمر على سكر الدم عند الصائم، فوجدنا سكر الدم المنخفض عند الغروب بسبب الصوم يرتفع خلال دقائق معدودة من تناول تمرة واحدة وقبل أن يمر الوقت الكافي لهضمها وامتصاص ما فيها من سكر، وكان الارتفاع في سكر الدم حوالي خمسة وعشرين بالمائة، أما ما تعجبنا منه فهو أن بعض الصائمين الذين كان سكر دمهم مرتفعاً فوق الحد الأعلى الطبيعي رغم صومهم أي كانوا مرضى بالداء السكري، انخفض سكر دمهم بشكل واضح وخلال دقائق قليلة من تناولهم لتمرة واحدة عند أذان المغرب. وكان أن طلبنا من عدد من زملائنا أن يحضروا إلى القسم المخبري في الجامعة صائمين على الريق ذات صباح بعد رمضان، وأخذنا عدة عينات من دمائهم: واحدة قبل أن يتناولوا التمرة ثم عدة عينات بفواصل زمنية بعد أن تناول كل منهم تمرة واحدة، وقمنا بمعايرة السكر والإنسولين في دمائهم.. فوجدنا الإنسولين يتضاعف عدة مرات خلال دقائق من تناول التمرة وفي الوقت نفسه يرتفع سكر الدم عندهم بنفس السرعة، وهذا يعني أن تمرة واحدة رفعت سكر الدم المنخفض ورفعت معه الإنسولين ليستفيد الجسم من ارتفاع السكر، كما فسر ذلك انخفاض سكر دم السكريين الذين أفطروا على تمرة، لأن الإنسولين يدخل السكر إلى الخلايا لتنتفع به وبالتالي يخفض مستواه في الدم. وكان تفسير أستاذنا لارتفاع السكر الفوري عند تناول التمر بأنه ناتج عن فعل هرموني مثل فعل هرمون الغلوكاكون الذي يرفع سكر الدم من الجسم نفسه حتى دون تناول أي سكر، ولعل هذا يفسر لنا كيف كان يكتفي الجندي المسلم في جيش العسرة بتمرة يمصها قليلاً ثم يخبئها ليمصها من جديد عندما يشعر بالجوع مرة أخرى لأن الطعام معهم كان قليلاً جداً.
هذه دراسة تحتاج من الباحثين المسلمين أن يعيدوها وينشروها وربما أن يدرسوا أثر الرُّطَب والتمر عموماً مع الماء على مزاج المرأة عند الولادة وبعدها، حيث تصاب الكثيرات بكآبة المزاج في الأيام التالية للولادة، وحوالي سدسهن يصبن بمرض الاكتئاب النفسي الذي يحتاج للعلاج الطبي الفعال، وقد أشارت الآيات الكريمة التي تحدثت عن ولادة مريم لعيسى عليه السلام إلى أكل الرُّطَب وشرب الماء ساعة الولادة وأثره في المزاج حيث تقر عين الوالدة ولا تحزن، فقد قال تعالى: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)) [مريم: 23 - 26] والسَّري جدول ماء. ولعل الدراسات تُجرى على الرُّطَب أو التمر الجديد لأن حرص النبي ﷺ على الفطر على الرُّطَب إن وجد وكذلك تشجيع عيسى عليه السلام لأمه لتأكل رُطَباً جنياً مما يشير إلى أن التمر يفقد هذه الخواص إن كان قديماً.
"صوموا تصحوا"
"صوموا تصحوا" حديث ضعيف لكن علوم الطب والفيزيولوجيا المعاصرين أبت إلا أن تشهد بصحة معناه وهو أن الصيام يفيد صحة الإنسان. فمنذ عشرات السنين تحدث علم الحيويات عن ظاهرة تحدث في الخلايا الحية عند الحيوان والنبات أسموها "الالتهام الذاتي" Autophagy حيث يوجد ضمن الخلايا الحية أجهزة تقوم بالتهام الفضلات وكل ما هو شاذ في الخلية وبداخلها يتم تفكيكه إلى مكوناته لتستخدم الخلية هذه المكونات كلبنات بناء ترمم بها نفسها، أي الالتهام الذاتي هو عملية تنظيف وإعادة تدوير لفضلات الخلية مثلما تعلمت المجتمعات المتقدمة أن تعيد تدوير فضلاتها. لم تلق ظاهرة الالتهام الذاتي الاهتمام الذي تستحقه حتى منحت جائزة نوبل في الطب والفيزيولوجيا عام 2016 للعالم الياباني يوشينوري أوهسومي Yoshinori Ohsumi لقيامه بأبحاث استغرقت سنين لكنها نجحت في تبيين الآليات والبنى التي تتم عن طريقها عملية الالتهام الذاتي.
الالتهام الذاتي يتنبه ويتفعل وينشط عندما تعاني الخلية من الضغوط والإيذاء الذي يخل بتوازنها الحيوي كما لو تعرضت الخلايا للاختناق ونقص الأوكسجين، أو للمجاعة ونقص الغذاء أو هاجمها فيروس أو بكتيريا أو حصلت فيها طفرات أدت لظهور خلايا سرطانية تهدد حياة الكائن. هنا تنشط عملية الالتهام الذاتي لتلتهم كل ما هو غير سوي ولا طبيعي ضمن الخلية. ومن جملة ما تلتهمه وتخلص الجسم منه الخلايا السرطانية إلى حد أن الأطباء يحاولون تنشيط ظاهرة الالتهام الذاتي عند اعطاء مريض السرطان العلاج الكيماوي أو الشعاعي لأن الالتهام يزيد فعالية العلاجات المضادة للسرطان على اختلاف أنواعها.
لكن كيف نحرض عملية الالتهام الذاتي في أجسامنا دون أن نتعرض لما هو ضار أو خطير؟ لقد أتى الجواب مذهلاً: الصيام المتقطع intermittent Fasting والمقصود بهذا النوع من الصيام الامتناع عن الطعام لساعات كل يوم. وما يزال الباحثون لم يصلوا إلى عدد الساعات المفيد صيامها لكنهم كثير منهم ينصحون باثنتي عشرة ساعة يتلوها الأكل كالمعتاد ولا يشترط تعمد إنقاص الوزن وإن كان ذلك لا يعيق تنشيط هذا الصيام لعملية الالتهام الذاتي في خلايا الجسم. منهم من لا يسميه صياماً إلا إن كان ستة عشرة ساعة أو أكثر. إنه صيامنا في رمضان وغير رمضان إلا أن الطب حتى الآن لا يشترط الامتناع عن شرب الماء.
أثبتت الدراسات أن الصيام المتقطع المماثل للصيام الإسلامي يضعف خلايا السرطان أمام العلاج ويجعلها أكثر هشاشة وأسهل في القضاء عليها.
منذ فاز العالم الياباني "أوهسومي" بجائزة نوبل على دراساته للالتهام الذاتي كثرت الأبحاث والمؤلفات عن الصيام المتقطع المماثل لصيامنا لكن لا يشترط فيه نية العبادة.
بالبداهة الإنسانية قيام الخلية بتنظيف نفسها من الفضلات والسموم عبر الالتهام الذاتي لا يمكن إلا أن يكون مفيداً لصحة الخلية وصحة الكائن، والطب كل يوم يقدم دليلاً جديداً على أن ربنا ما شرع لنا إلا كل ما ينفعنا في دنيانا قبل آخرتنا. إنه الإسلام دين يصلح الدنيا قبل إصلاح الآخرة.
من كتاب سكينة الإيمان ط2
تأليف الدكتور محمد كمال الشريف
استشاري الطب النفسي في مركز
كيور كير في جدة في السعودية
واقرأ أيضا:
الهُوال_2 PTSD: / سيكلوجية الإيمان والكفر5