الصيام.. أوله في النفس وآخره عند الله2
معنى الحرام والحلال
معنى الحرام والحلال.. إعادة الدرس الكوني الأول:
لو كان الحلال والحرام يتحدد بعقل الإنسان ومنطقه وهواه، لما كان للتوقف عن الطعام والشراب والجماع في نهار رمضان معنى، إذ قد يرى العقل في استمرار هذه الأشياء إعطاء قدرة للإنسان على العمل والسعي وحتى على العبادة، أو قد يرى أنه لا معنى لتحريم الطيبات من الرزق في أوقات وحلها في أوقات أخرى. وهذه إشكالية وقع فيها أبونا آدم عليه السلام حين أبيحت له الجنة بكل ما فيها من نعيم، وحرمت عليه شجرة واحدة، فتحركت نفسه فضولا ورغبة إلى الشجرة المحرمة ونسي العهد حين تأججت هذه المشاعر والتعلقات فاشتاق قلبه ونظرت عينه وامتدت يده، وفى لحظة التمني بالأكل والشبع والخلود والملك الذي لا يبلى يكتشف آدم أنه خسر كل شيء حتى ما كان يستر سوأته، واكتشف أن الشجرة ليست محرمة في ذاتها، ولكنها محرمة بأمر خالقها وخالقه، وتعرف آدم وقتها على هذا الجسر الشفاف الذي يفصل بين الحرام والحلال، وما زلنا في حاجة إلى أن نعي هذا الدرس الكوني الأول الذي تلقاه أبونا آدم نيابة عنا.
ولم يترك الله آدم يضيع ضحية نسيان أو خطأ فأكمل له الدرس بتعليمه كلمات التوبة كوسيلة للتطهر من ذنوب تطرأ نتيجة الطبيعة البشرية القابلة للفجور والتقوى. والصيام هو من أقوى العبادات التي توقظ الوعي بهذا الجسر الشفاف بين الحلال والحرام، فالطعام والشراب أمامك الآن، وهما من الطيبات في العادة، وزوجتك الحلال بجوارك الآن وهي لك بحكم الشرع، ولكنك في ذات اللحظة تبصر هذا الحاجز الخفي القوي يحول بينك وبين هذه الأشياء، وتدرك معنى الحرمة والحل وظروفهما فتستدعي في وعيك الدرس الكوني الأول الذي تنساه دائما تحت وطأة الحياة وبريقها، والنفس وأطماعها، ووساوس الشيطان تغريك بهذا وذاك.
إعادة البرمجة
يتعرض الجهاز النفسي لاختراق الكثير من الفيروسات لبرامجه الأساسية والفرعية، وقد ينجح جهاز المناعة المضاد للفيروسات في تنقيته من بعضها، ولكن البعض الآخر يواصل تمكنه وتغلغله، وهنا تحدث تشويشات برمجية، بل قد توجه تلك الفيروسات نشاطات الجهاز النفسي لخدمة نموها ولتحقيق أهدافها فيصبح الإنسان مسخرًا بكل طاقاته لخدمة عدوه ولتدمير ذاته.
ولهذا يحتاج الجهاز النفسي لنظام متجدد ونشط لمقاومة تسلل الفيروسات إليه، وربما لهذا (ولغيره) شرعت العبادات بمستوياتها المختلفة، فالصلاة تطهير ونظافة خمس مرات في اليوم والليلة، وقد يضاف إليها برامج تطهير إضافية ممثلة في صلاة النوافل، وهي تمثل خطا دفاعيا ثانيا يلتقط ما أفلت من الفيروسات لقصور في بعض الفرائض. والصيام تطهير سنوي للفيروسات المزمنة التي اختبأت في ثنايا الجهاز النفسي واستعصت على البرامج الأخرى، والزكاة برنامج خاص يطهر النفس من فيروسات البخل والشح والطمع والرغبة في التملك بلا حدود، والحج برنامج شامل يمسح البرامج التالفة كلها ويهيئ النفس لتلقي برنامج جديد تماما.
والتطهير وإعادة البرمجة يمران عبر طريق من الحرمان والسهر والصلوات وقراءة القرآن وقيام الليل والصدقات والدعوات، وذلك يستمر فترة طويلة نسبيا يعطى القدرة على التغيير الحقيقي للجهاز النفسي، وحين تصل الطهارة إلى غايتها ويتم تصحيح أخطاء البرمجة تصبح النفس قادرة على التواصل مع خط السماء، وتصبح مهيأة في العشر الأواخر لبلوغ ليلة القدر، أي لالتقاط التردد الموجي للسماء بشكل صاف وواضح.
الالتئام النفسي والاجتماعي
تحدث بسبب تضارب الاحتياجات والمصالح والرغبات حالات شتى من التمزق النفسي والاجتماعي، وتأتي الفرصة في رمضان مع كل ما ذكرناه من تغيرات في داخل النفس وخارجها لكي يحدث الالتئام النفسي وتداوي الجروح وتجبر الكسور. كما أن طقوس رمضان في الاجتماع على الإفطار والسحور، والسمر "معًا" والصلاة "معًا" والصيام "معا"، كل هذا يساعد على التأم الكثير من العلاقات الاجتماعية التي تمزقت، فمن كانت بينه وبين أحد خصومة سيجد الفرصة مهيأة لديه ولدى الآخر لرأب الصدع ولم الشمل.
نعم الآن أستطيع:
كثيرا ما يقول الإنسان: لا أقدر.. لا أستطيع.. فالجائع يدّعي أنه لا يصبر على الجوع، والعطشان يقول بأنه لا يصبر على العطش، والمدخن يؤكد عدم قدرته على التوقف عن التدخين.. ثم يفاجأ الجميع في رمضان ومع الصيام أنهم قادرون على كل هذا، وهذا يكشف تهافت دعاوى العجز والخور والهزيمة، ويؤكد إمكانية الفعل واقتحام العقبات. ليس هذا فقط بل يشاء الله سبحانه وتعالى أن تحدث انتصارات عسكرية تاريخية للمسلمين وهم صائمون ليكون هذا دليلا على أن الإنسان لديه طاقات هائلة تتفجر بداخله حتى وهو في حالة الجوع والعطش والحرمان، وهنا تتلاشى (أو يجب أن تتلاشى) كلمات مثل "لا أعرف.. لا أستطيع... لا أقدر".
واقرأ أيضا:
إعادة شحن الكراهية / التحليل النفسي لشخصية نتنياهو -دكتاتور إسرائيل-4