الجنس بين الطرحين: العلماني والإسلامي1
مفهوم العفة:
والمقصود به: تقصيد الممارسة الجنسية أولا، ثم تصحيح النظرة إلى المرأة. والمراد بتقصيد الممارسة الجنسية هو ربط الشباب بالمنطلقات التربوية التي تبني الإرادة؛ ذلك المفهوم الغائب والمغيب في المشهد العربي والإسلامي، ذلك المفهوم الذي تحتاجه الأمة لمواجهة التحديات. فالصبر وغض البصر والانشغال بالعبادة والأدوار الرسالية ينبغي ألا يفهم من وراء ذلك -حسب الزعم العلماني- أنه مجرد حل طوباوي غير واقعي لمشكلة واقعية، أو هو إلغاء للبعد الجنسي للشباب، بل إن ذلك يعتبر نوعا من المساهمة الفعالة والمشاركة القاصدة في بناء الأمة. ويقصد بتصحيح النظرة إلى المرأة بهذا المفهوم أنه ليست المرأة هي تلك التي تقضي معها لذة عابرة قصيرة، ثم تستبدل بها امرأة أخرى لتحصل على لذة مغايرة أكثر إشباعا، إنما المرأة هي رفيقة الدرب، المرأة الرسالية المشاركة في معركة البناء والتحرير.
والرغبة في المرأة ليس شيئا محرما في المنظور الإسلامي، إنما هي مشروطة بأن تكون رغبة كاملة في عقل المرأة ومنطلقاتها وقناعتها الاعتقادية والتصورية وروحها وخلقها وذوقها وجمالها وجسدها؛ فانظر كم تحتل تلك اللذة العابرة المتجددة ضمن هذا الكل، على أن الظفر بهذا الكل المنسجم لا يتأتى إلا بالمعاشرة الأبدية التي لا تُتصور في إطار مقبول نفسيا واجتماعيا إلا بعقد الزواج.
مفهوم الزواج:
وهو ليس فقط قناة لتصريف الممارسة الجنسية؛ بل إنه مؤسسة اجتماعية تسهم في تكوين اللبنة القوية لبناء أمة التغيير والشهادة. فالزواج في المنظور الإسلامي مؤسسة تربوية، وعلاقة عاطفية، ورسالة ثقافية، ومشروع اقتصادي، وتجمع سياسي، وممارسة جنسية... وهذه الأنواع من الوظائف ترتبط كلها بالمفهوم المركزي الذي أومأنا إليه سابقا: "رسالية الأمة".
تحصين المجتمع من الفاحشة:
فإذا كان التصور الإسلامي إيجابا يؤسس لمفهوم العفة ومفهوم الزواج؛ فإنه سلبا يحصن المجتمع من الفاحشة، وكل الظواهر التي قد تؤثر على النسيج المجتمعي؛ فيصبح عاجزا عن خدمة الهدف العام: رسالية الأمة. وهكذا يستعمل الإسلام كل الوسائل التربوية والثقافية والاجتماعية والقانونية في بعدها التربوي والزجري لمحاصرة الفاحشة، وجعلها في أضيق الحدود في أفق القضاء عليها حتى يتعافى المجتمع من كل الصيغ غير الشرعية لممارسة الجنس. فتشجيع مؤسسة الزواج وبث العفة عبر إشاعة المفاهيم التربوية باستثمار كل قنوات تشكيل الرأي والفكر والذوق يسهم إلى حد كبير في محاصرة الظواهر الخارجة عن إجماع الأمة، وتفعيل المقتضيات القانونية في بعدها التربوي والزجري يأتي أيضا ضمن هذا المنظور.
ملاحظات منهجية
يبدو من خلال عرض أسس كل من التصور العلماني والتصور الإسلامي أننا أمام مفاهيم متقابلة لا تكاد تشترك حتى في أدنى نتيجة أو معطى موضوعي، وهذا ما يفسر لنا بالضرورة الاحتراب الثقافي والإعلامي الموجود في الواقع بخصوص معالجة هذه المسألة. غير أن هذا لا يمنع من الإشارة لبعض الملاحظات المنهجية:
الملاحظة الأولى: إنه من المنهج أن نحدد حجم كل ثقافة وتربية ضمن المنتوج الذي نقدمه للمتلقي. ذلك أن الثقافة ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي مقصودة بالنظر إلى ما تقدمه من وظائف. ومن ثم فالحديث عن قصدية التربية الجنسية والثقافة الجنسية في علاقتها برسالية الأمة ووظائفها الحضارية أمر مشروع بل مطلوب، في حين يبدو أن تضخيم مفهوم الثقافة الجنسية بحيث يجعل هو المحور الأساس والقضية المركزية في كل تناول وتعاطٍ يُعتبر من قبيل الخبط المنهجي والاضطراب الموضوعي.
الملاحظة الثانية: إن مفهوم السلامة النفسية ومفهوم المرض والعقد النفسية لا يمكن بحال أن يرتبط بمدى الإشباع الجنسي أو عدمه ما دامت العفة كمفهوم تربوي يخلق من الراحة النفسية الإضافية التي قد تجعل الفرد منصرفا حتى عن همومه اليومية الاستهلاكية، منخرطا في هموم الأمة وأدوارها الرسالية. ثم إن المرض النفسي والعقد النفسية من الناحية العلمية لها محدداتها وشروطها وأسبابها التي ليس هذا مجال بسطها، ويمكن بحال محاورة المتخصصين في هذا الشأن ليثبتوا علميا أنه لا علاقة بين العفة والعقد النفسية، وليس مستبعدا أن تجد من الناحية العلمية الموضوعية من المتعففين من يمتلك أعلى درجات السلامة النفسية، في حين قد تجد ممن يعيشون على الإشباع الجنسي مَن يتخبطون في أمراض نفسية قاتلة.
الملاحظة الثالثة: إن الحديث عن تقنين الظاهرة وتنظيمها قد يستبطن عجزا عن محاصرة الظاهرة ومعالجتها. فعدم قدرة أمريكا على منع الخمر ومنع تجارة الأسلحة هو الذي يفسر الإجراءات القانونية التي تتشدد أحيانا وتلين أحيانا أخرى لتنظيم الظاهرة وتقنينها. فهل عجزت المنظومة التربوية وجميع قنوات تشكيل الرأي والفكر والذوق، وكل الآليات القانونية الزجرية؟ وهل حطمت المناعة المجتمعية؛ فعجز كل أولئك عن محاصرة الظاهرة ومعالجتها؟ إنه سؤال يطرح على المقاربة السوسيولوجية التي تتعامل مع الظاهرة كمعطى موضوعي، ملغية الثوابت المجتمعية ورصيد المناعة المجتمعية.
الملاحظة الرابعة: يطرح على التصور الإسلامي سؤال الحل للمشكلة الجنسية، والواقع أن المشكلة المطروحة هي نتيجة الاختلال الموجود في الواقع، هذا الواقع الذي لم يكن التصور الإسلامي مسؤولا عن إنتاجه؛ إذ هو نتيجة اختيارات ثقافية وسياسية واجتماعية حاولت أن تتماهى مع النموذج الغربي طبقا لمنطق الغلبة والتبعية. وبناء على ذلك فليس من المنطقي أن نطلب من التصور الإسلامي أن يقدم حلا لمشكلات واقع لم يسهم في إنتاجه، اللهم أن يقدم حل تغيير الواقع عبر تفعيل الثوابت العقدية والتربوية، وإحياء المناعة المجتمعية عبر الوسائل التربوية والنضال على الواجهة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتنزيل شروط حل المشكلة، وذلك بـ:
- إصلاح الاختلال الاقتصادي بما يسمح بتأهيل الشباب لبناء مؤسسة الأسرة.
- تصحيح النظرة إلى المرأة، والنهوض بها، وإشراكها في التنمية المجتمعية.
- تفعيل المنظومة التربوية، وذلك باستثمار كل قنوات تشكيل الفكر والرأي والذوق بما يخدم إشاعة ثقافة العفة، وتحصين المجتمع من الفاحشة.
على أن توفير هذه الشروط يضمن السلامة للنسيج المجتمعي، ويعافيه من كل ظاهرة لممارسة الجنس في غير الصيغة الشرعية. وحين تتوفر كل هذه العناصر، وتنتفي كل العوائق الموضوعية، حينها فقط تتحرك المنظومة القانونية في بعدها التربوي أولا، ثم الزجري لمحاصرة كل ظاهرة تهدد النسيج المجتمعي المعافى؛ ذلك أن العقوبة في الإسلام إنما يدعمها الإجماع الثقافي والاجتماعي، بعد أن تترسخ القيمة التربوية في ضمير الأمة؛ فيبحث كل فرد في هذه الأمة -إن هُدد هذا الإجماع- عن "التطهير"، وهو مفهوم إسلامي المقصود به العودة إلى التكيف مع نسيج الأمة الاجتماعي.
اقرأ أيضا:
التربية الجنسية والطفولة / تصورات الجسد والجنس: رؤية نفسية