الفصل الأول: تطهّرهم وتزكّيهم بها
قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4)) "المؤمنون: 1-4". لقد بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإيقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً. لكن للصلاة والزكاة أهمية بالغة، إذ لا يكاد الإيمان يذكر في القرآن إلا وتذكر معه الصلاة والزكاة، وقد قاتل الصديق –رضي الله عنه– أقواماً من المسلمين منعوا الزكاة.
وعندما أذن الله للمؤمنين بقتال الكفار، وبشّرهم بتمكينهم في الأرض، ذكّرهم بما يريده منهم عندما يمكنهم فيها، فكان ما يريده منهم بالدرجة الأولى أن يقيموا الصلاة، وأن يؤتوا الزكاة، وأن يأمروا بالمعروف، وأن ينهوا على المنكر. قال تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ(41)) "الحج:41". إن الصلاة والزكاة مقدمتان على ما سواهما من العبادات في الإسلام، لما للصلاة من أثر في النهي عن الفحشاء والمنكر؛ إذ تقام لذكر الله، ولما للزكاة من أثر عظيم في النفس والمجتمع، فهي طهر للنفس ونماء للمجتمع. قال تعالى عن الزكاة وغيرها من الصدقات: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(103)) "التوبة: 103". إذاً الصدقات عموماً، والزكاة خاصة فيها تطهير للنفوس المؤمنة، وفيها النماء والزيادة والبركة للمجتمع المسلم. وكلمة زكاة تحمل المعنيين معاً. فالزكاة : الطهارة، والزكاة: البركة والنماء، وزكا الشيء زُكُوّاً وزكاءً وزكاة: نما وزاد، وزكّى الشيء وأزكاه: نمّاه (انظر إن شئت المعجم الوسيط).
لكن السؤال هنا هو: مم تطهّر الزكاة؟ وكيف يكون فيها النماء والزيادة؟
تطهّرهم:
تطهّر الزكاة والصدقات الأخرى نفوس المؤمنين من مشاعر سلبية عديدة، كالشعور بالذنب، والحسد، والحقد، والعداوة، والبغضاء، والقلق، والعزلة، والعجز، والنبذ، والهجران. فقد اقتضت حكمة الخالق سبحانه وتعالى أن يتفاوت فضله على عباده، فيكون منهم الغني ومنهم الفقير، ومنهم الصحيح المعافى، ومنهم المريض السقيم، ومنهم القوي، ومنهم الضعيف.
ونفوس المؤمنين نفوس تتربّى على التقوى، وتمتلئ بالضمائر الحية الحيية الرحيمة. والمؤمن إذا آتاه الله من فضله ما حرم منه غيره، هذا المؤمن ذو الضمير الحي لن ينعم بفضل الله ونفسه مرتاحة، وهو يرى غيره محروماً مما يتمتع هو به، حتى لو كان ما فضل به هو من قبيل الكماليات، وسيجد غصّة كلما تنعّم بعطاء الله.ومع أنه ليس هو المسؤول عن حرمان المحرومين، فإنه سيبقى يحسُ بالذنب، إذ هو ينعم بالفضل والزيادة وغيره محروم. وقد لوحظ الشعور الشديد بالذنب عند من نجا من المذابح ومعتقلات الاعتقال في الحروب الشرسة، بينما قُتل من كان معه من الأسرى. وهذا الناجي يشعر بالذنب لمجرد أنه نجا، بينما هلك الآخرون، مع أنه لا ذنب له في هلاكهم، ولم ينجُ على حسابهم إنما هو قدره وأجله، فكيف سيكون حال المؤمن صاحب الضمير الحي إذا تمتع بينما الآخرون محرومون؟
إنه لا بد سيعاني من إحساس بالذنب، مشابه لإحساس الناجين من الكوارث والمذابح التي مات فيها غيرهم. ونفس المؤمن لن ترتاح حتى يُشرك المحرومين فيما هو فيه من نعمة، ولكن هل يوزّع كل ما لديه من فضل الله على المحرومين لينضم اليهم، ويكونوا في الفقر والحرمان سواءً؟
إنّ هذا ليس هو الحل، فهو يعاكس الفطرة، كما يتعارض مع الحكمة التي من أجلها جعل الله فضله بين الناس متفاوتاً. وهنا تبرز الحكمة من فرض الزكاة على المؤمن يخرجها مما زاد عن حاجته مدة سنة كاملة، وتبرز الحكمة من تحديد الزكاة تحديداً لا غموض فيه، إنها إثنان ونصف بالمائة، يخرجها المؤمن من ماله الزائد عن حاجته، الذي بقي لديه سنة كاملة زائداً عن حاجته، ويهنأ بالسبعة والتسعين والنصف بالمائة الباقية لديه، يتنعّم بها بما أباحه الله له من الطيبات، دون أن يشعر بالإثم أو الذنب، وإن هو تصدق بأي شيء فوقها أحس بالرضا والارتياح الذي يشعر به المؤمن، كلما قام بعمل صالح تطوّعي يؤديه من تلقاء نفسه.
ولو أن الزكاة، وهي الحد الأدنى للصدقات، لم تحدّد برقم، وقام المؤمن بالتصدق بجزء من فضل الله عليه، ولنقل: إنه تصدّق بخمسة بالمائة فإنه قد يبقى لديه إحساس أنه مقصِّر في حق المحرومين، وأنه لا حقّ له في أن يتنعّم بالخمسة والتسعين بالمائة الباقية، وحتى لو زاد صدقته إلى عشرة بالمائة، فإنه سيبقى لديه القابلية للإحساس بالذنب والتقصير، وحتى لو زاد على العشرة بالمائة، أو العشرين بالمائة أو أكثر من ذلك، فإنه سيبقى من المؤمنين أناس ضمائرهم حيّة تحاسبهم، وتمنعهم من أن ينعموا بما بقي لديهم من فضل الله.
أما وقد حدّد الله مقدار الزكاة، فإن النفس ترتاح بعد أدائها، إذ يعلم المؤمن علم اليقين أن الله الحكيم الخبير قد فرض في أموال الأغنياء ما يسدُ حاجة الفقراء، فلا يستقل المؤمن مقدار الزكاة، وهو يعلم أن الله قد فتح باب القبول للصدقات التطوعية، وحثّ عليها، ووعد عليها الأضعاف المضاعفة إلى سبعمائة ضعف.
فالزكاة هي الحد الأدنى، وباب التطوع مفتوح، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأذن للصحابي بأن يتصدق بأكثر من ثلث ماله للفقراء حرصاً على حق الورثة. هذا بعد موت المؤمن، أما في حياته فإن عليه أن يحرص على من كلفه الله أن يعولهم، وينفق عليهم، فالأقربون أولى بالمعروف، وكل نفقة ينفقها على زوجه أو أولاده إنّما هي صدقة عظيمة الأجر، وأفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أي: الصدقة التي تُبقي المتصدق غنياً، لا التي تستهلك ماله، وتتركه فقيراُ.
والصدقات بما فيها الزكاة، إنما هي عطاء مجسّد، يتجلّى فيه قمة النضج النفسي عند الإنسان؛ لأن الإنسان الناضج نفسياً هو الإنسان المعطاء.
ولما كان عمر أربعين سنة يمثّل ذروة النضج عند الإنسان كان أيضا كما بينت الدراسات النفسية عمر الانتقال إلى مرحلة العطاء، إذ فيه يبدأ الإنسان بتوجيه أكبر قدر من قدراته للعطاء للآخرين، بدءاً بأولاده وانتهاء بجميع أفراد البشرية. والعطاء إنما هو حُب تجسّد، والحب الناضج إنما هو حب العطاء لا حبّ الأخذ والانتفاع. ومن يراقب الأطفال وحبّهم يلاحظ أنه حب أخذ وانتفاع، فالطفل يحب أمه وأباه ليأخذ منهما، أما البالغ فيحب ليعطي ويضحي من أجل محبوبه، وإن كانت الرومانسية تجعل للحب عند المراهقين والشباب شكلاً مميزاً. إن الصدقات بما تمثّله من معاني الود، وبما تجسده من الحب، الذي تفيض به نفس الغني الشاكر على إخوته المحرومين، إن هذه الصدقات تُطهّر نفوس الأغنياء في الوقت نفسه من الشح والبخل والإمساك والتقتير (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9)) "الحشر: 9".
ثم إن الصدقات تُطهّر نفوس المحرومين من أية مشاعر سخط تجاه الخالق، يمكن للحرمان أن يولّدها في نفوسهم، وتطهرهم من أي مشاعر عداوة موجهة إلى باقي أفراد المجتمع ناتجة عن الإحباط الذي يمكن للحرمان الزائد عن الحد أن يثيره في نفوسهم، وتطهرهم من أي شعور بالنبذ، والهجران، والقطيعة بينهم وبين المجتمع، ذلك أن الحرمان والفقر مع كثرة المسؤوليات قد تجعل الإنسان يحس بأن الله قد كرهه وهجره، وأن المجتمع لم يرحمه ولم يشعر به، فتمتليء نفسه قلقاً وغيظاً، ويضعف شعوره بالانتماء إلى مجتمع لا يهتم به ولا يقف معه في محنته.
هذه المشاعر السلبية يمكن أن تؤدي إلى الكثير من الرذائل، ابتداء بالفاحشة والمخدرات، وانتهاءً بالجريمة أو الثورات الهوجاء المدمرة المدفوعة بالحقد، والحسد، وحب الانتقام.
وعودة إلى نفس المؤمن المتصدق، فإن للزكاة وغيرها من الصدقات أثراً كبيراً في ملء النفس المؤمنة بالرضا والسعادة؛ إذ هي تحقيق للذات وهي تحقيق للخلافة في الأرض، عندما يتمثّل المؤمن من خلال الصدقات الكثير من صفات المولى، وأهمها: العطاء، فالله هو المعطي وهو المقيت.
وعندما ينجح المؤمن في أن يعطي للآخرين ويُدخل السرور إلى قلوبهم، فإنه يتمتع بالسعادة ويستشعر الرضا عن نفسه، لا العجب بها، والتكبر، والتعالي، إنما هو يرى أنه بعمله الصالح قد اقترب من الصورة المثالية للمؤمن التقي المستخلف في الأرض؛ التي يحلم دائماً في أن يصل إليها. وكلما اقترب واقع النفس البشرية من الصورة المثلى التي تسعى إلى تحقيقها، ازدادت هذه النفس طمأنينة، وخفّ قلقها وحزنها، ونعمت بالسعادة.
ويتبع: تأملات نفسية في الزكاة2
واقرأ أيضا:
أثر الصلاة في النفس المؤمنة4 / سيكلوجية الإيمان والكفر9