على الطريق
متأرجح بين الواقع والحلم...
يبحث عن ضالة ما في قاموس اليأس اللامتناهي ويرسم بريشته المحبطة ذكريات قادمة وحاضر متعب من كثرة الثرثرة والزن على رأسه.
"لو أني أكملت دراستي لأصبحت معلما، لو وافقت على الدراسة في الخيام ما رسبت، ولكن ليس ذنبي أن شعبا هب في أثناء دراستي!".
في شهر تموز من عام 1987 كان مقدما على امتحان الرياضيات في قاعة مدرسته مع العديد من زملاؤه، في الربع الأول من وقت الامتحان وبعد السؤال الثاني بالتحديد حوصرت المدرسة وأجبر من فيها على تركها، ومنذ ذلك الوقت لم يعد يرى صفه إلا ورشاش الـ500 منصوب عليه ومعلبات الأسماك الفارغة ملقاة حوله.
بعد نصب الخيام وتجهيزها بالألواح الخشبية المهترئة لتدريس الطلاب المشردين من مدارسهم لم يعد يطيق الدراسة.. بات لا يتقن إلا قذف الحجارة..
كالفئران المذعورة يتنقل من زاوية إلى أخرى بحثا عن دبابة، وما أسرع الحصول عليها في ذلك الوقت.
الآن "يعظ" على أصابعه ندما، أيعقل أن "ابن الحداد" صار محاميا؟!
كان لا يجد في الحصة إلا مكانا للنوم براحة وطمأنينة، في حصة التاريخ بالذات الجميع كانوا ينظرون إليه بعين الحسد والغيرة لأنه ينام باستمتاع دون أن ينكشه الأستاذ والسبب في ذلك ليس أنه مدعوم؛ بل رغبة الثاني في "شراء راحة باله" وعدم الوقوع في مستنقع غباء الأول؛ فإذا أخطأ وسأله متى استقلت الأردن، يجيبه أعطني خيارات، فيمنحه الخيارات ليرد عليه أثبت لي أن الأردن مستقلة فيقرر الأستاذ أن يبقيه نائما مراعاة للمصلحة العامة.
"متى استقلت الأردن؟ وأي دولة عربية استقلت أصلا؟ لو أن لديهم أدنى استقلال لقررت إحدى الدول العربية العتيدة أن تشغل العاطلين عن العمل بدل (المرمطة) في إسرائيل" كل ذلك يدق على سندان أعماقه وهو جالس على ذاك الحجر الكبير يضم رجله اليمين إلى صدره ورأسه مستند عليها بينما يلقي برجله اليسرى على راحتها وعينيه تنتقلان من مشهد إلى آخر.
الحجر يعني له فرصة والهروب من ضغوط الحياة لكنه يساوي عند غيره شيئا آخر... زوجته مثلا ترى في الحجر سبب تعاستها؛ لا زالت الرسالة المختبئة تحته عالم مجهول غامض "تهلوس" به..
عشر سنوات مضت وما فتئت مصرة أن تعرف ماذا كتب لها هذه المرة، في الرسالة التي قبلها قال أنه سيلاقيها عند عين الماء في شرق البلدة وذكر أنه يريد أن يصبح رجلا بسرعة لينهي دراسته ويتزوجها.. كل ذلك كانت تعرفه لذلك بحثت عن شيء جديد.. كلام آخر يسعدها أكثر.. فانتظرت الرسالة الأخيرة لتكون قدرها المكتوب.
في الساعة الواحدة ظهرا حيث تمارس الشمس مهنتها في حرق الوجوه رن جرس الحصة السادسة، في ظرف ربع ساعة يجب أن تصل البيت، اعتادت أن تفعل ذلك وفي يدها رسالة منه وكأنها عصفور محلق لا تستوعبه الدنيا بأكملها، لم تفكر أن يوما أسودا سيجيء دون رسالة.. لم توشك على التقاطها حتى امتدت يدُ أخرى ليس فقط لتطالها، بل وتقرأها.
"أعرف اليد جيدا.. والوجه والأكتاف، وتلك الثمانية المرسومة بين الحاجبين.. أعرف هذا الوجه جيدا خاصة عندما يغضب" قبل أن تكتشف أنه أخاها هوت كفه على خدها وسارع إلى مسك شعرها بطريقة متقنة ليتركه تحت أقدام أبيها صائحا "هاي خلفتك إلي بترفع الرأس"... كانت أول مرة يضربها والمرة الأولى التي يخاطب فيها والده بهذه الطريقة.
"أيُ ذنب ارتكبتِه وأية جريمة؟ تتجرأين على تجاوز الشرائع العائلية؟ ومع من؟ (ابن الحداد)"
كانت العبارة الأخيرة قبل صدور الحكم.. الليلة سيعقد قرانها على ابن عمها صاحب أثقل دم في العالم، سترمي أحلامها وطموحها لتبنيها من جديد في نصف دزينة من الأطفال أنجبتهم من باب الرضا بالمكتوب وربما محاولة لاكتشاف ابن عمها الذي ما انفك يكد ويعمل ليؤمن لقمة عيشه وعائلته التي أحبها بإخلاص.
منذ تلك اللحظة لم تعد ترى صفها أو مدرستها إلا والدموع تغطي عينيها؛ فالطريق من المدرسة إلى البيت لا رسائل فيها ولا (ابن الحداد).
المشهد ذاته يتكرر كل ليلة، التفاصيل نفسها وكمية الدموع عينها، الغضب، الحزن، الصراخ، لا يختلف من وقت إلى آخر.. يعود متأخرا من المقهى أو ربما من مكان آخر، يبدل ملابسه، يتعشى وما أن يضع جسده على السرير حتى تمطره بوابل من الملاحظات ولفت النظر والإشارة إلى: "جارتنا الفلانية اشترت غسالة، والثانية جددت فرش بيتها، والثالثة اشترت دش علشان عشان أتابع إخبار الانتفاضة، وأنا.. يا حسرة".
يرد متململا كمن يؤدي واجبه اليومي: "الأولى زوجها تاجر، والثانية حرامي سيارات، والثالث صاحب مطعم، وأنت بكل شرف واعتزاز زوجك عاطل عن العمل" تقول: "والنعم" وتدير وجهها إلى الجهة الأخرى ويخلدان إلى التفكير من جديد دون لحظة نوم قد تتسرب إلى عينيهما.. ماذا سيفعل أو ستفعل والطفل الأول مريض بحاجة إلى الدواء والثالث سيدخل المدرسة عما قريب أما الآخرين فهم بحاجة إلى ملابس جديدة لإبدالها بالمهترئة.
أحيانا يتخيل أن "شيزوفرينيا" حادة أصابته فيعثر على مصباح علاء الدين ويفرق العطاء على أطفاله ليلعبوا بالمال لعب.
منذ الثامن والعشرين من أيلول عام ألفين وجميع منافذ إسرائيل مغلقة، كل العائلات التي تعيش على بقايا المحتل فقرت ؛ فلا عمل داخل الخط الأخضر
لماذا؟ لأن صراع الوجود ما زال قائما.
ليت "بلفور" حيا في هذه اللحظات ليتعذب باحثا عن حلول لما ارتكبه من "خطأ فادح" فمن عادة الشعوب أن تتلقى نتائج غباء حكامها، أما أن تحمل شعوبا أخرى خطايا حكام غير حكامها فهي لعنة التاريخ عليها.. يمل قطبي القضية ذات الخمسين عام فيقرر الأقوى استراتيجيا أن يشعل فتيل الحرب، ويشرعان في حملة تبادل القنابل بالأجساد المتفجرة، للحق طرفه وللباطل طرفه وللأقوى الغلبة والانتصار.
ذلك المسكين يقع بين نارين، من جهة يريد أن يوفر أجرة السيارة، ومن جهة أخرى لا يريد أن يمشي كثيرا حتى لا يهترئ حذاؤه فمن غير المعقول أن يتدين ثمن حذاء.
أقسمَ أن لا يحضر أية ندوة أو محاضرة حول البطالة، حيث يرتقي المثقفون إلى مستوى الحدث ويطالبون بالاستقلال الاقتصادي عن العدو، شعر أنه حشرة صغيرة لا تعرف إلا أن تخون وطنها وتمص دماء شهداءه وذلك الخطيب يصرح وينظر عن العمل في إسرائيل فما كان يستحق غير الشتم، "أي استقلال أو اقتصاد أو دولة والآلاف من العمال منثورين على حواف الجوع"، صرخ قائلا ليجبر على ترك القاعة "بلوا الوطن واشربوا ميته" أطلقها مرة واحدة وخرج.
(ابن الحداد) يعيش مرتاحا في بيته في وسط البلدة، له زوجة جميلة وأربعة أطفال لا يلبسون أو يأكلون أو يشربون إلا من الغالي، فأبوهم مشهور على مستوى الوطن "بالهبر" والنصب على الموكلين، يقال أنه قبض بالألوف في قضية طلاق بنت رئيس البلدية.
في المقهى وعلى الطاولة الخامسة جهة الباب كان يجلس كالبطانية الملقاة على سرير لا هي مرتبة ولا تستوعب السرير لتغطيه بأكمله وكأن دخان "الأرجيلة" المنطلق من فمه والمشبع بنكهة التفاح غيمة تصعد إلى أعلى السقف لتقول "انظروني فقد خرجت من فم المتر".
كانت مصادفة أن يلتقيا معا، الأول يشكو هموم قلة العمل والثاني يشرح له الأسباب ويعزوها إلى الأزمة السكانية وعدم الحصول على شهادة، "ماذا حصل لك لو درست في الخيمة" وكأنه يلومه على سنين عمره، يغضب الأول ويترك المكان مغادرا إلى حيث يبدل ملابسه ويتعشى ثم يضع جسده على السرير فيؤدي واجبه اليومي ويخلد للتفكير من جديد بلا لحظة نوم قد تتسرب إلى عينيه.
"أربع سنوات قد فاتت على إغلاق المعابر والحدود بين الأرض المحتلة و... الأرض المحتلة، شهداء يتساقطون وجرحى كذلك، وبيوت تهدم وأسر تتشرد، كم هو عظيم حجم المصائب التي حلت بشعبي، ولكن لا حل لمشكلتي، حتى السلطات العليا اجتمعت مع الأعداء وفاوضتهم دون أن يتعثر مسؤول بمشكلتي ؛ يجمعون ما لذ وطاب لتعبئة الجياب
وتلك البومة لا تزال تنعق على خراب بيتها، تريد أن تعيش مثل فلانة وأم فلان، وفي النهاية تتطلب الطلاق، الليلة سأطلقها إذا نطقت ببنت شفاه وارتاح من نعيقها إلى الأبد.
أمي الناطقة باسم الأعراف والتقاليد تقول أن المراة لبيتها وزوجها فليفعل بها ما يراه مناسبا، لا شهادة أو عمل يميزها عنه ولا مستقبل باهر ينتظرها، ما يميز بينهما أن له سلطة ولها شخصية مسحوقة تحت الأحذية . دائما كانت تفكر هكذا، تؤمن بذلك.. أنها لم تأخذ حقها في الحياة، تتمنى لو ينشق هذا الكون ويبتلع أسرتها وزوجها وابن الحداد وبلدتها بأكملها.
لم تستطع إلا أن تتكلم وتمطره بوابل من الملاحظات ولفت النظر والإشارة إلى، ولكن كان هذه المرة نشيطا في أداء واجبه اليومي فأوسعها ضربا في لحظة غضب، بكت وهمهمت وتألمت... تذكرت الحجر وأخيها وابن الحداد وحملت نفسها لتتجه هاربة نحو بيت أهلها لتجد أن لا ملجأ لها هناك؛ فالزوجة الأصيلة تقف بجانب زوجها في السراء والضراء.
ويأتي الصباح ليخرج دون فطور يبحث عن عمل جديد في الطريق وجد أطفالا يرشقون دبابة بالحجارة "فتسلى" معهم لبرهة ثم انتقل من حاجز إلى آخر، وبعد الملل عاد إلى بيته ليجد طعام الغداء جاهزا وزوجته كما هي دائما، باستثناء بعض الكدمات على وجهها، لا بأس؛ فهي اختارت ذلك ويحق لها أن تذهب... وتعود.
واقرأ أيضا:
فكة خمسة جنيهات / حواديت العباسية