مصادر سكينة الإيمان1
3. نعمة الوجود
في عصرنا هذا، وبعيداً عن هداية الله، بحث الفلاسفة والأدباء الوجوديون في أسباب القلق النفسي الإنساني، فوصلوا إلى أن القلق والمعاناة النفسية أمران ملازمان للوجود الإنساني، مجرد الوجود في هذه الحياة، إذ طالما أن الإنسان وُجِد، فلا بد له من مواجهة القلق والمعاناة.
ولكن مع الإيمان وهداية رب العالمين، يصبح الوجود، مجرد الوجود، نعمة ما بعدها نعمة، فالذي يسر الله له سبيل الهداية، وأعانه على التقوى، وبشره النبي محمد ﷺ أن جنة الخلد في انتظاره، حيث الخلد، وحيث السلام النفسي، والمتع بأنواعها كافة، حيث أعد الله للمؤمنين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر... المؤمن الذي عرف هذا، لم يكن ليسره، لو أن الله لم يخرجه إلى هذا الوجود، مع أن هذا الوجود، وفي المرحلة الدنيوية فيه الكبد والكدح والمشقة، وفيه الابتلاء والامتحان، وفيه خطورة الوقوع فيما يؤدي إلى العذاب في نار جهنم. لكن المؤمن الذي استعان بالله على الهداية، والثبات على الحق، ويتوقع أن يدخله الله الجنة وهو مطمئن إلى أن الله لن يظلم أحداً، هذا المؤمن، يصبح وجوده نعمة كبيرة، تهون أمامها أية صورة من صور الحرمان التي تزعج الآخرين، فالحرمان مؤقت، وهنالك الجائزة العظيمة.
فما أعظم فرحة المؤمن أن أتاح الله له دخول هذا الامتحان، وأعانه على الهداية، ووعده أن يهديه سبله ما دام يجاهد في الله، كي تكون الجنة محطته الأخيرة، ودار مقامته السرمدية.
وهذا الوجود الذي رآه الوجوديون المتشائمون ملازماً للقلق والمعاناة، هذا الوجود تحرص عليه النفس حرصاً ما بعده حرص، لذا كان أهم أسباب القلق الإنساني: خوفه على هذا الوجود، ورعبه من العدم.
ومن دون الإيمان بالله واليوم الآخر، يصبح الموت في نظر الإنسان عودة إلى العدم المرعب، ويعيش هذا الإنسان في خوف دائم من الموت.
ولربما أدت به نظرته إلى الموت على أنه نهاية الوجود، إلى الحرص على استغلال كل لحظة من حياته في المتع الحسية، ولا يهم عندها أن تكون المتع من حلال أو حرام، فيقع في الخمر، والمخدرات، والعلاقات المحرمة، ولا يتورع عن السرقة، أو غير ذلك من جرائم، من أجل الحصول على المتعة، ليملأ بها حياته القصيرة التي يرى العدم نهاية لها.
لكن المؤمن يتمتع بالوجود نفسه، لأنه يعلم أن الإنسان خُلِق ليبقى، وأن الله قد ضمن له الخلود، ويعلم أن الموت ليس عودة إلى العدم واللا وجود، بل الموت حالة من حالات الوجود، بينه وبين النوم شبه كبير.
وقد سأل الصحابة رسول الله ﷺ: "يا رسولَ اللَّهِ أينامُ أهلُ الجنَّةِ؟ قال: لا النَّومُ أخو الموتِ وأهلُ الجنَّةِ لا يموتونَ ولا ينامونَ" ( رواه البزار والطبراني والبيهقي بإسناد صحيح عن جابر كما قال العجلوني رحمه الله).
وكان ﷺ إذا استيقظ من نومه يقول: "الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أحْيانا بَعْدَ ما أماتَنا وإلَيْهِ النُّشُورُ" (البخاري).
ويتشابه الموت والنوم في أمر هام، وهو انعدام الشعور بالزمن... فالنائم إذا قام من نومه لا يمكنه أن يعرف كم أمضى من الوقت نائماً، إلا أن ينظر إلى الساعة، أو أن يبحث في الطبيعة حوله عما يعينه على ذلك، كأن يرى الشمس قد أشرقت، أو غير ذلك من الدلائل التي يستنتج منها في أي وقت هو.
وهكذا الحال مع الموت. فمهما طالت السنون منذ موت الإنسان، وإلى أن يبعث يوم القيامة، فإنه لا يشعر بمرورها إلا كما يحس النائم إذا أفاق. يقول تعالى: "يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ۚ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)" [طه: 102 - 104]، ويقول أيضاً: "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ ۖ فَهَٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَٰكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)" [الروم: 55 - 56]
ويوم القيامة يجسد الله الموت كبشاً يذبح أمام الجميع، فإذا مات الموت نفسه، بقي الخلود المضمون من الله تعالى.
والمؤمن الذي يعلم أنه حتى موته ومهما طال الزمن بينه وبين القيامة، لن يكون إلا مثل ليلة يمضيها في نوم عميق، ثم بعدها حياة لا يغيب فيها عن الوجود، ولا حتى بالنوم، هذا المؤمن ترتاح نفسه من الرعب من العدم، وتطمئن إلى استمرار نعمة الوجود، ولها أن تتمتع بالسكينة والراحة التي تثمرها هذه المعرفة لحقيقة الخلود الإنساني الذي أراده الله، ولها أن تتمتع بالوجود ذاته، وتحمد الله عليه، ثم تجتهد فيه لتحقق درجة عالية في جنة الخلد.
4. قلق الموت
عندما يختار الإنسان سبيل الشاكرين، فيكون أول شكره إيمانه بالله تعالى، إيماناً لا يلابسه شرك، ويكون ثاني شكره إيمانه باليوم الآخر، وثالث شكره أن يعمل صالحا، فإنه لن يضل ولن يشقى، وكيف يضل وأنوار الإيمان تنير سبيله، وتضيء قلبه؟ وكيف يشقى وعنده هداية الخالق العظيم؟
والذي يتوقعه العقل، أن هذا العبد الشاكر، لن يخشى الموت، ولن يكون الموت مصدراً للقلق النفسي لديه، وهذا صحيح، وإن كانت الفطرة تجعله يكره الموت، لأنه حببت إليه الحياة، لكنه قد تكون لديه أحياناً بعض الأسباب التي تجعله يخشى الموت، ويحس بالقلق بسببه.
فالبعض قد يتصور أن الموت نفسه عملية مؤلمة إلى أبعد الحدود، لذا فهو يخشى ألم الموت، ويصاب بالقلق خشية مواجهة معاناة يرى أنها تفوق التصور والاحتمال.
لكن هذا الظن يجب تصحيحه، فمع أن "لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ"، كما كان يردد النبي محمد ﷺ قبيل وفاته (كما روى البخاري)، فإن الموت سيكون بداية العذاب للكافرين المعاندين لهداية رب العالمين، قال تعالى: "وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)" [الأنفال: 50 - 51].
لكن هنالك صورة مقابلة لهذه الصورة، وعلى النقيض منها، صورة وفاة المؤمنين المتقين... قال تعالى: "الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" [النحل: 32]. إن هذه الآية الكريمة، مطمئنة إلى أبعد الحدود لكل مؤمن تقي، أن وفاته ستكون طيبة يشملها السلام والبشرى بجنة الخلد، والنعيم المقيم.
ثم إن البشر جميعهم، مؤمنهم وكافرهم يخشون الموت، لأنه يخرجهم مما هم فيه من نعم ومتاع وزينة، ويفرقهم عن المال، والبنين، والجاه، وغير ذلك مما يحبون.
أما المؤمن التقي، فيعلم أن جنة عرضها السموات والأرض بانتظاره، وأنه له فيها أزواج مطهرة، ومتع لم تخطر على بال، ينالها بعد الموت جزاء وفضلاً، ورحمة من الله تعالى.
فالمؤمن التقي، يجب ألا يخشى فراق ما يحب في الدنيا، لأنه صائر إلى ما هو خير منه، كما أن الله سيلحق به من صلح من آبائه، وذريته، وأزواجه: "جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ" [الرعد :23] .. فلن يكون الموت سبباً للخسارة، بل هو الربح الكبير، والفوز بالكثير جزاء على عمله القليل.
وقد يخشى مؤمن الموت أن ينزل به في أية لحظة، لأنه لا يرى نفسه جاهزاً للقدوم على ربه، فذنوبه كثيرة، وهو يخشى الله، ويخشى أن يعذبه بها.
ولا علاج لهذا القلق لدى المؤمن إلا بتجديد التوبة، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإلا باجتناب الكبائر، والاطمئنان إلى أن الصلوات الخمس، وغيرها من الصالحات، تمحو ما يقع المؤمن فيه من الصغائر واللمم. قال تعالى: "إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا" [النساء: 31]. وهذا ليس من قبيل أمن مكر الله، إنما هو ما بشرتنا به آيات القرآن الكريم، أما الذي يتبع نفسه هواها على أمل أن يتوب قبل أن يموت، فإنه قد وقع في أمن مكر الله، ونسي أن الله قد يباغته بالموت قبل أن يتوب، وأن الله إذا غضب من العبد من كثرة كبائره، قد يحول بينه وبين قلبه، فلا يميل قلبه إلى التوبة، ويموت دون أن يتوب، فيكون مستحقاً للعذاب الشديد.
ويبقى لدى المؤمن سبب آخر لخشية الموت، فالذي له أطفال صغار قد يخشى الموت لأنه يخاف على صغاره مرارة اليتم والفاقة.
وهذا المؤمن، مدعو أولاً إلى أن يدخر ما يمكنه ادخاره من دخله، فلا يبسط يده كل البسط إن كان في رزقه سعة، أما إن كان ممن قدر عليهم رزقهم فقل دخلهم، فيبقى له التوكل على الله، والدعاء لأولاده، والتقوى والصلاح، ثم لينم بعدها مطمئناً على أولاده، فإن الله لن يضيعهم.
أما كلف الله الخضر -عليه السلام- ليقيم جداراً في قرية للئام، وذلك حفظاً وحماية لكنز ادخره الله تحت ذلك الجدار ليتيمين في المدينة؟! وما ذلك إلا لأن أباهما كان صالحاً. قال تعالى: "وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا" [الكهف: 82].
وقال تعالى: "وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا" [النساء: 9] إنه تأمين للأطفال لا يضاهيه التأمين عند أكبر شركات التأمين، وإن أقساطه التقوى والقول السديد، أما حمايته لأطفالنا فمضمونة لأننا قد أمنا لهم عند رب العالمين.. وهل يضيع من تكفّل رب العالمين برعايته وكفايته وحمايته؟
ويتبع: مصادر سكينة الإيمان3
واقرأ أيضا:
سيكلوجية الإيمان والكفر9 / تأملات نفسية في الزكاة 2