التخلف حالة نفسية منعكسة في السلوك وتحتاج إلى إرشاد وتوجيه وعلاج معرفي، لتبصير العقول وتنوير النفوس وتعديل السلوك. وليس من الصحيح حصر التخلف بالمعرفة والثقافة وحسب، ذلك أن النفس المتخلفة هي الوعاء الحقيقي لأي تخلف، فعندما يكون الوعاء غير سليم وتزدحم فيه الجراثيم فما يحويه سيكون موبوءاً بالأليم، وينسكب ما فيه على ما حوله فيؤذيه.
فجوهر التخلف المجتمعي هو التخلف النفسي الجمعي. فالمجتمعات المتخلفة نفسيا لا يمكنها أن تتطور معرفيا، مهما وفرتَ من مصادر ومحفزات للتعلم والتثقيف، لأنها كالقربة المثقوبة التي لا ينفع فيها النفخ.
قد يقول قائل بمنطق المؤامرة عندما نتحدث عن مجتمعاتنا، وما يظهر فيها من تفاوت في قدرات الخروج من قبضة التخلف، لأن الفرص توفرت لمعظمها، وتواجدت فيها عقول منورة منذ تأسيس دولها وقبلها، لكنها عجزت عن التواصل والتفاعل والانطلاق نحو مستقبل أفضل ومعاصر ومتواكب مع المستجدات والتطورات، وانكمشت في حفر تدمير المصير.
وأقرب تفسير لهذا التقيّد والانحباس الحضاري يكمن بآليات التخلف النفسي، التي جعلت البشر متمترسا ومتخندقا في ثوابت وتابوات، وحفر وأنفاق ومتاهات تسببت في العماء العقلي والتوحد، والانعزال التام عن المتغيرات المتفاعلة في الواقع الدنيوي.
فالتخلف النفسي أشد وقعا من التخلف العقلي، لأنه يشتمل على تعويق عقلي فعال ومؤثر في الواقع الذي تكون فيه المجتمعات، ولهذا فالتخلف النفسي يساهم بتعطيل العقول ومنعها من المشاركة المبدعة بصناعة الحياة، ويقهرها بالذرائع والمصدات التي تصادر أفكارها وتحجّم دورها وتنفيها من مسارحها.
وفي واقعنا العديد من آيات التخلف النفسي، التي يتم اتخاذها سبيلا لمزيد من التدهور السلوكي القائم في مستويات متنوعة ومتخاصمة في أيامنا، التي تزداد ضراوة واندساسا في الإنكار، والإسقاط، والتبرير، والانكسار.
وعليه فإن التوجه الجاد نحو الصحة النفسية والسلوكية، انطلاقا من البيت ورياض الأطفال والجامعات هو الوسيلة المثلى للتقويم والترميم والتأهيل والتنوير، وغيرها حالة لا تجدي نفعا وتضر كثيرا وتساهم ببناء معززات التخلف والتردي والخواء.
فهل سنحقق نهضة نفسية ذات قيمة حضارية، فالنفس كنز التناقضات البشرية وفيها ما يحقق فجورها وتقواها، ولنا أن نختار سبيلنا منها وفيها؟!!
واقرأ أيضًا:
هل ستفقد الكلمات قيمتها على الورق؟!! / سفن بلا ربان!!