إدخال الصورة/النموذج في حقل الممارسة الطبية، كانت له بلا شك فوائده، مثلما كانت له أضراره وإن خفيت، فأما الفوائد فكانت مثلا للدعاية لعقار معين لعلاج الاكتئاب، حيث استخدمت الصورة/النموذج (قبل..... و.......بعد ) بشكل ربما ما يزال يبدو لي بريئا حتى الآن -أو بحسب ما وَعِيتُ مما رأيت-، حيث تُقدم للطبيب النفسي صورتان الأولى تمثل المريض/المريضة في حالة الاكتئاب أو القلق أو كليهما قبل........ تناول العقار، والثانية تمثل المريض/المريضة... بعد... تناول العقَّار لفترةٍ ما وانقشاع حالة الاكتئاب/القلق، أقول ذلك وفي ذهني بعض النماذج للصورة/النموذج (قبل..... و.......بعد) تناول عقار علاج الاكتئاب والقلق، وقد أصبحت تلك الصور الآن تستدعي في ذهن المرء بعض التحفظ، وسبب التحفظ هو إدراكنا أنها رغم صدقها إنما تعبر عن لحظات التقاطها في حياة أصحابها، وليس عن حياة أصاحبها الكاملة والمديدة قبل وبعد الصورة.
فالحقيقة أنني أرى الصورة بمثابة خدعة معرفية سلوكية يتم تداولها بمنتهي البراءة بين العاملين في مجالات مختلفة من مجالات المجتمع البشري بأسره، وسأحاول أن أسلط الضوء في هذا المقال علي أثر ما يحدث في المرحلة التي نعيشها من تاريخ تطور الطب والجراحة... أي فيما أتعامل معه يوميا من نماذج بشرية.... منهم المرضي ومنهم مندوبو الدعاية للشركات المختلفة، ومنهم شخوص أقابلهم علي نافذة الانترنت التي تقع علي يميني طوال ساعات عملي اليومي كطبيب نفسي، فهذه الحياة التي اختزلتها الصورة في لحظة واحدة ثابتة، ربما تكررَ فيها الاكتئابُ وربما جاء في مرةٍ أسوأ مما كانَ، وهذا ما يفسر بالانتكاسة Relapse لأن المريضَ أوقف العقَّار بعد الشفاء، ولم يستمرَّ للفترةِ المقررة، ولكن أحدًا من مندوبي الشركة التي أنتجت العقار وروجت له بالصورة والمعلومات لا يقول لنا ذلك بوضوح.
ورغم أن كثيرا من الشركات قامت بجهدٍ مشهود في تعريف الناس بماهية الاكتئاب وأقيمت برامج لتثقيف أطباء الريف أو أطباء الرعاية الأولية في المستشفيات، وقدمت الصور/النماذج (قبل... و.. بعد) لمن لا يلمون إلماما كاملا بالمعلومات، لأنهم أطباءُ غير مهتمين، وهم كثيرٌ مع الأسف، مثلما قدمت في كتيبات للمرضى كنوع من نشر الوعي الصحي النفسي بين الناس، حتى أصبحت كتابة الأجيال الجديدة من عقاقير علاج الاكتئاب مبررةً ومحبذةً لدى كثيرين من أطباء الرعاية الأولية، وكثيرا عن دراية ولو منقوصة، إلا أن المشكلة هي أن العقار -مرتفع الثمن غالبا- يقدم وكأن من سيتناوله سيجدُ حل جميع مشكلاته في الحياة، وهذا يخالف الواقع إلى حد كبير لأن العقار في معظم الأحيان لا يكونُ أكثر من عاملٍ مساعد، إذن ففي الوقت الذي تم فيه نشر قدرٍ لا بأس به من الثقافة الطبنفسية نشرت أيضًا مفاهيم خاطئة تتعلق بالعقَّار وقدراته، وساهمت الصور/النماذج (قبل... و..بعد) في ذلك مساهمة كبيرة.
لكن استخدام الصور/النماذج (قبل...و..بعد) في مجال عقاقير علاج الاضطرابات النفسية ما يزال بريئا -مع التحفظ- ما دامت تستخدم علي مستوى عقاقير آمنة -في حدود المعرفة العلمية الحالية-، وتفيد الإنسان فوائد لا مجال لإنكارها من طبيب نفسي، لكن الكلام سيكون مختلفا عند الحديث عن أنواع أخرى من العقاقير، فمثلا عقاقير تثبيط الشهية أو المقهمات العقَّارية أمرها مختلف لأن الثابت من أضرارها لا جدال عليه، وأما فائدتها فمحل شك كبير، ورغم ذلك فإن استخدام الصور/النماذج (قبل..... و.......بعد) للتدليل على فاعلية العقَّار الساحر لم تتوقف، وهذا ما يقودنا إلى الكلام عن ضرر استخدام الصورة.
فوصفا لما هو من قبيل الأضرار الناجمة عن استخدام الصورة في حقل الممارسة الصحية عموما، سأتكلم عن الصور/النماذج (قبل..... و.......بعد)، وما بين قبل..... وبعد..... سأضع كل برامج التنحيف (والتسمين)، وكذلك كل جراحات التجميل والتعديل والتصليح....... فقد استخدمت الصورة في تلك الحالات بفداحةٍ لا أظنها ستخفى عن كل من يكمل معي هذا المقال، وحبذا لو يقرأ الروابط التي يأخذهُ إليها عن جوانب أخرى للموضوع، وقد ظهرت على استشارات مجانين استشارة بعنوان: تقويم الأسنان الذي دمر حياتي، كانت هي سبب إصراري علي كتابة هذه السطور، وإن كانت صاحبة المشكلة نفسها قد اعتبرت أننا لم نفهمها ولم نشخصها بل واتهمناها بقلة الدراية الدينية، ورأت أن ارتكازنا إلى قصتها في هذا المقال الذي وعدناها به سيكون خطأ جسيما، لأنها لا تعتبر نفسها مثالا على فشل عمليات الجراحة التجميلية، فهي تقويم والتقويم حلال، وإنما تعتبر قصتها دليلا على سوء الممارسة الطبية من قبل الأطباء، وراحت تسأل عن خبرات زوار مجانين في مجال زراعة الأسنان، ولم تجب على أيٍّ من تساؤلاتنا وأسئلتنا لها، وعلى أي حال فإننا نعدها بأن نوافيها بما تبعثونه لنا عن نتائج زراعة الأسنان في ضحايا تقويمها.
وفي مجال صناعة التنحيف تعتبرُ الجرائم التي تقوم بها الصور/النماذج (قبل..... و.......بعد) فادحة أيما فداحة. فرغم العدد الرملي للبرامج التجارية المتاحة لمن يريدون إنقاص أوزانهم، كان من المدهش واللافت للنظر ذلك الغياب التام للمعلومات العلمية المحايدة عن النتائج الحقيقية لتلك البرامج، فهناك بالطبع قصصُ وصور نجاحٍ باهرٍ يقدمها لك أصحاب كل برنامج، وسنقدم لكم هنا أمثلة منها، لكنها بالتأكيد غير معبرةٍ بصدق عن النتائج التي يصل إليها أغلبُ متبعي البرنامج، لأنها ببساطة كلها صور/نماذج (قبل..... و.......بعد)، وهذا هو ما دفع وزارة الصحة الأمريكية (NIH,1992) إلى مطالبة المسئولين عن برامج التنحيف التجارية بإعلان المعلومات الكاملة للناس عن:
-1- النسبة المئوية لمن يكملون البرنامج من من يبدؤون تطبيقه.
-2- النسبة المئوية للناجحين في إنقاص أوزانهم من بين من يكملون البرنامج.
-3- نسبة الوزن المفقود الذي تتم المحافظة عليه بعد عام وبعد ثلاثة وبعد خمسة أعوام من إنهاء البرنامج.
-4- النسبة المئوية للمشاركين في البرنامج الذين تحدثُ لهم آثارٌ غير مرغوبةٍ من الناحية الطبية أو النفسية أثناء البرنامج.
فرغم أن هذه المعلومات موجودةٌ لدى كل مؤسسةٍ من مؤسسات التنحيف إلا أنهم لا يخبرون بها زبائنهم، ودائمًا ما يكتفون بقصصِ وصور النجاح المدهش الذي حققه بعض الأفراد (من ذوي الإرادة)، فأما القصص فتحكى لك عن أفراد لا تراهم وأما الصور فإنها تعبر عن لحظةٍ لا تتكرر وليس هناك ما يثبتُ أن صاحب الصورة ما زال على هيئته التي صوروه فيها، مرةً أخرى لأنها صورٌ لنماذج (قبل..... و.......بعد)، والنقطة المهمة هنا هي ألا ننسى أن التسويق للبرنامج أو المؤسسة أو العقار غير ملزم بذلك، أو بالأحرى لا رقابة عليه، فقد يقدم المعلومات مثلا في دراسة (الله وحده يعلم مدى حيادها) لطبيب، وكي يسهل المهمة على طبيبه المشغول، فإنه يلون بالفسفور الملون بعض السطر التي تمتدح عقاره أو طريقته أو تبرز عيوب منافسه، ووصولا في النهاية إلى ما يقدم في التسويق للناس عبر وسائل الإعلام المختلفة، فالأخير لا يحكمه عند النزول إلى الواقع غير جمال الصورة التي ستعلق في الصيدلية أو عيادة الطبيب أو المستشفى أو حتى في الفضائيات، كل هذا باعتبار أن القانون الذي أصدرته وزارة الصحة الأمريكية يطبق مثله في بلدان العالم الأخرى، ولا أظن أن قوانين من ذلك النوع أصدرت أصلا في بلدان عالمنا العربي أو الإسلامي فالمرتع ما يزال مفتوحا بلا جدال، ولنتخيل سويا تأثير عرض صور كالصور التالية على مثل ذلك المريض:
وأما في مجال جراحات التجميل والتقويم، وقد ذكرنا الحكم الفقهي الذي يميل إليه أغلبُ فقهائنا في مقال: هل اتخاذ الصورة معيارا شرك؟ فسأحكي لكم هنا ما -غالبا- يحدثُ في مثل هذه الحالة حيث يبدأ انشغال الشخص بأهمية وضرورة تغيير ما يراه عيبا في شكله (مثلا أنفه أو أسنانه، أو شفته، أو ربما ثديه أو... أو...) ويبدأ ذلك الانشغال غالبا من رؤية صورة أو حكاية عن صورة في مجلة أو فضائية من خلال من شاهدها، وهكذا يصل المتطلع إلي تقويم شكله إلي مركز التجميل أو "الجراحة التجميلية" تلك... وهناك بالطبع يرى صورا لآخرين مثله كانت لديهم مشاكل مع الشكل... وتم إصلاحها.... وتقدم صورتان في الغالب... واحدة قبل العملية وهذه سهلة وأخرى بعد العملية مباشرة وكثيرا ما يتم التصوير والمريض ما يزال علي طاولة العمليات... وهكذا تكتمل صناعة الصورة/النموذج (قبل..... و.......بعد )، ولذلك فلا أحد يخبرنا عن شكل المريض بعد ذلك إلا لماما، وفي جميع الأحوال من خلال الصور.
إلا أننا جميعا نري... وبشكل أخص أرى وزملائي من الأطباء النفسيين أعدادا كبيرة من من يدخلون بعد عملية الجراحة التجميلية في وسواس/رهاب التشوه Dysmorphophobia أو اضطراب توهم التشوه الجسدي Body Dysmorphic Disorder حسب التسمية الأمريكية الحديثة، والمريضُ هنا يعاني من فكرةٍ تسلطية أو وسواسية بكل معنى الكلمة لكنها متعلقةٌ بتشوه في شكل منطقةٍ معينة من الجسد ومن أشهر هذه المناطق الأنف أو الشفتين أو الثدي أو الأرداف، فيزور عيادة الجراح ويتكلمُ معهُ في إحساسه بأن أنفهُ مثلاً كبيرٌ أكثر من اللازم أو معْوَجٌ بشكلٍ أو بآخر وفي أغلب الأحوال يكونُ ذلك غيرُ صحيحٍ أو على الأقل مبالغٌ فيه بدرجةٍ كبيرة؛
وهذا المريضُ يشبهُ مريض اضطراب توهم العلل البدنية Hypochondriasis في أنه لا يستطيعُ تصديقَ الأدلة التي تثبتُ خلوهُ من التشوه أو العيب الخلقي في أنفه مثلاً إلا أن مدى اقتناعه بوجود التشوه لا يصل إلى مستوى الضلالة أو الهذاء أي أنه ليسَ مريضًا ذهانيا -باستثناء مرضى وهام التشوه الجسدي Dysmorphic Delusion والذين قد يتصرفون بنفس الطريقة-، لكنهُ في نفس الوقت لا يستطيعُ التخلص من الفكرة كما أن هذا المريضَ يفعلُ أيضًا أفعالاً قهرية من قبيل التحقق والرغبة في الاطمئنان على شكل العضو الذي يتخيل فيه التشوه من كل المصادر الممكنة وأشهرها بالطبع هو الجراح خاصة جراح التجميل فإذا أخطأ جراحُ التجميل وأجرى للمريض جراحةً تجميلية ساءتْ العاقبةُ وازدادَ دور الطبيب النفسي صعوبةً لأنَّ المشكلة لم تكنْ في شكل العضو وإنما في إدراك المريض لشكله!.
إذنْ فالطبيبُ النفسيُّ هنا يجدُ مريضًا يعاني من فكرة تسلطية لا هو بالمقتنع بها تماما ولا هو بالقادر على نسيانها ويجدُ منْ يصفُ أفعال النظر إلى المرآة للاطمئنان وإعادة الاطمئنان وتكرار الزيارة لكل من يستطيعُ الوصولَ إليهم من الجراحين أو أطباء الأمراض الجلدية في الحالات المتعلقة بالجلد وكأنها أفعالٌ قهريةٌ يضطرُ إلى فعلها لأنها تريحهُ من القلق والتوتر، ولكننا يجبُ ألا نغفل ذلك الحضور الدائم أثناء العلاج المعرفي لذلك الاضطراب للصور/النماذج (قبل..... و.......بعد)، وكل ما يتعلقُ برؤيتها وما يقال للمريض أثناءها ومعها، وما يعتمل داخل نفسه لحظتها كل ذلك له دورٌ فاعل بالتأكيد في الإمراضية النفسية لاضطراب وسواس التشوه خاصة وأن أحد أحدث تقنيات تقديم للصور/النماذج (قبل..... و.......بعد) هي أن تنظرُ في المرأة لترى شكلك (القبيح) ثم تنظر في شاشة الكومبيوتر الذي يقدم لك شكلا ثلاثيَّ الأبعاد علي الكمبيوتر يمثل ما سيكون عليه شكلكَ بعد العملية وهذا في الحقيقة جزء من إحداث آلية الإمراضية النفسية لاضطراب وسواس التشوه، إذ أن الصورة التي يصنعها لك الكمبيوتر... نادرا ما تعكس حقيقة ما سيحدث بالفعل....، ولنتخيل سويا تأثير عرض صور كالصور التالية على مثل ذلك المريض:
ولعل من المفيد الآن أن يسترجع كل واحد من القراء ما ناقشناه من قبل في مقال: هل اتخاذ الصورة معيارا شرك؟ وما ورد لنا من مشاركات ردًُا على هل اتخاذ الصورة معيارا شِرْك، وأيضًا هل اتخاذ الصورة معيارًا شرك؟مشاركة2، فهذا المقال والمشاركتان فيه وإن كان محور النقاش فيهم هو صورة الجسد Body Image وتأثير الصور النماذج فيها، أي أن الأمر يتعلق بمشكلة البدانة والنحافة إلا أن كل ما يفتحه مقالنا هذا من جبهات أخرى لا يختلف كثيرا من ناحية أثر الصورة النموذج على إدراك وتقييم الإنسان لذاته، وإدراكه وتقييمه للآخرين، ولعل في الإحالات التي سأضعها في آخر المقال ما يبين ذلك بوضوح خاصة لحديثي العهد بموقعنا مجانين، وما يزال الحديث ذو شجون، وأنا في انتظار مشاركات المجانين.
المراجع:
NIH (National Institute of Health,1992).Methods for voluntary weight loss and control. [Online] . Available: NIH Technological Assessment Conference Statement.
واقرأ أيضًا:
فخ الصورة: أول الملف، م / كلنا في فخ الصورة : توهم النحافة! / فخ الصورة : النحافة أيضا مشكلة / السيلوليت (تغمز الجلد): عبادة الصورة؟