كانت مقاومة اضطراب الوسواس القهري للعلاج واحدًا من أرسخ المفاهيم لدى الأطباء النفسيين حتى عهد قريب، لعَـلَّ التغيرات التي طرأتْ على هذا المفهومِ بالتحديد تصلحُ مضربًا للمثل فيما يبينُ مدى التطور الذي حَـقَّـقَهُ الطبُّ النفسيُّ في فترةٍ لا تزيد عن العقدين الأخريين إلا قـليلاً لأنَّ الكتبَ والمراجعَ والدوريات العلمية حتى منتصف السبعينات كانتْ تتكلمُ عنْ مسار مرضي غير محمودٍ لاضطراب الوسواس القهري، فكانَ الوسواس القهري علةً لا تعالج وكانَ الطبيبُ النفسيُّ يقفُ موقفَ العاجزِ عن مساعدة المريض المعذب ولا يستطيعُ إلا أن يساعدهُ على النوم!
وأترجمُ في السطور التالية بعضَ العبارات التي تشيرُ إلى ما أقول مبتدِءًا من كلمات كارل فيستفال Carl Westphal وهوَ الألمانيُّ الذي يعتبرونهُ أول من قدمَ وصفًا علميًّا شاملاً لمرض الوسواس القهري عام 1877: "ليسَ هناكَ علاجٌ للوسواس القهري وما أحذرُ منهُ هوَ إدخالُ المريض إلى المستشفى فليسَ لدينا ما نقدمهُ لهُ، لكننا يجبُ أن نعلنَ شكرنا وامتناننا لفتراتِ خُـبُـوِّ الأعراض القهرية التي تحدثُ في بعض الأحيان لبعضِ المرضى".
وظلت الأمورُ كذلكَ إلى أن بدَأتْ حقبةُ مدرسة التحليل النفسي في تحقيق انتصارات في مجال الطب النفسي خاصةً في حالات الهستريا، وكان أصحاب هذه المدرسة متفائلينَ في بداياتهم خاصةً وأنهم قدموا تفسيرًا تحليليًّـا للوساوس والأفعال القهرية إلا أن تفاؤلهم المبدَئيَ لم يدم إلا قليلاً فقال فرويد:"إن مشكلةَ الوسواس القهري رغم متعةِ تحليلها ظلتْ مشكلةً لا تقهر"، وفي طبعة1960من كتاب ماير جروس "الطب النفسي السريري "وهوَ واحدٌ من المراجع الكلاسيكية للطب النفسي الغربي: "وفي أولئك المرضى الذينَ تسير علتهم مسارًا لا يحيدُ تكونُ النظرةَ المستقبليةَ في أحسنِ الأحوال البقاءَ في الوضع الراهن Statu Quo وإن كانَ المسارُ الأغلبُ هو الانحدار التدريجي البطيء" وفي الطبعة الأخيرة من كتاب أستاذيِّ الطب النفسي المصريين"عمر شاهين –رحمه الله- ويحي الرخاوي " ألف باء الطب النفسيA.B.C of Psychiatry " يقول الكاتبان: " عصابُ الوسواس القهري في شكله الخالص مقاوم جدًّا للعلاج وتشملُ وسائلُ العلاج المادية:
-1- العلاج باستخدام الكهرباء: وتكونُ الاستجابةُ جيدةً إذا كانَت الحالةُ مصحوبةً باكتئاب.
-2- المطمئنات: ربما تخفف من الضغط النفسيِّ الذي يعاني منهُ المريضُ وذلك رغم بقاء الفكرة التسلطية دونَ تغيير.
-3- الجراحةُ النفسية: ربما كانت الملجَأ الأخير للطبيب والمريض وهيَ تخففُ من الضغط النفسي المصاحب للفكرة التسلطية لكنها لا تزيلها."
وأما عن وسائل العلاج النفسي فيقولُ المؤلفان: وربما نفعت بعضُ أنواع العلاج النفسي الطويلة كالتحليل النفسي في علاج بعض الحالات، وربما كانَ الجمعُ بين العلاج النفسي المساعد وبعضُ وسائل العلاج المادي هوَ الأفضل. وبعد ذلك يضيفان: وقد قمنا بتجربة استخدام مضادات الأستيل كولين "المستخدمة في علاج الشلل الرعَّـاش" بجرعاتٍ عالية في بعض المرضى ولاحظنا بعضَ التحسن وإن كانَت الملاحظةُ تحتاج إلى مزيدٍ من الدراسة"
وفي الطبعة الثانية من كتاب أكسفورد الطي النفسي السريري الصادرةِ سنة 1989 يحذرنا المؤلفون من التأثر بمدى ما يبدو على المريض من كرب نفسي ومن ألم عصيبٍ لأن ذلك قد يسببُ إسراف الطبيب النفسيّ في كتابة المهدئات والتي لا تعتبرُ علاجًا، ثم ينصحُ الكُـتَّـابُ الطبيب النفسي بأن يبحثَ عن علامات الاكتئاب لأن الاكتئاب اضطرابٌ لهُ علاجٌ عادةً ما يفيدُ المريض وربما يحسنُ من حالته العامة ويُـسَرِّي المؤلفون عن الطبيب أو المريض لا أدري بتذكيره بأنَّ هناكَ فتراتٍ من خبوِّ الأعراض لابدَّ ستأتي من غير علاج وذلك حسب التاريخ الطبيعي لاضطراب الوسواس القهري، وبعدَ ذلكَ يتكلمون عن وسائل العلاج المختلفة المتاحة كما يلي:
"-1- العقَّـاقير: لا تنفعُ أدويةُ القلق إلا في تهدئة المريض بعضَ الشيءِ ولكنها يجبُ ألا تستعمل لفترات تزيد عن عدة أسابيع فإذا احتجنا علاجًا للقلق أكثرَ من ذلك فإن الأفضل هو استخدام مضادات الاكتئاب بجرعاتٍ قليلة لكي نتجنب تعود المريض على أدوية القلق وإذا كانَ هناك اكتئاب بالطبع فلابد من علاجه بمضادات الاكتئاب بجرعاتها الكاملة. ويذكر المؤلفون بعد ذلك أنَّ دراسةً مفتوحةً أجريت على أربعةٍ من مرضى اضطراب الوسواس القهري عام1975 تشيرُ إلى وجود تأثيرٍ علاجي لعقَّـار الكلوميبرامين وهوَ أحدُ مضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقات على الأفكار التسلطية ولكنَّهم يذكرون أيضًا أن دراسةً أخري تحتوى على عينةٍ ضابطةٍ من مرضى اضطراب الوسواس القهري الغير مصحوب بأعراض اكتئاب جرت عام 1980 ونتائجها لا تدعمُ نتائجَ الدراسة الأولى.
-2- العلاج السلوكي: تتحسنُ الطقوس القهرية عادةً باستخدام طريقة منع الاستجابة السلوكية مع تعريض المريض للمشعرات Cues أو المثيرات البيئية التي تثيرُ فيه الرغبة لأداء طقوسه القهرية، ويُتوقعُ تحسنُ حوالي ثُلُثَيِّ المرضى من أصحاب الطقوس القهرية متوسطة الشدة حيثُ تتحسنُ أعراضهم إلى حد كبيرٍ وإن لم تختفِ الأعراض تمام الاختفاء وعادةً ما تخفُّ الأفكارُ التسلطيةُ المصاحبةُ للأفعال القهرية في هذه الحالات، لكن العلاج السلوكي أقل نجاحًا في حالة وجود أفكار تسلطية دونَ أفعالٍ قهرية وطريقةُ وقفِ الأفكار باستخدام التشتيت بمنبهٍ قوي" كأنْ يشدَّ المريضُ حلقةً مطاطية يلبسها في معصمه بشدةٍ عندما تهاجمه الفكرة التسلطية بحيثُ تسببُ له بعضَ الألم في معصمه فتلهيه عن الفكرة "وهذه الطريقةُ لم تثبتْ نجاحًا كبيرًا.
-3- العلاج النفسي: من الممكن أن يفيدَ العلاجُ النفسي المساعدُ ومقابلةُ أسرَةِ المريض في طمأنة الأسرة وتعريفهم بطبيعة الاضطراب وإعطائهم الأمل من خلال تعريفهم بمسار المرض المتميز بفترات خُبُوٍّ واتِّـقـادٍ بمرور الوقتِ، وينصح المؤلفون بعد ذلك بعدم استخدام طرق العلاج النفسي العميق التي تبحثُ في لا وعي المريض لأن ذلك النوع من العلاج غالبًـا ما يجعلُ المريضَ أسوأَ لأنهُ يقدمُ لهُ مادةً غنيةً لاجترار الأفكار الوسواسية.
-4- الجراحة النفسية Psychosurgery : وهذه الطريقةُ تعطي نتيجةً ملحوظةً من حيثُ تقليل الضغط النفسي والكرب الذي يعانيه المريضُ خاصة في الفترة التي تلي الجراحة مباشرةً لكنَّ المآل البعيد غير معروفٍ على وجه الدقة، وينصحُ المؤلفونَ بعد ذلك بعدم اللجوء للجراحة النفسية قبل عامٍ على الأقل من استخدام العلاج بكل الوسائل المتاحة دونَ نتيجة، وينصحون بتطبيق برنامج علاج سلوكي مكثف بعد الجراحة مباشرةً."
ونستطيعُ أن نستنتجَ مما سبقَ أنهُ حتى أواخر الثمانينات من القرن العشرين لم يكنْ هناكَ غيرُ أملٍ ضعيفٍ في علاج اضطراب الوسواس القهري، بل إن الإحباطَ الذي اعتاد الرعيلُ الأول من الأطباء النفسيين عليه مع مرضى اضطراب الوسواس القهري كانَ لا يزالُ مؤثرًا في نفوسهم لدرجةِ أنَّهم لم يكونوا مستعدينَ لقبول فكرة وجود عقَّـارٍ دوائيٍّ لاضطراب الوسواس القهري، ولم يكنْ في أيديهم إلا البحثُ عن وجود اكتئابٍ مصاحبٍ للحالة ليعالجوه، أو أن ينتظروا فترات هدوء أو خُـبُـوِّ الأعراض التي تحدثُ من تلقاءِ نفسها، وفي الوقتِ الذي كانتْ فيه المراجعُ الطبنفسية تتسمُ بالتشاؤم عندَ الكلام عن علاج الوسواس القهري كانت العديدُ من الدراسات العلمية تتم بناءً على ملاحظات الأطباء خلال عملهم فقد لوحظ منذ أواخر الستينات وبدايات السبعينات من القرن الماضي أن مرضى الوسواس القهري يتحسنون عند إعطائهم عقَّـار الكلوميبرامين Chlomipramine HCL وهوَ أحدُ مضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقات، وظنَّ معظمُ إن لم يكنْ كلُّ الأطباء النفسيين أيامها أن التحسنَ الذي يحدثُ للمرضى ليس إلا تحسُـنًـا في أعراض الاكتئاب وبدأت دراسات تجرى للفصل في هذه النقطة ودراسات أخرى تحاول توضيحَ اختصاص عقار الكلومبيرامين دون غيره من مضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقات بإحداث التحسن في المرض المستعصي آنذاك وهو الوسواس القهري، وبدأتْ الأنظارُ تتجهُ إلى الناقل العصبي السيروتونين Serotonin لأنَّ اختلاف الكلوميبراين عن غيره من مضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقات إنما هو كونهُ يزيدُ من تركيز السيروتونين في نقاط الالتقاء العصبية أكثر من كل مضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقات الأخرى.
وتوالت بعد ذلك الدراسات التي أخذت تثبتُ أنَّ للكلوميبرامين فاعلية مضادةٌ للوسوسة إضافة إلى فاعليته كمضادٍ للاكتئاب، وأنه يعالجُ الوسواس القهريَ بغض النظر عن وجود الاكتئاب وأنهُ لا تعارضَ بينَ استخدامه واستخدام العلاج السلوكي أي أنهُ يمكنُ أن يستعملهُ المريضُ أثناء برنامج العلاج السلوكي وهذه نقطةٌ هامةٌ لأن بعضَ الأدوية من مجموعة الببنزوديازيبين Benzodiazepines التي تستخدمُ في علاج اضطرابات القلق يمكنُ أن تتعارضَ مع تطبيق أساليب العلاج السلوكي لأنها تزيلُ الشعور بالقلق تمامًا، وهذا ما يفقدُ العلاجَ السلوكي جزءًا مهما من فاعليته التي تعتمدُ على معايشة المريض لإحساس بالقلق يتزايدُ في البداية ثم يبدأُ في التناقص تدريجيا مع استمرار المريض على منع نفسه من الاستجابة القهرية كما سنبينُ فيما بعد.
وكانتْ طرقُ العلاج السلوكي المختلفة تتطورُ يومًـا بعد يوم وإن كانَ أكثرها فائدةً هو تلك الطرقُ التي تستخدم في علاج الأفعال القهرية كالتعرض المباشر مع منع الاستجابة القهرية حيثُ أظهرت الدراساتُ على الكلوميبرامين أن تأثيره يفيدُ في تقليل الأفكار التسلطية أكثرَ من تأثيره على الأفعال القهرية، وهكذا أصبحَ العلاجُ الدوائيُّ المتاحُ أيامها هو الخيارُ المفيدُ في علاج الأفكار التسلطية بينما العلاج السلوكي هو الخيارُ المفيدُ في علاج الأفعال القهرية.
ولما كانَ عقار الكلوميبرامين متاحًـا في البلدان الأوروبية ومعظم دول العالم الثالث لكنهُ لم يكن موجودًا في أمريكا لأنَّ الشركة المنتجة لهُ شركة أوربية وأمريكا طبعا لا تستورد الدواء ولا حتى من أوروبا فلم تكن هناك دراساتٌ أمريكية على عقار الكلوميبرامين، وقد بدأ العديدُ من شركات الدواء في أمريكا وغيرها التحرك من نقطة أن سبب تأثير الكلوميبرامين دون غيره من مضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقات على اضطراب الوسواس القهري هوَ تأثيرهُ على مادة السيروتونين وبدأ البحث المعملي عن أدوية تعملُ اختياريًّا على السيروتونين دونَ غيره من الناقلات العصبية وبالفعل تم طرح العديد منها في الأسواق في أمريكا وفي أوروبا وفي العالم العربي وأثبتت الأدوية التي تزيد من تركيز السيروتونين في نقاط التشابك العصبي أنها بالفعل مضادة للوسوسة، بل وأصبح اضطراب الوسواس القهري منْ أسهل الأمراض النفسية في علاجه! أي أن المفهوم القديم انقلبَ رأسًا على عقب!، وأصبحت الأدويةُ الآنَ تقللُ أعراضَ الوسواس القهري في نسبةٍ تصلُ إلى ما بينَ الخمسينَ والثمانين بالمائة من مرضى الوسواس الذي لم يكن لهُ علاج، لكنَّ من المهم أيضًا أن ننتبهَ إلى أن عشرين بالمائة على الأقل من المرضى لا يستفيدونَ من العقار الدوائي، وفي الحالات التي تتحسن بالعقاقير وحدها يبقى التحسن مرهونا بالاستمرار على العقاقير أو فإن الانتكاس يحدث فيما بين خمسين وتسعين بالمائة من الحالات.
واقرأ أيضًا:
هل الوسواس القهري نوعٌ من الجنون/ بين الوسواس القهري والفصام: نسخة مجانين!/ بين الوسواس القهري والفصام/ التخزين المرضي: وسواس أم فصام؟